دُعي أكثر من 40 مليون فرنسي للإدلاء بأصواتهم لانتخاب رئيس للجمهورية الفرنسية في الـ10 من أبريل/نيسان الماضي، وأسفرت نتائج الاقتراع عن منح الرئيس إيمانويل ماكرون عهدة ثانية، مدتها خمس سنوات.
تلتها فيما بعدُ انتخابات تشريعية جرت بين الـ12 والـ19 من مايو الجاري، وبينما انتهى المسار الرئاسي الشاق بإعادة انتخاب الرئيس ماكرون جاءت نتائج الانتخابات التشريعية عكس رغبة ماكرون.
أعادت نتائج الانتخابات التشريعية المعادلة السياسية بفرنسا إلى المربع الأول، أي إن الرئيس ماكرون هو الآن أمام جدلية دستورية، بين "مجلس تشريعي عالق" على النموذج البريطاني و"البطة العرجاء" على النموذج الأمريكي؛ لكون النظام الدستوري الفرنسي مزيجاًَ بين النظامين البرلماني والرئاسي.
الرئيس ماكرون الذي عُرف خلال حكمه في العهدة الأولى بالرئيس "ملك الآلهة"، لم يكن يتوقع النتيجة التي أفرزتها الانتخابات التشريعية الأحد الماضي، وهو الذي اتبع خطة انتخابية، شعارها "معاً" لحزبه "الجمهورية إلى الأمام" في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، تقوم على تحالف رئاسي مع الأحزاب الصغيرة، لكن الخطة لم تنجح.
ونتيجة لذلك الفشل، يضرب فرنسا إعصارٌ سياسي تعيشه الآن، هذا الإعصار عززه الفوز التاريخي لحزب اليمين المتطرف "التجمع الوطني" الذي حصل على الرتبة الثالثة وراء ائتلاف الرئيس إيمانويل ماكرون وتحالف اليسار.
هذه النتائج قد تمنح الحزب المتطرف الكتلة البرلمانية اللازمة لتشكيل الحكومة في حال عدم توصل تحالف اليسار إلى اتفاق بشأن الحكومة القادمة.
انسداد وارتباك
قد يدفع ذلك الوضع إلى انسداد مؤسساتي سوف يدوم أسابيع في ظل تحديات اقتصادية واجتماعية خطيرة تعيشها فرنسا، أضف إلى ذلك تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية على الاقتصاد الفرنسي وعلى السياسة الأمنية للاتحاد الأوروبي عموماً.
الإشكالية هنا هي خسارة التحالف الرئاسي بزعامة حزب "الجمهورية إلى الأمام" للأغلبية المطلقة، فأغلبيته الحالية نسبية لا تسمح له بأن يحكم.
وهو بحاجة إلى 44 مقعداً من المعارضة ليكمل نصيب 289 مقعداً؛ حتى يستطيع أن يشكل حكومة، وبالتالي تمرير برنامجه الانتخابي.
ووعود انتخابية مثل إصلاح نظام التقاعد، باتت أمراً شبه مستحيل التحقق، لأن الحزب الذي يريد التقرب منه ماكرون لتشكيل حكومة ائتلافية معه، هو حزب "الجمهوريين"، الذي لا يشاطر برنامج الرئيس ماكرون في هذا الملف الشائك خاصةً السن المحددة للتقاعد، حزب ماكرون يريدها إلى غاية 65 سنة، في حين يريدها حزب الجمهوريين إلى 62، وهو الاقتراح نفسه لحزب اليمين المتطرف.
على كلٍّ، أرسل الناخب الفرنسي رسالة قوية إلى الرئيس ماكرون بعدم منحه الأغلبية المطلقة؛ لإجباره إلى العودة إلى عالم السياسة كما يعرفه الناخب، وليس كما أراده الرئيس ماكرون بإنهاء ما سماه "سياسة العالم القديم".
أمام هذا الواقع الجديد، أي لأول مرة منذ تأسيس الجمهورية الخامسة عام 1958، يحظى حزب رئيس الجمهورية بنسبة ضعيفة بعيدة جداً عن تشكيل حكومة أغلبية. صحيح عرف الرئيس فرنسوا ميتران هزيمة في الانتخابات التشريعية لعام 1988، مما دفع وزيره الأول المخضرم ميشال روكار إلى تشكيل حكومة ائتلاف مع أعضاء من معتدلي حزب الوسط آنذاك، لكن اليوم الرئيس ماكرون ليس أمام نظام التعايش الذي عرفته ثلاث مرات، ليس له وزير أول سياسي قوي، السيدة بورن هي تكنوقراطية أكثر منها سياسية.
عرفت فرنسا نظام التعايش أو الائتلاف الحكومي مرتين في عهدتي الرئيس ميتران، 1986-1988 مع وزير أول من حزب اليمين، جاك شيراك، و1993-1995 أيضاً مع وزير أول من حزب اليمين إدوارد بلادور، ومع الرئيس شيراك الذي تعايش هو الآخر مع رئيس حكومة من الحزب الاشتراكي، إيمانويل جوسبان، ما بين فترة 1997-2002.
مأسسة حزب اليمين المتطرف
عام 2002 يعد محطة تاريخية مهمة في تاريخ الجمهورية الخامسة ولحظة فارقة في مسيرة صعود اليمين المتطرف، ومنذ ذلك الحين والنخب والأحزاب وأصحاب الرأي المسيطر في الإعلام بفرنسا يحذّرون من صعود اليمين المتطرف ومن زلزال سياسي آخر؛ والنتيجة: عرفت فرنسا براكين متفجرة منذ عام 2002 وحتى الآن.
حزب اليمين المتطرف اليوم بات يشبه كثيراً حزب الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، أي حزباً يمينياً بالمفهوم التقليدي لليمين الفرنسي. وهذا بسبب غطرسة الرئيس ماكرون الذي حوّل هذا الحزب المتطرف من التطبيع معه بسياساته تجاه المسلمين بفرنسا والهجرة القانونية وغير القانونية على حد سواء.
بالتالي، الرئيس ماكرون في خطته لاحتواء اليمين المتطرف حوّله من كيان دخيل على السياسة الفرنسية إلى كيان له حيثية في النسيج السياسي ومنحه غطاء مؤسسياً، عندها أصبح حزب آل لوبان حزباً جمهورياً.
اليوم تحالف الرئيس ماكرون وإعلامه المتواطئ مع سياسة الأمر الواقع الذي فرضته نتائج كل من الانتخابات المحلية والبرلمانية، أصبح تحالفاً بلا أساس شعبي.
وحتى لا تعيش فرنسا أزمة سياسية قاصمة، يتوجب على الرئيس ماكرون تقديم تنازلات، وليس أمامه وقت كافٍ للمناورات، بل حتى ما يقدمه للخصم، فمدُّ يده إلى حزب اليمين "الجمهوريين" كما يريد هو، كفيل بتفجير حزبه من الداخل، كما فجّر الحزب الاشتراكي عام 2017.
هذه المرة عليه أن ينسى سياسة "فرِّق، تسُدْ".
نتائج الأحد الماضي بعيدةٌ كل البعد عن تشريعيات 2017، ما يجعل الرئيس ماكرون مضطر للجوء إلى حزب الجمهوريين لتشكيل تحالف حكومي. يبقى شبح تحالف اليسار الذي أراد الرئيس ماكرون شيطنته لدى الفرنسيين، الذين أعطوا أصواتهم لتحالف اليسار NUPES وجعلوا هذا التحالف يحتل المركز الثاني بـ131 مقعداً؛ ليراقب عن قربٍ سياسات وأعمال الائتلاف الحكومي، في البرلمان، في حين تريد زعيمة الحزب المتطرف مارين لوبان أن تلعب دور "صانعة الملوك" في البرلمان الجديد، تريد مركز نيابة رئاسة البرلمان ورئاسة لجنة المالية، هذه اللجنة الحساسة والحيوية التي جرت العادة بأن تعود للمعارضة في البرلمان.
كما لعب زعيم حزب "فرنسا الآبية"، جان لوك ميلونشون، دور السياسي العبقري الذي استطاع أن يحقق إنجازاً سياسياً كبيراً في توحيد اليسار الفرنسي الذي أراده الرئيس ماكرون جسداً بلا روح، والذي خاض زعيم "فرنسا الأبية" معركة الانتخابات التشريعية بشعار "الدور الثالث"، حيث أعلن عشية نتائج الدور الثاني للانتخابات الرئاسية أنه يريد أن يصبح وزيراً أول ويرأس حكومة تعايش مع الرئيس ماكرون، علماً أن زعيم حزب "فرنسا الأبية" أراد فقط أن يربك الرئيس والإعلام والنخب الباريسية.
قصة الرئيس ماكرون مع اليمين المتطرف والناخب المسلم
لفترة طويلة، كانت السردية الإعلامية السائدة حول سياسة الرئيس ماكرون مع اليمين المتطرف، وهي السردية التي روّجها على وجه الخصوص اليمين التقليدي بين التطبيع والحذر منذ أيام الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، لكن خلال عقد من الزمن والإعلام وحزب اليمين يروِّج لليمين المتطرف العنصري من خلال خرجات وتصريحات الصحفي المثير للجدل زعيم حزب "استرداد" إريك تيمور، الذي اعتقد أنه سوف يصبح رئيساً لفرنسا، وبعد فشله في هذا الامتحان، خاض امتحان التشريعيات وفشل. كأن الناخب الفرنسي كان لا يبالي بإعلام مثير وساسة مفلسين؛ وقال كلمته في هذا الشخص النرجسي، وهي أن مكانه في قاعات تحرير الإعلام العنصري الذي غذَّى خطابه المعادي للإسلام ونشر الكراهية.
هذا ما يجرنا إلى التطرق إلى دور الناخب المسلم والعربي عموماً في هذه المرحلة الحساسة التي تعيشها فرنسا وانعكاسات نتائج هذه الانتخابات عليه. هذه المرة، خاصةً في الانتخابات الرئاسية، خرج الناخب المسلم والعربي بقوة ومنهم الشباب الذين صوتوا بالأغلبية لمرشح زعيم "فرنسا الأبية". عادةً صوت الناخب المسلم ليس متجانساً ولا يصوّت ككتلة واحدة. كان أمل الناخب المسلم كباقي من صوّت لمرشح حزب "فرنسا الأبية" في الرئاسيات ومرشحي تحالف اليسار في التشريعيات: كان في برنامجهم ذي الصبغة الاجتماعية العادلة، خاصة في تحديد سقف الحد الأدنى للرواتب عند 15000 يورو وسقف سن التقاعد عند 60 سنة.
كما دخل عدد ضئيل لقصر بوربون، نوّاب من أصول عربية للمرة الأولى، خصوصاً في قائمة تحالف اليسار، كما كان في المقابل أيضاً مرشحون من أصول عربية للحزب المتطرف "التجمع الوطني" في دوائر عديدة.
بات الشغل الشاغل للناخب المسلم هذه الأيام، كباقي الناخبين الفرنسيين، هو القدرة الشرائية وإيجاد حلول عاجلة للأزمة الاقتصادية التي تعيشها فرنسا، كما أنه ما زالت بعض الجمعيات المسلمة تعاني من سياسات الرئيس ماكرون ووزير داخليته جيرارد دارميان المعادي للمسلمين والذي احتفظ بحقيبته في عهدة الرئيس ماكرون الثانية، حيث كان بمثابة إقرار من الرئيس لسياسات وقرارات وزير الداخلية؛ كما عاد من جديدٍ مسلسل البوركيني إلى الواجهة الإعلامية في فصل صيف بدا حاراً مسبقاً.
بعدما كانت سياسات الرئيس ماكرون تجاه المسلمين بفرنسا والعرب مشحونة بخطاب مفرط في الكراهية لدرجة أن فئة هائلة من الشباب المسلم كاد يصوّت بشكل جماعي لمرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان بالدور الثاني في الرئاسيات.
لم يبقَ أمام الناخب المسلم خيار مباشر وهو وضع حد للنفاق السياسي الذي تعيشه فرنسا منذ عقدين، لأن هذه الممارسة السياسية كانت ذراً للرماد في عيون الناخب فقط. في الواقع كان الرئيس ماكرون يخادع خصومه في اليسار واليمين بحجة أنه سيقضي على اليمين المتطرف، لكن شيطنة زعيم تحالف اليسار جان لوك ميلانشون، خلال الدور الثاني للانتخابات التشريعية، جعلت الناخب المسلم يخرج مرة أخرى بقوة ويصوت لمرشحي اليسار.
إن خطة الرئيس ماكرون في الانتخابات الرئاسية والتشريعية هي التي جعلت فرنسا تعيش اليوم عدم استقرار سياسي قد يطول طيلة موسم صيف 2022 ويدخل في مرحلة من القلق على المجتمع الفرنسي المنقسم: حكومة ضعيفة وائتلاف هش قد يعود بفرنسا لشبح الجمهورية الرابعة، حيث أصبح الرئيس ماكرون كالديك المذبوح: أمام برلمان عالق وبطة عرجاء تتفرّج.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.