شرَ الصحافي "آدم جوبنيك" مقالاً معنوناً بعبارة "لماذا نحب ألبير كامو؟"، يتناول فيه مواصفات فكرية لشخصية صاحب "العادلون"، لافتاً، في السياق ذاته، إلى ما كان يتمتع به من حسن الهندام والوسامة على مستوى المظهر والشكل؛ إذ قارنهُ الجمهور الأمريكي بنجوم السينما، ويبدو أنَّ هذه الحفاوة التي قد حظي بها لدى المتابعين في أمريكا قد أعجبته، لذلك يكتب لناشره في فرنسا مازحاً: "أنت تعرفُ أنَّه يمكنني الحصول على عقد فيلم متى أردت". فكان يتحلى بما يكسبهُ شهرة بطريقة مباشرة.
غير أنَّه اختار طريق الفكر، مُنخرطاً في مهمة صياغة مقولاته الفلسفية بناءً على التعمق والمُعاينة لتاريخ الفكر الإغريقي، والانفتاح على الفلاسفة المحدثين، فما يقدمه كامو في "الإنسان المتمرد" و"أسطورة سيزيف" يؤكدُ تمكنهُ ودرايته بمنظومات معرفية، وأبدى كامو تفوقاً وتميزاً في سنوات الدراسة، وحصلَ على منحة دراسية كاملة في مدرسة عليا رفيعة المستوى تقعُ في مدينة الجزائر العاصمة، وبذلك أتيحت له فرصة استكمال نوع من التعليم لم تكن أسرته بقادرة على تحمل نفقاته.
ألبير كامو.. المتمرد
هذه المرحلة التي أمضاها ألبير كامو في الجزائر قد تغلغلَ أثرها في مسامات وجدانه، وهو يعترفُ بأنَّه بفضل نشأته في هذه البقعة من العالم أصبح يدركُ قيمة ذلك الصيف الذي يسكنهُ في الداخل ولا يبهت.
يذكر أنَّ بيئة الطفولة كانت عاملاً لوعي كامو المبكر بمعنى الحرية؛ "الحق أنني لم أَتعلَّم الحرية من كتب كارل ماركس، لقد تعلمتها من الفقر". على الرغم من الظروف القاسية التي عاشها مؤلف "الغريب"، لكن لم يعدم الطريق لتذوق المرحِ؛ فقد كان لاعباً في فريق كرة القدم بجامعة الجزائر.
كان كامو يحرس مرمى فريق كرة القدم في جامعة الجزائر، وقد اعتاد أن يحرس المرمى منذ طفولته؛ لأن المرمى هو المكان الأقل استهلاكاً للحذاء، فهو المنحدر من العائلة الفقيرة، وكانت جدته تلاحقه وتفحص حذاءه على الدوام، للتأكد من سلامته!
يعلّق كامو على ممارسته حراسة المرمى: "تعلّمت أن الكرة لا تأتي مطلقاً نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها. وقد ساعدني ذلك كثيراً في الحياة، خصوصاً في المدن الكبيرة، حيث الناس عادة لا يكونون مستقيمين!".
وتعلم كذلك أن يكسب دون أن يشعر بأنه إله، وأن يخسر دون أن يشعر أنه قمامة، وهذه حكمة شاقة. كما تعلم بعض أسرار الروح البشرية، وعرف كيف يدخل في متاهاتها، في رحلات خطرة على امتداد كتبه.
وعندما منعتهُ الإصابة بمرض السل من الاستمرار في هذا المضمار؛ انصرف إلى تأسيس المسرح، فقد صرَّح بأن المسرح هو أحد الأماكن التي يشعر فيها بالسعادة.
لا تنتهي اهتمامات كامو عند حدود الرياضة والتأليف والتفلسف والمسرح، بل باشر العمل الحزبي، وانضمَّ إلى الحزب الشيوعي الجزائري، غير أنَّه ما لبث طويلاً حتى طُرِدَ، وتكرر السيناريو ذاته في علاقته مع الحزب الشيوعي الفرنسي؛ علقَ على هذا الموقف قائلاً: "أنا منبوذ من السياسة؛ لأنني غير قادر على الرغبة أو قبول موت الخصم". يمثل كامو بمواقفه صورة المتمرد على الوصايا وأيديولوجيات الخلاص، رافضاً التضحية بالحياة من أجل المفاهيم المجردة.
فاليأس من الحياة في فلسفة كامو هو معادل للحب وليس الهروب منها؛ "لا يوجدُ حب للحياة من دون اليأس من الحياة"، وما يزيدُ من خصوصية كامو هو محاولاته الدؤوبة للتفلت من قيد الألقاب والتسميات الفخمة؛ فهو لا يعتبرُ نفسه فيلسوفاً، ولا يرتاحُ بالانضمام إلى معشر المثقفين.
وكان همه الأكبر هو البحث عن المعنى؛ يقول، على لسان إحدى شخصيات مسرحية (كاليغولا): "إنَّ فقدان الحياة شيء بسيط، وسأجد هذه الشجاعة عند اللزوم، ولكن أن نرى معنى هذه الحياة يتبددُ، وسبب وجودنا يختفي؛ فهذا ما لا يمكن احتماله!".
وبما أنَّ حياة الإنسان تسبقُ المبادئ الفلسفية والأيديولوجية من حيث القيمة والأهمية بالنسبة لكامو، فهو لا يستسيغُ إنشاء جنة تكونُ من نصيب أقلية أو جيل أو طبقة فحسب، والبقية راسفةُ في موقع الضحية: "السعادة هي الروح العظيمة؛ فهي لا تسحق الآخرين من أجل أن تعيش".
قولٌ على قول
أعلن كامو أنَّه لا يؤمن بالعقل بما يكفي ليؤمن بالنظام؛ لذلك ما أنجزه صاحب "الطاعون" لا ينزلُ في خانة المنظومات الفلسفية. إنَّ مسلك كامو في التفلسف أقرب لنيتشه، غير أنَّ كامو، بدلاً من صياغة الشذرات المستقلة والفصوص المعبرة عن التأمل، قد بثَّ مقولاته الفلسفية في طياتِ أعماله الروائية ومقالاته، هذا ناهيك عن النبرة الفلسفية الغالبة على خطاباته التي ألقاها في مناسبات متعددة.
ونحن بصدد متابعة التشكيلة الفلسفية لكامو، فمن الأجدر بنا أن نفتحَ القوس على ما تقولهُ الأكاديمية والروائية اللبنانية، ناتالي الخوري غريب، عن أقوال ألبير كامو؛ إذ تناقش كلامه بشأن الانتحار بوصفه مشكلة فلسفية وحيدة، مبدية موافقتها لما يقوله مشيل أونفري عن كامو بأنَّه "أقرب إلى طبيب للحضارة، وكائن قادر على تشخيص العدمية ومعالجتها. وفقاً لكامو ينتحر الناس لأنهم يحكمون على الحياة أنها لا تستحق العيش".
وهذا لا يعني أن اكتشاف العبث يؤدي إلى السعادة، بل الاعتراف بالعبث هو قبول لهشاشة الإنسان والوعي بحدودنا، وحقيقة أننا لا نستطيع أن نأمل بتجاوز ما هو ممكن، لتغدو الخلاصة هنا، قبول الإنسان بهشاشته والوعي بحدوده، هو ما يجعله سعيداً، أو على الأقل يجعله قادراً على الحصول على نصيبه من السعادة إذا عرف كيف يسعى إليها وأين، فأفراح سيزيف كامنة فيه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.