لبنان ظاهرة غريبة، اجتمعت فيها أشكال الذل الخانقة بصورة يومية، رغم اختلاف نوع هذه الصورة وجودتها، من المحروقات والمصارف، والمستشفيات، إلى الأفران، فما زالت الفوضى تعمُّ البلاد مع جمود ويأس مُحكم من اللامبالاة والاستسلام الكامل للخمول والخضوع.
حتى إن الثورة التي تغنّى بها الكثيرون وانتظروا نتائجها جاءت مع فجر العودة اللااستقرارية للبلاد وما تشهده من احكتار أسعار، وارتفاع سعر صرف العملة الأجنبية مقابل العملة الوطنية المحلية، لتصبح إن صح القول ثورة فكرية ساخرة، ثورة استهزاء بالأوضاع، مع غياب دور الدولة الكامل في إيجاد حلول، أو بالأصح التغاضي عن الحلول العلمية والعملية لقاء مصالح خاصة، وخصخصة طائفية بحتة. وهنا لا بد من ذكر هيئات المجتمع المدني التي تحاول أن تقوم برعاية اجتماعية تستهدف ما تيسر لها مساعدتهم من الأفراد، من جمعيات خيرية، ومنظمات غير حكومية داخلية كانت أو خارجية.
لكن العجيب هنا هو ردة فعل المواطنين والاستغراب من درجة اليأس، وتجاهل العارف بالأوضاع الراهنة التي تحيط بالبلاد، وغياب الوعي، والاستسلام الكامل للحالة الميؤوس منها.
فالمواطن اللبناني رغم استعيابه للحالة، والمناظرات الإعلامية التي يقوم بها، نجده في حال استقرار لردة فعل يجب القيام بها في وجه هذا العنف الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي، والصحي، المُمارس من قبل السلطة، واستسلامه الكامل للمصلحة الذاتية القائمة على احتكار السلع لرفع ثمنها، ويجول في كل مكان لإيجاد الخبز أو الدواء.
ما جعل الثورة الفكرية التي هدفها الارتقاء بالفكر والسمو بالمجتمع وتحقيق الفائدة ثورة ذاتية قائمة على استغلال الآخر، والترصد للجهل الفكري، واستئصال الهوية الوطنية، والتخلّي عن البعد الحضاري والقيمي والديني للمجتمع، كل ذلك ما هو إلاّ تأكيد للضعف وغياب القدرة على الحفاظ على البنية المجتمعية الخالصة.
وإضافة إلى ذلك فإن قيام روح إصلاحية تسعى لتقويم الواقع المعاصر، وتسهر على عملية التكييف الصحي بما يتوافق مع المتغيّرات القائمة، وبناء جسم فكر عربي يسعى لدحر التحديات الثقافية والحضارية المهددة للهوية هي مقاربة قد يستاء منها الكثير لما في مصطلح الثورة من أبعاد، لكن ثورة الفكر أصعب وأشد من ثورة الجماهير وسخطهم المادي الملموس، فالسخط هو سلوك والانتفاضة هي آلية تختارها الشعوب للتغيير، لكن ما دورها إن كانت العقليات والذهنيات ساكنة راكدة وجامدة لا حراك لها إلا للعنف والتدمير المعرفي والإنساني؟
فالتغيير الاجتماعي القائم على حضور جماهيري، دون فعل حقيقي ليس بتغيير، فالثورة اللبنانية ليست ثورة، بل هي استعراض جماهيري بحت. فأين هذه الثورة من قصة "الأرجنتين والبيض"؟!
إن هذا القهر السلطوي الذي نعاني منه أضعف بشكل أو بآخر المواطنة تجاه هذه الأرض، التي تغنى بها الشعراء وتفننوا، فأضحت البلاد اليوم عبارة عن حالة اجتماعية، مليئة بظواهر اجتماعية، نفسية، اقتصادية.
فـ"هاري إيكشتاين" عرف الثورة في مقدمته عن الحرب الداخلية بأنها "محاولات تغيير بالعنف أو التهديد باستخدامه ضد سياسات في الحكم أو ضد حكام أو ضد منظمة".
وإن العنف الاجتماعي كثيراً ما يُشير إلى كل ما يربك النظام الاجتماعي، والعلاقات القائمة بين أعضائه، فالعنف القائم اليوم هو عنف سياسي، هدفه إعمال تمزيق وشرخ، بين أفراد المجتمع، والذي أدى بدوره إلى تغيير سلوكي قائم على الإحباط والخنوع، وصولاً إلى صراع اجتماعي، ولكن مع الأسف صراع اجتماعي مُعطل، أو ربما حيادي.
وأخيراً، وليس آخراً فإن هذه النرجسية السلطوية القائمة على تعصب انفعالي، لإجبار الآخر على الخضوع والخنوع، وتقبّل إلغاء الوجود، هي ضمن إطار الهوية المفككة، المطوية، والمرتدة إلى الماضي المغلق القائم على مرحلة بدائية غير متطورة، غير حاضنة لأدنى حقوق الإنسان.
فمن أبشع الصور التي نراها اليوم غياب أدنى الحقوق التي يجب على الفرد أن يتمتع بها وهي لقمة العيش، والصحة في نفس الوقت، فطوابير اليوم هي طوابير البحث عن فتات الخبز، والاستشفاء من الأمراض الصغيرة أو الكبيرة وارتفاع سعر الأدوية غير المزمنة، وندرة المزمنة منها، ليطارد شبح الموت المواطن وعائلته في كل مرحلة يمر بها في هذا البلد. والأكثر حظاً هو من استطاع إليه سبيلاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.