"شاطئ النعال" صورة هزت العالم لمّا التقطها مصور مغمور بأحد الشواطئ المجهولة، مخلداً بقايا الأحذية والصنادل التي وصلت إلى الضفة الأخرى من أوروبا، أو تعثرت في الشطآن الجنوبية قبل رحلة العبور القاتلة، وفي كلتا الحالتين خذلت تلك النعال أصحابها الحالمين، تاركةً أبدان هؤلاء "المهاجرين السريين" عبر التوابيت العائمة، فرائس للملح والحيتان، أو تصدقت ببعض أشلائها ولائم للقروش، فيما علقت أجزاء من بقايا البقايا، صيداً، في شباك بحارة لامبيدوزا ولينوزا وقرقنة وسيدي سالم وجرجيس.
لم يكن الفنان العالمي الجزائري رشيد قريشي، الذي نثر سحره الإبداعي في قاعات عروض عالمية كبرى بين باريس ولندن ونيويورك، يصدق حين اتصلت به ابنته عائشة ذات يوم من أيام عام 2018 عبر الهاتف قائلة:
– ألا تشاهد التلفزيون؟ ثمة مئات من جثث "الحرّاقة" لفظتها التيارات البحرية حتى إنها أضحت تُحمل في شاحنات القمامة، وترمى في مكبات النفاية بمدينة جرجيس جنوب شرقي تونس.
لم يتمالك نفسه إزاء الخبر الصاعقة الذي ربما كان حرَّك فيه مواجع صورة "شاطئ النعال" ذاك، لكنه حتماً نكأ فيه جرحاً قديماً لم يبرأ منه بعد: لقد فقد هو الآخر وقبل سنوات طويلة شقيقاً له غرقاً في البحر.
راح الرجل يعاين القنوات التلفزيونية، ثم يجلس صامتاً في حالة ذهول، كأنه يستحضر كلمات أغنية "بحر الطوفان" التي نعاها الفنان الجزائري محمد الباجي لصديقه البحار الذي ابتلعه الموج في رحلة صيد:
من السفينة بقاو غير شي لوحات
مرفوعين فوق الموجات
ثمة عرفت حبيبي مات
ارحموا يا رحمــان
يا بحر الطـوفان
ثم إن هذا المتصوف الذي جاب عواصم العالم والقارات الخمس، حاملاً معه فنه، كان يراكم لحسن حظ الموتى تجربة كبيرة في إنشاء المقابر حتى إنه كان يردد جملة ذات دلالة، لا بل دلالات:
"وككل مرة ها أنذا أجد نفسي متحولاً من فنان إلى حفار قبور".
وعلى هذا النحو، سيقرر أمراً جللاً وهو يطير رفقة ابنته من باريس إلى العاصمة تونس للقاء صديقه الدكتور سليم منجي رئيس الهلال الأحمر التونسي.
كان رشيد يحمل في جعبته مشروعاً لم تخطر فكرته على بال أحد. فاجأ الجميع وهو يعقد العزم على أن ينجز لـ"الحرّاقة" المجهولين، مسلمين ومسيحيين، مقبرة متعددة الأديان على شكل حديقة للأموات، تماماً مثل النصب المخلدة للجنود المجهولين، مردداً عبارة صوفية وإنسانية عظيمة: "إن الشعوب التي لا تقدس موتاها لا يمكن أن تقدس أحياءها".
ترى من يكون فارس الأنوار هذا؟
1/ تأثر برسومات الطاسيلي وزامل الشاعر العظيم محمود درويش
وُلد رشيد قريشي عام 1947، في مدينة عين البيضاء بمحافظة ورقلة جنوب شرقي الجزائر، وقد أظهر منذ الصغر نبوغاً فنياً وصفاءً روحياً، ورثه من أصوله العائلية التي تنتمي كما هو إلى الطريقة "التيجانية"، وهي أكبر الطوائف الصوفية في العالم الإسلامي، بما يقارب 300 مليون منتسب، بينهم رؤساء عدة دول إفريقية كالسنغال وموريتانيا وتشاد.
تأسست هذه الطريقة التي يديرها "خليفة" في مدينة عين ماضي بالأغواط الجزائرية، على يد أبي العباس أحمد التيجاني المولود بها في العام 1737، قبل أن يتوفى ويدفن في مدينة فاس المغربية سنة 1815.
طور الشاب رشيد ميولاً فطرية وروحية عميقة مع فن الزخرفة والنحت والتشكيل بشتى أنواعه، مع إضفائه مسحة "حروفية" تعتمد الخط العربي مهمازاً للتزيين، متأثراً حسب شهاداته بالرسوم الحجرية المطمورة بمدينة سيفار المختفية بين صخور ورمال الطاسيلي بأقصى الجنوب الجزائري، حيث تنام هناك وفي أكبر متحف طبيعي حجري في العالم 15.000 نقيشة ملونة، بينها صور لكائنات فضائية، يناهز عمرها عمر حضارة راقية وبائدة وُلدت ومكثت بين كهوفها وعواميدها منذ 10.000 سنة.
يعرّف أفكاره الفنية بأنها استلهام عميق، وبأن ما ينسجه المبدع بأنامله ليس غير فيض ينبع من الروح ليتجسد في خلق بشري يحاكي الخلق الأعظم دون أن يضاهيه، فاستوجب منه ذلك الاعتناقُ الفطريُّ الانتماءَ إلى مدرسة الفنون الجميلة بالجزائر العاصمة، قبل أن يغادرها عام 1970، ملتحقاً بالمدرسة الوطنية العليا للفن والتصميم بباريس، ليتخصص في مجالات قريبة من الرسم والزخرفة والخط العربي "الكاليغرافيا"، محاولاً الدمج بينها وبين عوالم الشعر، حيث رافق الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، في رسم نصوص شعرية بكتاب "أمة في المنفى"، كما اهتم بعوالم الروحانية الصوفية من خلال تشكيل لوحات زخرفية منمقة بالألوان والرموز والكتابة الفنية، فلخَّص سِير أقطاب الصوفية، من جلال الدين الرومي والحلاج وابن عربي، إلى أحمد التيجاني ورابعة العدوية، ثم عطاء الله السكندري والأمير عبد القادر الجزائري، ضمن سلسلة أنجزها في مؤلف حمل مسمى "الأسياد المخفيون".
2/ كلب متبوّل وراء إنجاز حديقة صانت حرمة سلالة الأمير عبد القادر بأومبواز
لا يرتبط الفن الخالد مع الإيمان العميق مثلما يرتبط في أعمال هذا الفنان العظيم والمتفرد الذي تزدحم سيرته المهنية بأكثر من 200 عرض شخصي وجماعي في عواصم العالم، بين باريس وبرلين وأمستردام والجزائر وتونس ومصر والأردن وبريطانيا وبولندا والمغرب والولايات المتحدة الأمريكية، بينها عدة عروض في أرقى ديار الصنعة، على غرار المتحف البريطاني وغاليري أكتوبر وغاليري فيكتوريا ببريطانيا، وقاعات إيكون ينيويويرك وميشيغان بالولايات المتحدة الأمريكية، وفي معارض مدريد وبرشلونة، فنال إزاء ذلك عدة جوائز وإشادات عالمية لافتة.
لرشيد قريشي المنتمي فنياً إلى المدرسة الحروفية الجزائرية ومدرسة "الرمز" حسب تعبير الشاعر الكبير جان سيناك الذي أطلق عليها هذا المصطلح منذ بداية السبعينيات، قصة عجيبة مع الأموات كأنما ظل القدر يقوده دوماً وأبداً ليكون منظفاً للحياة من خطايا بقايا البشرية في حق الأموات، ففي العام 2005 قرر أن ينشئ مقبرة سماها حديقة الشرق، في المكان الذي ترك فيه الأمير عبد القادر الجزائري أجداث أقاربه في مدينة أومبواز، تلك المدينة التي عاش بها أسيراً منذ 1848 قبل أن يسمح له نابليون الثالث بالرحيل إلى دمشق عام 1852، وقد رحل مخلفاً قبوراً تحوي رفات وعظام 25 فرداً من عائلته.
لقد هاله منظر كلاب تتبول بها فقرر أن يعيد للمكان كرامة تليق بمتوسدي الثرى، وهكذا أفلح في أن ينجز مقبرة تشبه جنة مخضرة، بشواهد خزفية مزدانة بالحروف العربية الجميلة، تزقزق فيها الطيور على الدوام وتظللها الأشجار الوارفة، دون أن يتبادر إليه أن حدائق الشرق تلك ستصير محجاً لأتباع ومريدي الطوائف الصوفية؛ للترحم على بذار السلالة التي تركها الأمير المتصوف وراءه قبل أن يكتب ملحمة إنسانية قل نظيرها بدمشق لمّا حمى المسيحيين من مجازر كاد يرتكبها مسلمون في غضون فتنة داخلية أوشكت أن تمحو أثرهم من بلاد الشام عام 1860.
3/ أودري أزولاي رئيسة اليونسكو تدشن حديقة الأموات بجرجيس
في شهر ديسمبر الأسود الممتلئ بروائح الجثث والجثامين الطافية فوق الماء والجانحة على الرمال، كان رشيد يتجول رفقة ابنته وصديقه سليم منجي بشواطئ بلدة جرجيس، وقد هاله أن يرى تلك الجثث البشرية المكدسة في مكبات الزبالة مثل التلال اللحمية، بعد أن جرفتها التيارات كما الزبد البشري، كان منظراً سريالياً رهيباً عندما علم أن مئات الجثث كانت تكوَّم في الزبالة قبل دقنها بمقابر جماعية منذ عام 2003، ثم تفاقم عددها منذ العام 2011، تاريخ بروز الفوضى البشرية الناجمة عن أحداث الربيع العربي في تونس وليبيا، وقد خلّف بركان الثورة المتدفق حمماً بشرية هائلة متقاطرة على السواحل الإيطالية، ففي غضون أشهر فقط وصل إليها أزيد من 5000 عابر في قوارب الموت، فيما ابتلع البحر المتوسط المئات، ولسوف يشاهد بأُم عينيه جرذاناً وكلاباً تلغو فوق تلك الجثث، وزهاء 1000 جثة مدفونة في مقبرة جماعية، مجاورة تحمل اسم "المهاجرين الغرباء"، ولا تزدان شواخصها بأسماء بل بأرقام بلا معنى وصفات بلا موصوف، مثل "صاحب السترة الزرقاء"، أو "نزيل فندق الفصول الأربعة".
سوف يهزه المشهد العبثي من الأعماق، مقرراً في لفتة إنسانية نادرة أن يمنح لهؤلاء جزءاً من الجنة التي كانوا يحلمون بتحقيقها في أوروبا عبر مقبرة تضم رفاتهم في أرض إفريقيا، فكانت مقبرة: حديقة إفريقيا.
اشترى رشيد قطعة أرض بجوار تلك المزبلة العمومية، ثم شرع في تهيئتها في قالب شرقي بديع، وتصميمها بشكل يليق ببني البشر، ولم يمض غير العام حتى كانت السيدة أودري أزولاي، مديرة منظمة اليونسكو، تقف ذاهلة وهي تعاين يوم 9 يونيو/حزيران 2021، جبانة تحمل اسم "الحديقة الإفريقية"، في السنة ذاتها التي هلك فيها أزيد من 500 شاب غرقاً بالبحر بحثاً عن مرافئ الأحلام الجديدة.
4/ أشجار زيتون بعدد أركان الإسلام وكروم بعدد حواري المسيح
بصم الرجل على ما سماه الجنة بمعمار إسلامي عربي خالص، ببوابة تونسية عريقة تقود للقرن السابع عشر، ذات مدخل واطئ قليلاً؛ حتى يحني كل زائر لها هامته احتراماً لهم، ثم مد الأرضية ببلاطات مزخرفة تشبه السجاد أو بساط الشرف كما لو أنها مسجد للصلاة، والتي تنفتح على مئتي قبر أبيض مكفن بالجير الناصع، يحوي رفات وعظام مهاجرين مسلمين ومسيحيين.
وفي بطن كل قبر أنجز مشرباً لسقي العصافير والطيور من مياه الأمطار المتراكمة، ثم غرس على اليمين خمس شجرات زيتون بعدد أركان الإسلام، وإلى اليسار اثتني عشرة كَرمة بعدد حواريي المسيح عليه السلام، وبين الجنبات أشجار للمسك ومسك الليل والفل وأشجار برتقال، كل ذلك ليشتم الراقدون في سلام وطمأنينة، الروائح الزكية في الليل كما في النهار، وقد وجهت رؤوسهم صوب الشرق نحو الكعبة، مقابلين قاعة صلاة بيضاء ذات قبة تعلوها ثلاث كريات متراصة تمثل الديانات السماوية الثلاث، يهودية ومسيحية وإسلامية، تنتهي بهلال مفتوح صوب السماء كأنما يشرع أكفَّه داعياً بالرحمة لجميع الخلائق.
وقبور كثيرة لا تحمل أسماء بل صفات ورموز الحمض النووي خاصةً كل جثة، أنجزت في مستشفى قابس؛ كي يتسنى للأهالي الراغبين استرجاعها ودفنها في مواطنها الأصلية، غير أن كثيرين ممن تعرفوا على أبنائهم سيفضّلون- وهم مأخوذون بسحر هذه المقبرة- تركهم هنا. هكذا قال له رجل ليبي عندما وقف على قبر ابنه: "لقد هجر ليبيا فمن الأجدى له أن يبقى مدفوناً هنا"، وتضيف أخرى: "لا يمكن أن أسترجع ابني ليس لهذه المقبرة البديعة مثيل في بلدنا".
في تلك السنة فاز رشيد قريشي بجائزة عالمية هي جائزة محمود درويش للإبداع لسنة 2021؛ إلى جانب الباحث والمؤرخ الفرنسي هنري لورانس، والمخرج السينمائي الفلسطيني محمد بكري. وكرَّمته اللجنة المانحة بمقولة "اختيار الفنان التشكيلي الجزائري العالمي رشيد قريشي نابع من عمله الجبار في استعادة كل ما هو إنساني من خلال الفن والتشكيل واللون"، كما فاز بجائزة السلام الدولية التي يمنحها اليونسكو.
أما هو سليل المدرسة الروحية العميقة فكان مغتبطاً، لأنه أنشأ فوق تلك المزبلة مقبرة، وجعل تلك المقبرة حديقة تبجّل الأموات في المثوى الأخير، وهو الذي لطالما كان يردد:
"الشعوب التي لا تحترم أمواتها، لا تحترم أحياءها".
والآن تخيَّل معي الآن هذا المشهد الظالم والمفارق، إذ مع احتفاء كبريات الجرائد والمجلات والقنوات التلفزيونية العالمية بالمُنجَز الفني والإنساني للرجل، لا يكاد هذا المبدع يُذكر في الإعلام الجزائري والإسلامي والعربي، لا بل إن كثيرين قد يعرفون اللاعب نور الدين قريشي ويجهلون هذه الأيقونة الحية، كما لو أنه غير موجود، ولم يولد ولم يكن قط!
ولا غرو فثمة مقولة قاصمة للفنان الجزائري العالمي محمد إسياخم، ذلك الرسام الأكتع، مبتور الذراع اليسرى جراء انفجار لغم قديم من بقايا الحرب الكونية الثانية:
"إن بلداً دون فنانين لَهو بلد ميت، أتمنى أن نكون أحياء"
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.