"النساء لا يفعلن ذلك" هو عنوان لمجموعة قصصية صدرت حديثاً عن دار النشر "فضاءات" الأردنية، للكاتبة الجزائرية "غزلان تواتي"، وتعتبر هذه المجموعة القصصية أول عمل أدبي لها.
ما يجذب الانتباه ويثير الفضول ويحفز على قراءة هذه المجموعة هو العنوان نفسه. فبمجرد أن تسمع هذه العبارة ستجعلك تفكر وتتساءل: ترى ما الشيء الذي يجب أن تفعله المرأة؟ وما الذي لا يجب أن تفعله؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العبارة "النساء لا يفعلن ذلك" في لهجتنا العامية الجزائرية "النسا مايديروش هكا"، هي نوع من العتاب والتوبيخ للمرأة التي تخالف أبسط القواعد -الكثيرة- التي يفرضها المجتمع الأبوي باستمرار (رجالاً ونساء)، نوع من التحذير والتهديد للمرأة التي ترفض الانصياع والخضوع للأوامر، فأي شيء تفعله المرأة لا يناسب الآخرين ومحيطها مهما كان بسيطاً أو تافهاً يعتبر خطراً يجب التصدي له، فالمرأة لا ينبغي أن تكون ولا ينبغي أن تفعل، ولا حتى أن تفكر أو تحلم إلا ضمن الأطر المحددة مسبقاً لتحقيق توقعات ورغبات المجتمع الذكوري.
فالكل يقول هذه المقولة لأي امرأة، سواء أكان على علم بما تحمله من معنى أو ليس له علم -حتى أنا ربما قلتها مرة أو مرتين في الماضي لأختي دون أن أنتبه لمعناها- لأنه مع الوقت والتعود تصبح مثل هذه العبارات التي تسيء للمرأة من الأمور العادية والمقبولة في المجتمع.
وفي الوقت نفسه عندما تنتهي من قراءة هذه القصص، وبمفهوم عكسي مناقض تماماً لما سبق ذكره، تستنتج أن الكاتبة وبكل ذكاء تحوّل مفهوم هذه العبارة (العنوان) إلى حافز للمقاومة، وتحدٍّ يجب أن ترفعه المرأة لتشق طريقها وتكتب قدرها، ويظهر هذا جلياً مع كل البطلات في المجموعة القصصية.
عودة إلى المجموعة القصصية ومحتواها فهي تتكون من ثماني قصص بمواضيع وقضايا متنوعة (الإجهاض، السكن، العمل، العذرية، الجنس، الغيرة، الأمومة، الصداقة…) في بيئات اجتماعية مختلفة (الغنى، الفقر)، ومستويات ثقافية متباينة (متعلم، أمي) أو حتى مناطق جغرافية متعددة (الريف، القرية، المدينة)، هذا التنوع أضفى عليها قيمة وثراءً أدبياً واجتماعياً ونفسياً مهماً جداً، مع رابط مشترك بينها وهو المرأة، فكل القصص تهتم بحالة ووضعية المرأة في مجتمعنا، ولهذا نستطيع القول إنها تنتمي إلى الأدب النسوي الملتزم.
ومع هذا فلن تشعر ولو للحظة وأنت تقرأ هذه القصص أن هناك تحيزاً أو تعصباً لصالح المرأة، أو اتخاذ موقف معادٍ ضد الرجل لكونها امرأة، فالطرح كان واقعياً جداً، ومتزناً وهادفاً بشكل يخدم القضايا بكل عقلانية.
بداية مع بطلة القصة الأولى "نعيمة ساسي" المُدرّسة والزوجة والأم، التي تقوم بعملية إجهاض بطريقة غير قانونية، وبذلك ستكون مضطرة لمواجهة سلسلة من العوائق والأحكام الأخلاقية والاجتماعية والقانونية على وجه الخصوص بقرارها هذا، وتعتبر هذه القصة من بين أعقد القصص في المجموعة لحساسية وأهمية هذا الموضوع. ربما تعتبر سابقة أن عملاً أدبياً كتب بالعربية اهتم بالإجهاض من وجهة نظر قانونية- اجتماعية، ترى كيف ستواجه "نعيمة ساسي" هذا الأمر؟
ثم تنقلنا الكاتبة في القصة الثانية (وراء الحلم) بأسلوب سلس وبسيط وأقل تعقيداً في الأحداث والموضوع من الأولى، إلى يوميات الشابة "كنزة"، الطالبة في معهد الفنون الموسيقية، الفتاة الحالمة المقبلة على الحياة بكل حب ومرح، لتتابع مشروعها في أن تصبح فنانة موسيقية كبيرة، رغم النظرة السلبية والمحبطة من المجتمع وأهلها، وحتى من "حسين" الذي اقتحم حياتها، لتكون بذلك مجبرة على أن تختار بين الحب الذي ولد للتو وحلمها وحريتها. يتم الاختيار بسرعة، تفضل كنزة شغفها بدلاً من حب لا يعد بشيء.
أما "خيرة"، بطلة قصة (النساء لا يفعلن ذلك)، والتي تحمل عنوان المجموعة القصصية نفسه، فتنحدر من خلفية ريفية، وبيئة ثقافية مخالفة تماماً، حيث تضطر "خيرة" وعائلتها لأن يتركوا القرية التي كانوا يعيشون فيها إلى ضواحي مدينة وهران الكبرى، حيث تبدأ شكوكها في خيانة زوجها، حتى تصل الأمور إلى الطلاق، وهنا تنطلق تحدياتها في تأسيس حياة جديدة، وأول ما كان عليها فعله هو العمل في الحقول، الشيء الذي اعتادت القيام به من قبل لإعالة أسرتها، لكن بلا مقابل مالي. فهل سيكون العمل والراتب نقطة تحول في حياة خيرة؟ وهل سيجعلان الآفاق والأحلام ممكنة؟
وأخيراً تنهي المجموعة بقصة مثيرة للاهتمام "اللقاء"، والتي أعتبرها بمثابة خاتمة للقصص. هي قصة ثلاث صديقات: "كاملة" و"خديجة" و"سومية"، فقدن التواصل منذ زمن طويل بعد أن اتخذت كل واحدة منهن طريقاً في الحياة.
فقررن أن يلتقين في مقهى "الجاز چاردن" في أحد أحياء وهران، وبينما هن يتحدثن تطفو الذكريات والمشاعر، ولحظات من سنوات الدراسة في الثانوية، فالماضي لم يمضِ أبداً.
فجأة يبدأ اللوم، وموضوعات المناقشة لا تتركنا غير مبالين: الصداقة، الحب، الزواج، الأمومة البيولوجية، عمل المرأة، كل هذا مرتبط بسعادة كل واحدة منهن.
في بعض الأحيان يكون الحوار بينهن هادئاً، وفي أحيان أخرى يكون عاصفاً بعض الشيء. في الواقع القصة عبارة عن جرد لتجارب الحياة، وحصيلة للاختيارات التي تم اتخاذها، بين سومية وخديجة اللتين قبلن بالواقع كما هو، وكاملة التي فرضت الواقع الذي أرادته، حتى لو كانت في نظر مجتمعها تعتبر امرأة غير مكتملة، لأنها ليست متزوجة وليست أُماً، كما أخبرتها بذلك "سومية": "العمر يمر بسرعة، وبعد سنوات قليلة ستصبحين عانساً في سن اليأس، بلا أولاد ولا أسرة".
بمعنى آخر، إن للنساء جزءاً كبيراً من المسؤولية في الواقع الذي يعشن فيه.
سأتوقف عند هذا الحد، ولن أخوض في بقية القصص كي لا أفسد فضول القارئ في اكتشافها والاستمتاع بها. أستطيع فقط أن أضيف شيئاً عن اللغة والأسلوب اللذين كتبت بهما هذه القصص، ففي البداية اعتقدت أنها ستكون قصصاً نسوية مثل باقي القصص من هذا النوع، حتى وإن كانت جيدة فلا شيء مميزاً فيها، لكن من الصفحات الأولى لاحظت أن هناك اختلافاً وشيئاً جديداً في طريقة تقديم ومعالجة المواضيع والقضايا، فرغم أن أغلب المواضيع قد تم تناولها سابقاً، فإن الكاتبة استطاعت أن تبث فيها روحاً جديدة، وتعيد إحياءها بلغة بسيطة وواضحة، وحوارات قوية، وسرد ممتع، بجمل قصيرة ومستقلة تخلق إيقاعاً سريعاً وحيوياً، وأسلوب سلس يجنب الرتابة والابتذال.
فما يميز هذا العمل ويعطيه أصالته هو البساطة، والوضوح والقوة في اللغة كما في الأسلوب، بحيث يجعلك لا تشعر بالملل، وتسترسل في القراءة حتى النهاية.
أستطيع أن أقول دون مبالغة إنه لأول مرة أقرأ قصصاً باللغة العربية عن ظروف المرأة، وتركت لديّ انطباعاً وكأنني في عصر نضال ومقاومة الكاتبات النسويات كـ"فيرجينيا وولف"، "سيمون دي بوفوار"، "دوريس ليسينج" و"مارغريت أتوود".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.