سأبقى هنا للأبد أو سأخرج ميتاً ملفوفاً في بطانية! عن قسوة اللحظات الأولى في السجن

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/26 الساعة 11:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/26 الساعة 11:13 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية لأحد السجونL Istock

يعيش السجين في حالة من الصراع الداخلي الذي يُسيطر عليه منذ أولى خطواته في تيه السجن، بدءاً من الاختفاء القسري والتعرُض للتعذيب الجسدي والنفسي المُمنهج، مُروراً بالترحيل إلى أحَد السجون، وبدأ مُحاولاته للتكيُّف مع وضعه كسجين غير قادر على الحركة إلا بأمر، وغير قادر على رؤية ومُقابلة أسرته إلا بإذن لدقائق معدودة ولفتراتٍ مُتباعدة، وعليه أن يتذوق مُعاناة أن يتعايش قسرياً مع فئات أخرى مُختلفة في الثقافة والعادات، أو أن يتذوق مُعاناة الوحدة والعُزلة القاتلة في الحبس الانفرادي.

 "لقد كنت على يقين أنني لن أجتاز هذه المحنة، ولن أقوى على احتمالها، ولن أعيش بعدها" – رواية ذكريات من منزل الأموات لـ"دوستويفسكي". صور دوستويفسكي في هذه المقولة أحَد أشكال الصراع الداخلي للسَجين، وهو قُدرته على اجتياز هذه المحنة، وهي أولى الصراعات التي تُسيطر على عقل السجين والذي يكون في حالة إنكار لهذا الواقع في البداية، ويظن أنه بداخل حلم ما سيستفيق منه ليجد حياته التي يشتاق إليها، فيحول عقله حقيقة وجوده في زنزانته إلى وجوده داخل منزله، ووجوده مع زملائه السُّجناء إلى وجوده بجانب أسرته، فيستمر السجين في هذه الحالة لفترة طويلة حتى يُدرك الواقع الذي أصبح يعيش داخله، ومن ثم تتملَّكه حالة قُدرته على اجتياز هذا الواقع المؤلم بكل مُعاناته أو الرضوخ والاستسلام وعدم القُدرة على البقاء. في بعض الأحيان يعيش السجين أسيراً لحالة إنكار واقِعه لتجنُّب الحقيقة غير المريحة من الناحية النفسية له، ورفضه الإقرار بأن حدثاً ما قد حصل بالفعل، ومن ثم يتعرَّض للانتكاس حين يُدرك وجوده كسجين، فإما أن يتكيَّف ويتعايش، أو يصبح غير قادر على مُعايشة واقِعه، فيعيش داخل قوقعة، أسيراً لأسوار عقله وأسوار سجنه.

كنت في حالة من الصراع الداخلي منذ اللحظات الأولى لاعتقالي المُتمثلة في قدرتي على البقاء أو الانتكاس ونتائجه المُحتملة، التي كانت تُسيطر عليَّ. كان عقلي يطرح سؤالاً "هل بإمكاني البقاء حيّاً حتى تنجلي الظُّلمة ويُفتَح باب الخروج؟ أم سألبث في هذه المقبرة وأخرج منها ملفوفاً في بطانية ميري؟ كما قال لي أحد رؤساء المباحث أثناء تهديده لي بالخضوع لنير مملكته؟". لم يكن عقلي يهدأ أبداً، فكان صراعي الداخلي حول البقاء هو أسمى انتصار، أن أخرج حيّاً حامياً جسدي وعقلي من المحاولات المُستميتة لإخضاعهما. كنت أدافع دائماً عن عقلي حتى لا أفقده، وكنت أحاول الحفاظ على جسدي حتى تأتي اللحظة التي يُفتح فيها الباب، فأسير على قدميَّ وليس عُكازي.

"في السجن الصحراوي، سيتساوى لديك الموت والحياة، وفي لحظات يصبح الموت أمنية" – رواية القوقعة لمصطفى خليفة. نعم في أحيان يُصبح الموت أمنية!… هذه الأمنية هي نتاج لوضع قهري مجنون لا يُحتمَل، يُدفع إليها السجين دفعاً حتى يحققها.

كان عقلي أيضاً يخشى فقدان أحد أحبائي، كنت أخشى فقدان والدتي، كنت أرتعد من مجرد التفكير في حدوث ذلك، فهي كلُّ ما لي. كنت أدعو ألا أعيش هذه اللحظات في السجن الصحراوي، بعيداً مئات الكيلومترات عنها. كنت أتمنى في هذه اللحظات الموت على أن أشعر بالمُعاناة من فقدانها. فالسجين دون والدته أو أخته أو حبيبته أو زوجته لا شيء.

كنت في حالة من الصراع الداخلي ما بين رفض السجّان والصراع معه، أو التعايش مع حقيقة وجوده وسلطته وسطوته. أليس السجّان هو من قام باعتقالي وتعذيبي ومُصادرة حُريتي لبضع سنين؟… أليس السجّان هو من يملك السلطة؟ كنت أحاول الوصول لنتيجة تُرضي هذا الصراع داخل عقلي، فكنت أتلصص وأقوم برسم خريطة ذهنية عن تفاوت السلطة والقوة بين السجّانين، وأختار تحسين علاقتي بسجّان ما، في مقابل صراعي مع سجّان آخر قام بإيذائي، مُعتمداً على كراهيتهم لبعضهم، فكانت هذه الخريطة في بعض الأحيان تؤتي ثمارها، وفس أحيان أخرى لا، ففس هذه الحالة قد اجتمعوا على خصومتس، وعلى أن أتحمل بطشهم.

كنت أحتقرهم وأمقتهم، وكانوا يرون ذلك في عينيّ ويبادلونني الشعور نفسه، ولكن في الوقت نفسه أتعامل معهم، فكانت علاقة تبادلية قائمة على تبادل المنفعة، فأدفع رشوة لأحدهم حتى يُسهِّل مرور كتاب لي، أو أن يتغاضى عن شيء ممنوع وجده في زنزانتي أثناء التفتيش، كقصاصات ورق مُذكّراتي، أو أن يتهاون في التفتيش علماً منه بوجود ممنوعات، مثل الهاتف المحمول، أو بعض النقود.

كان عقلي في صراع داخلي حول السجين المُرشد الذي يقوم بأذية زُملائه السُّجناء بالإرشاد عما يقولونه ويفعلونه. هل أبعده عن طريقء اتقاءً لشروره؟ أم أقوم بتدبير مكيدة له؟ اذكر سجيناً مُرشداً لضباط المباحث كان يعمل داخل السجن كهربائياً، وكان يتودد لي ويعرض عليَّ خدماته، وكان يُلحُّ، وكان لا ينفي عن نفسه تهمة الإرشاد، ولكنه كان يُبرر ذلك لي بأنه عبد المأمور، وليس باستطاعته عمل غير ذلك، وإلا سيتم تأديبه وتعذيبه وتحويل حياته الى جحيم، ولكن في الوقت نفسه يبرهن لي على أنه لا يقوم بأذية الأشخاص المُحترمين مثلي!

كنت أحتقره، وكان يعلم ذلك، وكان يعلم أننى أعلم أن هناك سُجناء لم يرضخوا لمحاولات إرغامهم على الإرشاد.

كنت دائماً في حالة من الصراع بين دافعين، صراع البقاء، ورفض الواقع من أجل مُحاولات وصولي إلى باب الخروج، وكي أصل لقرار ما، أجد كل قرار يحتمل بعض الإيجابيات والعواقب المتكافئة، وفي الوقت نفسه عليَّ أن أختار بينها. فكان قرار الإضراب في بعض الأحيان يُمثل لي صراعاً داخلياً ما بين اللجوء إليه لوقف الانتهاكات وتحسين أوضاعى، وآثاره الكارثية على صحتي، فألجأ إليه في نهاية المطاف مُتحدياً سُلطتهم ومُستمتعاً بمقاومتي لهم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

زين الناجي
ناشط سياسي مصري
تحميل المزيد