كما لو أن قصته تشبه رواية زوربا الإغريقي، الذي لا يملك شهادة، لكنه كان فقيهاً بالحياة، لدرجة أنه أجبر مرافقه المتعلم على أن يحرق كتبه، التي لم تعلمه شيئاً مما لقنه له ذلك اليوناني البسيط، والمفعم بروح الحياة.
على هذا النحو، سيخلف تصرف جنود أميين زلزالاً كبيراً في عقل واحد من أكبر فلاسفة القرن العشرين، مع فارق جوهري يكمن في أن ما وقع له قدر حقيقي، لا رواية سريالية من نسج خيال نيكوس كازانتزاكيس، حتى إنه قال: "ما حدث أمام عيني في معتقل الجلفة بصحراء الجزائر، يفوق ما تعلمته طوال 10 سنين في جامعة السوربون؛ إذ لم أكن أتوقع البتة أن يكون الإسلام وراء إنقاذ حياتي". ولعلّه أضاف: "ولا أن يكون أولئك المسلمون "الهمجيون" أبطال حياة جديدة كتبت لي في قلب محتشدات الموت النازية".
فكيف إذاً تحوّل هذا المسيحي إلى الماركسية، ثم وجد نفسه مسلماً، بعد رحلة بحث دامت 40 عاماً، لم ينس فيها أثر تلك الحادثة المحفورة في ضميره إلى الأبد.
تسمى تلك الأحداث البسيطة ذات الأثر العميق "أثر الفراشة"، الذي خلده محمود درويش بكلمة بسيطة.
أثر الفراشة لا يُرى
أثر الفراشة لا يزول
1/ البذرة التي نبتت في محتشدات النازيين في قلب الصحراء
ولد روجيه غارودي عام 1913 بمارسيليا، في عائلة ملحدة، فرغب في أن يصبح راهباً، ثم إنه آثر في سن مبكرة أن يختار المذهب البروتستانتي، وهو ابن الرابعة عشرة. دّل ذلك على أنه كان مسكوناً بهاجس التفكير في الذات والكون، ولا غرو؛ فقد اختار دراسة الفلسفة والتعمق في الأفكار الدينية والسياسية، فتخرج أستاذ فلسفة في الطور الثانوي.
لم يبطئ روجيه الذي نشأ بين الحربين الكبيرتين، في أن يتأثر بعد أزمات الجوع والكساد الاقتصادي العالمي بموجة الفكر الماركسي، فكرس حياته العلمية في التخصص الجدلي، محصلاً شهادة الدكتوراه التي فتحت له كرسي الأستاذية في جامعة السوربون، قبل أن ينذر نفسه للدفاع بنظرة مسيحية أخلاقية، ثم التفرغ للنضال السياسي في سبيل تحقيق معتقداته عبر الحزب الشيوعي الفرنسي، وأهّله ذلك لأن يكون جاهزاً للنضال الوطني كعسكري في الجيش، ثم مقاوماً سرياً في صفوف الحركة الشيوعية المناهضة للنازية بعد احتلال ألمانيا الهتلرية لفرنسا المتهاوية.
اعتقل روجيه عام 1940، ثم نفي رفقة 500 مناضل إلى مدينة الجلفة الواقعة على تخوم الصحراء الجزائرية، فمكث هناك يقارع الخوف والجوع في محتشدات نازية تحت وصاية حكومة فيشي الفرنسية، ونظير المعاملة السيئة قرر رفقة المئات من أقرانه شن تمرد صاخب كاد يؤول إلى حمام دم، عندما هرع عقيد فرنسي آمراً جنوداً جزائريين بفتح النار على المعتصمين. يتذكر تلك اللحظة الفارقة قائلاً: "جاء العقيد غاضباً منادياً على سرية من جنود الجنوب، آمراً: البنادق عند الأقدام، تنكبوا، استعدوا وصوّبوا، ثم أطلقوا النار". أغمض المعتقلون أعينهم ظناً أنها النهاية، لكنهم سرعان ما فتحوها والصمت يلف المكان.
يعقب غارودي: "لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، كنا مسرورين للغاية؛ إذ لم يكن الجنود يكنون لنا حباً خاصاً ليردعهم عن تنفيذ أمر العقيد، لكنه أمر أخلاقي مبهر، أُنقذ فيه جزائريون شيوعيين من الموت".
لم يكن لروجيه، الذي هزه السلوك العفوي لـ3 جنود إباضيين رفضوا إطلاق النار عليه، رغم ما كانوا سيلاقونه من خطر مباشر على حياتهم، قد يصل حد الإعدام جراء رفض تنفيذ أوامر عسكرية في حالة حرب، سوى أن يلتقي أحدهم، وكان جندياً جزائرياً برتبة مساعد، ليسأله عن الدافع، فأجابه ببساطة: "أنا مسلم، وديني يحرّم عليّ قتل الأسير والأعزل. ليس من الشرف أبداً فعل ذلك".
لم يبد في تلك اللحظة أن هؤلاء الأغراب المنسجمين مع عقيدتهم الدينية، لدرجة يقبلون فيها الموت رمياً بالرصاص بدل قتل محبوسين، كانوا يبذرون في روح الرجل بذرة الإسلام الأولى، حتى إنه سيعود في نهاية عمره عام 2012 ليقول في حوار لجريدة الوطن الجزائرية: "إن شرف محارب الجنوب هو أجمل صورة رأيتها في الإسلام، ربما وفي موطن ما كان مجيئي إلى الإسلام بدافع من هذه التجربة".
2/ نفي من تونس والجزائر بسبب كتاب حول حضارة العرب
عندما انهزمت ألمانيا، غادر روجيه غارودي المعتقل النازي عام 1944، ومع أنه فقد 30 كيلوغراماً في 33 شهراً؛ فإنه كان مشبعاً بروح جديدة نبعت من قيم الثقافة العربية الإسلامية، خاصة بعد لقائه المثير بالشيخ البشير الإبراهيمي، أحد أبرز شيوخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والذي حدثه مطولاً عن الأمير عبد القادر الجزائري، ثم لم ينقضِ ذلك العام حتى كان المفكر يصدر كتاباً هو "إسهام الحضارة الإسلامية والعربية في الثقافة العالمية".
لكنه فوجئ بطرده من تونس والجزائر من طرف جنرالين فرنسيين هما ماست وكارترو، عقاباً له على نشر ذلك الكتاب الذي لا يطيقه المشروع الاستعماري. وأما الجائزة التي لم يتوقعها بعد سنوات من تلك الواقعة، فكانت يوم التقى الرئيس المصري جمال عبد الناصر ومستشاره الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، فاستظهر له الزعيم القومي نسخة من ذلك الكتاب، مترجماً الى العربية من ذلك المؤلف، مكبراً فيه دفاعه عن الثقافة والحضارة الإسلامية والعربية، رغم انتمائه إلى فضاء ثقافي مختلف.
طوال 4 عقود سيخوض روجيه تجارب سياسية مثيرة؛ إذ سيشغل منصب نائب بالبرلمان الفرنسي لعدة عهدات، وارتقى نائباً لرئيس الجمعية العمومية الفرنسية، ثم يصير في أتون المد الماركسي على العالم واحداً من أكبر المنظرين الشيوعيين، لا في فرنسا فحسب، بل في أوروبا والعالم بفضل كتاباته الغزيرة، وبحوثه الفلسفية المعمقة المضادة للرأسمالية الغربية، التي رأى فيها نظاماً وحشياً غير عادل، حوّل البشر إلى زبائن أغبياء للاستهلاك المادي دون خيارات أخلاقية. ناهيك عن 50 مليون نسمة من قتلى الحروب المحتدمة حول مفهوم السيطرة على التجارة والسوق والمصالح المالية.
وكان روجيه قد لجأ للفكر الماركسي كعجلة نجدة وخلاص طوال فترة ستالين الذي عاشره عن قرب، مقدراً أن ماركس يعالج خلل توزيع الثروة، بدليل أن قرابة 80% من ثروة العالم بيد 20% من سكان الغرب الأوروبي، وأن 6% من الأمريكيين يحوزون 50% من ثروة الولايات المتحدة الأمريكية، إلاّ أن السياسة السوفييتية الجديدة التي بدأها نيكيتا خروتشوف، وغزو تشيكوسلوفاكيا أحالا أحلامه اليسارية إلى حطام، ودفعه ذلك إلى نقد النظام الشيوعي، فانتهى به الأمر مطروداً من الحزب الشيوعي عام 1970.
3/ أدين بالحبس وبغرامة مالية جرّاء كتاب منتقد لدولة إسرائيل
في عام 1980 تعرّف غارودي على الفلسطينية سلمى الفاروقي في لقاء أكاديمي بجنيف السويسرية، فنشبت بينهما عاطفة قلبية ولذة عقلية، ولم تتأخر تلك العلاقة في أن تجمع بينهما إلى الأبد فتزوجا، بعدما أعلن غارودي إسلامه في سويسرا، سنة 1982.
خلّف إسلام روجيه غارودي صدمة كبرى في الأوساط الباريسية والعالمية، أما هو فقد برر، وقد صار اسمه "رجاء"، إيواءه الأخير تحت شجرة الإسلام بالقول: "الإسلام دين شامل، يوقّر جميع الأنبياء، من إبراهيم إلى السيد المسيح، لا بل إن الوصف الذي زكى به القرآن مريم العذراء كان له تأثير أعمق على روحي مما ورد عنها في الإنجيل. إن كل ما حلمت به في عمر العشرين وجدته في تجاربي العقائدية والروحية وفي هذا الدين، شعرت كما لو أن الإسلام لا يقصي الديانات الأخرى، بل يبني عليها ويتممها".
جابه الرجل عام 1996 محنة عظيمة، عندما أصدر كتابه الشهير "الأساطير المؤسِّسة للسياسة الإسرائيلية"، ورغم أنه ظل يؤكد أنه كتاب ضد الصهيونية السياسية، ولا علاقة له بالديانة اليهودية التي يحترمها، وأنه يكافح ضد العنصرية والتفوق العرقي لأي جنس ضد جنس آخر، فقد ألّب عليه ذلك تحالف الدوائر الفرنسية والإسرائيلية، التي ظلت تعاديه وتحاول عزله، منذ اعتناقه للإسلام، وهجومه على قادة إسرائيل، بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، ووصفه لهم بمجرمي الحروب.
ومع أن الكتاب لم يكن أهم مؤلفاته، غير أنه أثار سخط الصهيونية العالمية ضده، فتمت ملاحقته قضائياً بتهمة معاداة السامية، فأدين بالسجن الموقوف لـ9 أشهر، كما تكبد خسائر مالية كبيرة جراء غرامة مالية بـ240 ألف فرنك فرنسي.
وشيء واحد ساءه حقاً هو تخاذل لوبيات المال العربي عن دعمه في محنته العصيبة؛ ففيما لم يتأخر ثري عربي عن تمويل حديقة الألعاب والتسلية الأمريكية الشهيرة ديزني لاند بباريس بمبلغ نصف مليار دولار؛ لم يجد هو نزراً من المال لتسوية خلافاته القضائية، سوى ببيع كتبه، لا بل إن قوى سرية وضعت له العصي في الدواليب كي لا تصله مداخيل البيع، بشطب وتناسي رقم الحساب البنكي خاصته، كي لا يحصل على المال المطلوب، فبدا ملياً أن عقل فرنسا الأول يدفع إلى البؤس دفعاً، وأنه يتعرض لموجة أخرى من التهميش المعنوي والتهشيم المادي.
رغم قساوة ذلك الإفناء الذي لم يفت في عضده، لم يتراجع رجاء قط عن مواقفه، وظل وفياً لقدره الفكري، ممسكاً بجمرة الحقيقة، متحملاً حرقة النبذ والإبعاد والعزلة؛ إذ تخلى عنه الأصدقاء عدا القس المسيحي الشهير، أبي بيار، قبل أن يتعرض لأزمة أخرى، عندما أصدر الشيخ السلفي، عبد العزيز بن باز، فتوى تكفيره واتهامه بالنفاق والزندقة، هذا رغم أنه كان يجيب مبتسماً: "إنهم لم يطالعوا كتبي ليعرفوا أنني تحملت عبء الدفاع عن الإسلام عبر عشرات المؤلفات". تلك التي توجته مرتين فائزاً بجائزة الملك فيصل عن خدمة الإسلام سنة 1985، وجائزة معمر القذافي، وجلبت له دفاع الدكتورين يوسف القرضاوي ورمضان البوطي ضد حملة التكفير التي طالته.
4/ نهاية مأساوية.. مسجد باريس لم يصلِّ عليه ورفاقه أقاموا له صلاة الغائب
نشر غارودي قرابة 70 كتاباً في حياة امتدت به حتى سن الـ99، بينها سلسلة تُعنى بالإسلام مثل "المسجد مرآة الإسلام"، و"فلسطين أرض الرسالات السماوية"، و"وعود الإسلام"، و"الإسلام يسكن مستقبلنا"؛ حيث كان يرى من وحي نظرته الميدانية أن الإسلام هو أكثر الأديان نمواً في العالم في إفريقيا وآسيا والأمريكتين وفي الصين واليابان، وحتى داخل الإمبراطورية السوفييتية المعقدة.
وفي العقود الأخيرة لحياته، كرس غارودي وقته لخدمة مشروع لا يقل أهمية، من حيث النظرة الاستقرائية لمستقبل الإسلام، فأنشأ مؤسسة التراث بقرطبة؛ حيث كان يرغب في إحياء الحضارة الإسلامية انطلاقاً من الأندلس، ليعالج خلل تعطلها تاريخياً في إسبانيا منذ سقوط غرناطة عام 1492 ميلادية، في وقت لم يتوقف فيه عن الانتشار لقوته الداخلية في إفريقيا وآسيا والأمريكتين ووسط بلدان الكتلة الشيوعية والسوفييتية.
وهو لم يلجأ إلى التجربة الأندلسية اعتباطاً؛ إذ انتهى بعد البحث الفلسفي والديني للقول بأن حضارة الأندلس كانت أشمل الحضارات الإنسانية، فهي لم تنبنِ حول نظرة عنصرية بل إنسانية، شملت مسلمين ومسيحيين ويهوداً عاشوا تحت راية دولة مستقرة دينياً ومزدهرة معرفياً وعمرانياً، بفضل الترجمة الغزيرة للكتب العلمية، وكل ذلك الذي أسماه "إسلام الحكمة" يجسد المبدأ الأول للدين التوحيدي، ليس على صعيد العبادة، بل على الصعيد الاجتماعي في التأليف بين البشر وفق قيم مشتركة تنثر الخير للجميع.
لا أحد توقع أن المفكر الذي توفي صيف 2012، سيخلف مماته، كما حياته، جدلاً صاخباً؛ فهو لم يدفن في مقبرة، بل أحرقت جثته في محرق باريس، وسط لغط عظيم بين عائلته وكوكبة من أصدقائه ومسجد باريس، فعائلته قررت حرق جثته لأنه لم يكن مسيحياً، فيما رفض القيمون على المسجد صلاة الغائب عليه لأن جثته أحرقت، وليست لديهم وثيقة رسمية تؤكد إسلامه، فارتأى زملاؤه إقامة صلاة الغائب على روحه. ورغم تلك النهاية المثيرة للجدل فقد نعتْه كبريات الصحف والقنوات الفرنسية بعد أن تجاهلته، ووحده ربما كان توقع نهايته المأساوية عندما لخص سيرته الذاتية في كتاب بعنوان مثير هو "جولتي وحيداً عبر هذا القرن".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.