إنها النسبة الأدنى من الأصوات في تاريخ تكليف أي رئيس حكومة لبنانية، فكل المؤشرات التي اختزنتها مشهدية الأمس، كرّست عملياً انعدام الثقة والتفاؤل بإحداث أي خرق إيجابي في جدار الأزمة السياسية والاقتصادية طالما بقيت المنظومة الحاكمة ممسكةً بالبلاد ومناصبها ومقدراتها، ولديها القدرة الكامنة في إدارة دفة الاستحقاقات المصيرية في لبنان لصالحها، ولتكريس قبضتها على مؤسسات الدولة، وإحباط أي مسعى إصلاحي، ولو جزئياً في البلاد.
لذا فإن السلطة استكملت مشروعها الذي بدأته بالإمساك بدفة البرلمان ولجانه، واستكملته بإعادة تكليف نجيب ميقاتي برئاسة الحكومة، في إطار الثأر الدفين مع نتائج الانتخابات البرلمانية، في محاولة للقول لكل اللبنانيين إنّ الرهان على صناديق الاقتراع رهان خاسر؛ لذا فإن السلطة استعادت رص صفوفها وسيطرت على مجلسَي النواب والوزراء وتتحضر لمعركتها المصيرية المقبلة في استحقاق رئاسة الجمهورية، مع بدء العد التنازلي لنهاية العهد العوني المترافق مع الانهيارات.
وإعادة تكليف نجيب ميقاتي الذي يدير في الوقت نفسه حكومة تصريف للأعمال، ليست سوى انطلاق نحو معركة انتخاب رئيس للبلاد في ظل التنافس المحموم بين أرهاط المنظومة؛ لذا فإن تكليف ميقاتي كان بمثابة التسليم بأن عنوان المرحلة المقبلة سيكون عنواناً رئاسياً أكثر منه حكومياً، وعلى هذا الأساس كان القرار بتكليفه إدارة المرحلة الانتقالية الفاصلة عن نهاية العهد إدراكاً من الجميع بعدم القدرة على تشكيل حكومة جديدة خلال هذه المرحلة الصعبة.
والصورة النمطية عن نجيب ميقاتي أنه يأتي رئيساً لمراحل انتقالية وأزمنة تقطيع الوقت، فالرجل أتى في المرة الأولى في زمن اغتيال رفيق الحريري وفي مرحلة تسليم بشار الأسد تركته لحزب الله قُبيل انتخابات 2005 وعاود المجيء في عهد الانقلاب على سعد الحريري، مع انطلاق صافرة الربيع العربي العام 2011، وحكومته هي من فتحت الباب حينها لتولِّي حزب الله زمام المبادرة حاكماً فعليّاً لا شريك له.
ومن ثَمَّ تولى الرجل حكومة ما بعد اعتذار مصطفى أديب وسعد الحريري في العام 2021، وذلك بهدف قيادة البلاد في مرحلة التفاوض مع صندوق النقد الدولي وإجراء الانتخابات النيابية، وأمس أعيد تكليف الرجل للإشراف على مرحلة رحيل عون وإجراء الانتخابات الرئاسية، واستكمال سياسة تقطيع الوقت ريثما تنضج تسويات كبرى للمنطقة، التي تتحضر لاستقبال الرئيس الأمريكي جو بايدن؛ لذا فإن تكليف ميقاتي يعني عودته رئيساً مكلفاً ورئيساً لحكومة تصريف أعمال، وربما رئيساً متسلماً صلاحيات رئيس الجمهورية في حال دخل لبنان في الفراغ الرئاسي إذا لم تتمكن القوى المحلية والإقليمية من الاتفاق على رئيس للبلاد من هنا وحتى أكتوبر/تشرين الأول موعد تسليم عون لمهامه.
وكان بارزاً الموقف الملتبس لحزب القوات اللبنانية لجهة رفضه تسمية السفير نواف سلام لرئاسة الحكومة، وقيامه بتسهيل وصول رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لهذا الموقع، والذي لو أعطى أصواته الـ19 لسلام لكان استطاع المنافسة بشكل مباشر أمام نجيب ميقاتي، لكن ما ورائيات الموقف القواتي مرده أن القوات لو سمت نواف سلام، الذي لن يصل لرقم يخوله الجلوس على كرسي الرئاسة الثالثة، كانت ستعطي جبران باسيل ورقة قوة لابتزاز ميقاتي للحصول على ما يريده من حقائب وتعهدات، وتحديداً ملف التعيينات، مقابل إعطاء أصوات التيار له؛ لذا فإن عدم تسمية القوات لسلام في هذه المرحلة أدى لسحب ورقة كان سيحرص باسيل على استخدامها في الساعات الأخيرة.
وبالعودة لتفاصيل يوم الاستشارات أمس بدا واضحاً أن ميقاتي لم يكن مهتماً بشكل بالغ لعدم وجود ميثاقية مسيحية في تسميته، وذلك عبر عدم تصويت الكتلتين المسيحيّتين الكبريَيْن له، أي كتلتي القوات اللبنانية والتيار الوطني الحرّ، وكتل أخرى ومستقلين كالكتائب وحركة الاستقلال، ولا حتى كتلة صديقه وليد جنبلاط ما شكّلَ انقلاباً على تفاهمات وصداقات تاريخية، وذلك عبر تصويت كتلة اللقاء الديمقراطي لمصلحة السفير نوّاف سلام، لكن عدم اكتراث ميقاتي ينطلق من معلومات تسربت للرجل بأن الموقف الدرزي جاء انطلاقاً من أمرين أساسيين؛ الضغوط السعودية على الحلفاء لجهة تسمية شخصية أخرى بدلاً من ميقاتي، بالإضافة إلى أن موقف جنبلاط مرده اعتبارات حزبية وشعبية في ظل تنامي تيار إصلاحي داخل البيئة الاشتراكية؛ حيث سجلت هذه القواعد موقفاً اعتراضياً على انتخاب نبيه لرئاسة مجلس النواب وتصويت نواب الاشتراكي لنواب الثنائي الشيعي والتيار العوني في انتخابات اللجان البرلمانية، بدلاً من التصويت لنواب قوى التغيير مارك ضو وفراس حمدان.
لذا اختار وليد جنبلاط الركون عند مطالبات حزبه وجمهوره من خلال التصويت الاعتراضي لرئاسة الحكومة، وهذا الموقف لن يؤثر على عودة التواصل بين ميقاتي وجنبلاط؛ لكون استئثار الأخير بالتمثيل الدرزي حكومياً وكون المختارة ممراً إلزامياً لتولي أي درزي أي منصب حكومي بعد الإطاحة بدروز حزب الله والنظام السوري.
واستمرار ميقاتي في الإصرار على تكليفه بعد تيقنه أن السعودية لم تخُض أي مسعى للإطاحة به من خلال التماسه لقاءات يقوم بها السفير السعودي وليد البخاري لناحية دعم السفير سلام أو غيره، من خلال لقاءاته النواب السنَّة المحسوبين سابقاً على تيار المستقبل، وإن كانت بهدف الإطاحة به، فظهر لميقاتي العكس من خلال رفض البخاري إعطاء أي شارة تسمية لأي شخصية سُنية خلفاً لميقاتي؛ لذا فإنه لم يصدر أي موقف سعودي واضح من تكليف ميقاتي أو غيره.
لذا فإن الحراك السعودي تجاه النواب السنَّة يهدف لأمرين أساسيين:
الأول: إيجاد مظلة سُنية تسد فراغاً تركه الحريري عقب انسحابه من اللعبة السياسية، وهذه المظلة تقودها الرياض بالتنسيق مع المصريين والقطريين، بالإضافة لفكرة ضم تركيا لهذا الحراك بعد لقاء البخاري مع السفير التركي علي باريش أولسوي، والنقاش الجاري حول الملفات المشتركة لبنانياً وإقليمياً، والتي تزامنت مع زيارة ولي العهد السعودي إلى تركيا.
والثاني: أن الرياض وحلفاءها باتوا يفضلون تمرير هذه المرحلة في انتظار الدخول في عهد رئاسي جديد بعد انتهاء ولاية عون، وبعده لكل حادث حديث، وفي العهد الجديد قد تضطر السعودية، وفقاً لمقتضيات المرحلة، السير بشخصية سُنية لتولِّي هذا المنصب، لذا فإنها تورعت عن التدخل في هذه الاستشارات، لكنها ستكون بانتظار شكل الحكومة، وبعدها تقرر إذا ما كانت ستتعاطى معها وفق ما تقتضيه الاستحقاقات والمحطات التالية.
وعليه، فإن لبنان، ومعه المنطقة، بات محشوراً في زاوية عنوانها ما ستقدم زيارة جو بايدن للمنطقة على صعيد توزيع القوى، وهناك من يعتقد أن نجاح زيارة بايدن للمنطقة ستؤدي إلى التخفيف من الضغوط التي يعانيها لبنان، والتخفيف من حدّة أزمته لمنع أي ارتطام أو انفجار، دون الحديث عن حل جذري لأزمته؛ لأن أي حل يحتاج لمزيد من الانتظار ترقباً لمصير المنطقة، وانتخاب رئيس جديد للبلاد، بعيداً عن تجربة عون، قد يفتتح عصراً جديداً تكون مهمّته الإشراف على ورشة استعادة لبنان لعافيته تدريجياً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.