"كل مسجد ضخم لو حفرت تحته ستجد أنه بُني على أنقاض معبد هندوسي، حتى الكعبة التي يقدسها المسلمون هي في الأساس كانت معبداً، والأصنام التي كانت تُعبد حولها هي آلهة هندوسية، هكذا يعتقد غلاة الهندوس، بل يذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك، فيعتبرون أن مناسك الحج التي يتعبَّد بها المسلمون كالطواف وملابس الإحرام" هي في الأصل طقوس هندوسية سرقها المسلمون، غير أن المسلمين يرتدون الزي الأبيض، وهي نفس مزاعم الإسرائيليين في الهيكل المزعوم محل المسجد الأقصى.
نظرة كهذه تكشف لك كيف يرى المتطرفون الهندوس في الهند مقدسات المسلمين وشعائرهم باعتبارها إرثاً قديماً لهم، وبالتالي هم بما أصبح لديهم من نفوذ وسلطة يسعون لاسترداد هذا الإرث المزعوم بالاستيلاء على مساجد المسلمين في الهند وانتزاعها منهم، بحجة أن حكام الهند المسلمين بنوا هذه المساجد التاريخية على أنقاض معابد هندوسية لآلهتهم.
والأمر لا يقتصر على مجرد مزاعم كلامية حديثة يدعيها الزعماء الدينيون، بل أصّلت لها كتابات قديمة صنعت لنفسها موطئ قدم مستفيدة من تصاعد حركة القومية الهندوسية التي صنعت من الإسلام عدواً وهمياً لتوحيد الهندوس الذين تباعد بينهم الطبقية وآلاف الآلهة والمعتقدات، وصب مزاعم تدعي أن المسلمين سيصبحون أكثرية قريباً ويحكمون الهند مجدداً، رغم أن المسلمين لا يتجاوز عددهم 200 مليون في مقابل نحو 900 مليون هندوسي.
وحركة القومية الهندوسية كما يشرح د. ظفر الإسلام خان في كتابه "حركة القومية الهندوسية وكيف غيرت الحياة السياسية الهندية وهمشت مسلمي الهند" هي حركة سياسية يعود ظهورها للنصف الثاني من القرن الـ19، تؤمن بالأفضلية المطلقة للهندوس، وترى في الإسلام أكبر المخاطر تليه المسيحية ثم الشيوعية، وأن أهم برامجها هو "التطهير" أو ما يسمونه "شودِّهي"، أي إعادة ملايين المسلمين والمسيحيين عن معتقداتهم السماوية هذه إلى الهندوسية دين آبائهم وأجدادهم.
أذرع هذه الحركة نشطت في العقود الأخيرة في تأجيج الكراهية والسعي في انتزاع المساجد والمعالم التاريخية من مسلمي الهند، أحدثها ضريح تاج محل المعلم الأشهر في العمارة الهندية والذي بناه الإمبراطور شاه جهان في النصف الأول من القرن 17 تخليداً لذكرى زوجته ممتاز محل، حيث طالبوا بعمل حفريات في محيطه بزعم بنائه على أنقاض معبد للإله "شيفا"، رغم أن الحكومة الهندية نفسها نفت في أواخر 2015 وجود أي دليل يشير إلى أن تاج محل معبد هندوسي، ولا شك أن حكومة مودي لن تدخر جهداً في سلب المسلمين تاريخهم، خاصة أنها تحكم البلاد منذ عام 2014.
فادعاءات الهندوس المتطرفين بحقهم التاريخي في المساجد لا تخفى على أحد، يبقى عنوانها الحزين انتزاع مسجد بابري من مسلمي الهند باقتحامات الهندوس ثم هدمه وأخيراً عبر عصا القضاء، ومشاركة رئيس الوزراء ناريندرا مودي في حفل ضخم لوضع حجر الأساس للمعبد الهندوسي محل مسجد بابري في 5 أغسطس/آب 2020 في الذكرى الأولى لإلغاء الحكم الذاتي لولاية جامو وكشمير الولاية الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة بالهند.
مسجد بابري الذي بناه السلطان المغولي ظهير الدين محمد بابر عام 1528، لم يُشبع شهية السطو لدى متطرفي الهندوس، بل هي خطة ممنهجة لمحو الإرث التاريخي والحضاري لمسلمي الهند بنزع المعالم التي تعبر عن وجودهم القديم وإسهامهم الحضاري، حتى إن هناك قائمة تشمل مئات المساجد يستهدف الهندوس نزعها وتحويلها إلى معابد.
من هذه المساجد جامع "عيدكاه" في مدينة ماتهورا بحجة أنه بُني فوق معبد لإلههم "كريشنا"، والعجيب في قصة هذا المسجد أنه بعد نفس الادعاءات الهندوسية عقد معهم المسلمون معاهدة برعاية قضائية عام 1968 تنازل بموجبها المسلمون عن نصف أرض المسجد للهندوس وبنوا معبداً ضخماً بجانب المسجد مقابل التوقف عن ادعاءاتهم، ولكن منذ سنوات عاد الهندوس يطالبون بهدم المسجد كاملاً وتنكروا لاتفاقية تقسيمه بين الطرفين.
ولعل ما حدث مع مسجد "عيدكاه" وما جرى من تقسيمه بين المسلمين والهندوس، ثم انقلاب الهندوس على الاتفاق والطمع في المسجد كاملاً، هو نفس السياسة الإسرائيلية ومخطط التقسيم الزماني والمكاني المزعوم الذي يريد الاحتلال تطبيقه في المسجد الأقصى تمهيداً للاستيلاء عليه.
على خُطى مسجد "عيدكاه" يتعرض جامع "كمال مولى" للمخطط نفسه، فبعد ادعاءات ومطالبات الهندوس بالمسجد، عُقد اتفاق بين الطرفين في عام 2003 باقتسام مساحة المسجد ليقيم الهندوس معبداً للإله "واجديفي"، ومثل المسجد والمعبد مجمعاً دينياً يستقبل المسلمون يوم الجمعة، والهندوس يوم الخميس لأداء صلاتهم الأسبوعية، وفي بقية الأيام مفتوح للزيارة باعتباره موقعاً تاريخياً، إلا أنه مؤخراً أيضاً تنكرت حركات هندوسية للاتفاق ويطالبون بهدم المسجد واقتصار المجمع كونه معبداً فقط.
المسجد الثالث في قائمة المساجد التي يسعى الهندوس للاستيلاء عليها هو مسجد "جيان وابي" الواقع في مدينة واراناسي، بحجة أن المسلمين هدموا جزءاً من معبد هندوسي عند بناء المسجد في عهد الإمبراطور المغولي أورانك زيب عام 1664، رغم أن المعبد قائم قرب المسجد، وبلا شك فإن محاكم الهند لها دور في مضاعفة حُمَّى الطمع بالمساجد في ظل وجود قضاة يؤمنون بالأفضلية الهندوسية.
مخطط متطرفي الهندوس ضد المسلمين لا يقتصر على نزع المساجد وتحويلها إلى معابد فحسب، كإحدى وسائل محو تاريخ المسلمين، بل يشمل كذلك استبدال الأسماء ذات الدلالة الإسلامية للمعالم والمدن والقرى بأخرى ذات دلالة هندوسية كشكل من أشكال إعادة كتابة تاريخ البلاد بصورة تكفل تهميش المسلمين ومحو زي دور تاريخي لهم، وكأن المسلمين خلال قرون حكمهم الهند لم يسهموا بأي مظهر حضاري في البلاد، رغم أن المعالم الكبيرة والشهيرة بناها المسلمون.
وهذا بلا شك إجحاف جديد بحق المسلمين، وتغيير المناهج وكتابة التاريخ وفق رواية الحركات المتطرفة، وهو اتباع لذات السياسة التي انتهجها الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية عندما أعاد كتابة تاريخ حكم المسلمين للهند بصورة تكفل تشويه المسلمين وتقديمهم باعتبارهم مستبدين اضطهدوا الهندوس وهدموا معابدهم، وذلك انتقاماً من المسلمين لدورهم في قيادة ثورة منتصف القرن 19 ضد الاحتلال الإنجليزي بمشاركة الهندوس آنذاك، وبعد إفشال الثورة انتقم الإنجليز من المسلمين بمصادرة ممتلكاتهم وتغييبهم عن المشهد لصالح الهندوس، وهو ما فصلناه بشكل أوسع في كتاب "المسلمون في الهند بين تضييق الواقع وتحديات المستقبل".
في ظل هذا المناخ تسعى الحركات المتطرفة إلى تأجيج كراهية المسلمين عبر كيل الأكاذيب ضدهم كاتهامهم بـ"جهاد العشق" وهي مزاعم هندوسية تدعي أن مسلمي الهند وبدعم خارجي لديهم خطة لتحويل النساء الهندوسيات إلى اعتناق الإسلام من خلال الزواج بهدف زيادة عدد المسلمين لتحويل الهند إلى بلد مسلم، ويدعون أن هذا الزواج تم نتيجة قهر وإجبار للمرأة الهندوسية أو إغراء لها بالمال ضمن مؤامرة المسلمين عبر جهاد العشق، وفي المقابل ترحب هذه الجماعات كثيراً عند زواج هندوسي من مسلمة.
خلاصة الأمر أن استهداف الجماعات الهندوسية المتطرفة لمساجد المسلمين في الهند هو استهداف لتاريخهم وجذورهم في هذه البلاد ومحو إرثهم الحضاري، أما في الحاضر فيتم تهميش المسلمين في مختلف المجالات واستهدافهم في الاضطرابات الطائفية التي تكررت كثيراً خلال السنوات الأخيرة، وتقييدهم بترسانة من القوانين التمييزية ضدهم ومنع الحجاب في مناطق، وتأطيرهم في قضايا الإرهاب وهدم منازلهم لمجرد رفضهم الإساءة للرسول، وتأجيج كراهيتهم عبر أبواق الإعلام المقربة من الحزب الحاكم، وفي ظل هذا الواقع يمكنك أن تتخيل كيف يمكن أن يكون شكل المستقبل إذا استمرت عصا التطرف مسلطةً على رقبة الهند.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.