السر في الفلسفة.. لماذا كرة القدم هي اللعبة الأكثر شعبية في العالم؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/22 الساعة 11:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/22 الساعة 11:41 بتوقيت غرينتش
بيب غوارديولا - رويترز

مواجهة الواقع بصورة مباشرة متجردة من الاستعاراتِ، والاندماجُ في تياره الجارف ليستْ خياراً أمثلَ بالنسبة للإنسان، لأنَّ الحقيقةَ تبدوُ صادمة أكثر من الأوهام؛ لذلك يقولُ ماركيز دوساد: "الأوهامُ المُسلّمُ بها أفضلُ من الحقائق الفلسفية المُحزنة" ولا يصح أن يُحَمّلَ الكلام على أنه دعوة لترويج الوهم والتجهيل بل هو إدراك لضرورة تصريفِ التوتر والشعور بالاغتراب من خلال قنوات مُتعددة.

إذاً الاختزال في النظر إلى المشهد يعني التغافل عن الخصوصية الموجودة في التركيبة النفسية والسلوكية لدى الكائن البشري، وتميزهِ في البحث عن الوسائط التي تُمثلُ التطلع لإعادة ترتيب علاقته مع تحدياتٍ حياتية. ويتمكنُ من خلالها صياغة سردية جديدة ولعلَّ اللعبةَ تندرجُ ضمن هذه المساعي الرامية لتفجرِ الطاقةِ البلاغية في الواقع. 

اللافتُ في مجال اللعبة هو تكافؤ الفرص بالنسبة للجميع وبذلك تختلفُ عن بقية الفعاليات السائدة في الكيانات المُجتمعية، وغالباً ما تنطلقُ من الهامشِ الأسماء التي تخترقُ فضاءاتٍ مطبوعةٍ بمؤثرات ثقافة المركز.

ويُهتفُ في الاستادات حباً بأيقونات رياضية صاعدة من منطقة الظل. ولكن أياً كان الانتماء فذلك لا يمنعُ من اختطاف الأضواء والتفوق، وربما هذه الفرصة التي تتيحها اللعبةُ للحركة بعيداً عنْ المرجعيات بأشكالها المختلفة هي السرُّ وراء شعبيتها على المستوى العالمي.

وبالطبع، فإنَّ كرة القدم تأتي في المقدمة من حيث الجماهيرية، وتحولت إلى بورصةٍ للصفقات الخيالية، على أيةِ الحالُ فإنَّ ما يهمُ ليس الشق الاقتصادي بالموضوع؛ لأنَّ العالمَ بأسره قد أصبحَ متجراً كبيراً، بل المثيرُ في المشهد هو حظوة التفاعل مع حيثيات المُستطيل الأخضر. والطريفُ أنَّ الكاتب الأوروغواياني "إدواردو غاليانو" يشيرُ إلى دور الكتاب الذي قد نشرهُ عن كرة القدم في إنقاذ حياة شخصية سياسية، وإذ ينقلُ صاحب "كتاب المُعانقات" عن (فيكتور كونتانا) بأنّه وقع في 1997 بيد القتلة المأجورين وانهالوا عليه ضرباً، وبينما هو على مشارف الموت تناهى إلى سمعه بأنَّ أفراد العصابة يتحدثون عن الكرة فإذا به يشارك في النقاش مُدلياً برأيه ولم تكنْ معلوماته إلّا ما قرأه في كتاب إدواردو غاليانو، وبذلك قد استعاد حريته المُصادَرة. 

روحية الفريق

تؤكدُ القصة المشار إليها آنفاً على ما تبثهُ اللعبةُ من مبدأ التشارك بين أفراد الفريق ومُحبي الساحرة المستديرة. وبدوره اعترف ألبير كامو بأنَّ الرياضة كانت شغله الشاغل، لافتاً إلى أنَّها المجال الوحيد الذي تلقى فيه دروس الأخلاق. يُذكرُ أنَّ مؤلف "الإنسان المُتمرد" كان يلعبُ حارساً للمرمي في فريق جامعة الجزائر. وعندما سُئل أيهما يفضل المسرح أو كرة القدم ؟

فقد آثرَ اللعبة على أقدم فنٍ في التاريخ. وكانَ مُحقاً في ذلك لأنَّ التشويق في اللعبة يكمنُ في عنصر اللامتوقع وعلى الرغم من توجيهات المدرب الذي هو بمنزلةِ المخرج في المسرح غير أنَّ ما يشهدهُ الملعب قد لا يتطابقُ مع ما خطّهُ مُسبقاً على أوراقه ولا يقعُ ضمنَ حساباتهِ فيما الخروج عن النصِ وآلية توزيع الأدوار على الركح يعتبرُ استثناءً في الاشتغال المسرحي.

لا يتقيدُ المُتابعُ للعبة ذهنياً بسيناريو جاهز إنما ينفتحُ على احتمالات مُتعددة؛ لذلك لا غرابةَ في احتفالهِ بفوز فريقهِ حتى ولو كان واثقاً بتاريخه وامكانياته. وهذا ما يضاعفُ من المتعة في العرض.

يضربُ سارتر بكرة القدم مثالاً لإضاءة المبادئ الفينومينو لوجية شارحاً بأنَّه حين يرى المباراة يراها بوصفها مباراةً وليس بوصفها مشهداً بلا معنى يتنافسُ فيه عددُ من الأشخاص ملاحقين شيئاً مستديراً. ما يعني أنَّ من تجربة المشاهدة يتولدُ المعنى والمُتعة. ومن الواضحِ أنَّ ما يشدُ المتابعَ إلى الفنون والأعمال الأدبية هو لفحة الفانتازيا وجنوح التخيُّل؛ إذ يتمُّ التوسل بالمؤثراتِ الصوتية والضوئية والبصرية لإنشاء عوالم موازية تتخففُ فيها القيود والإكراهات المؤطرة للواقع. وبهذا يكونُ الفنُ تعويضاً عن اللذة غير المحققة.

هنا لا مهربَ من التساؤل أينَ الخيالُ من اللعبة؟ وهل يكونُ دورها تعويضياً على منوال بقية الفنون الأخرى؟ لاشكَ أنَّ التماهي مع الفريق والتضامن الشعوري مع أفرادهِ يسدُّ فراغات نفسية لدى المُتابعِ، وبالطبع يسحبُ تأثير هذه الحالة على اللاعبين قبل الجمهور.

يفصحُ ما قالهُ كامو بشأنِ حبه لفريقه عن التآلف الوجداني بين المشاركين "لقد أحببتُ فريقي حُباً جماً من أجل فرحة الانتصارات بالغة الروعة حين ترتبطُ بالتعب الذي يتبعُ الجهد، ولكنَّي أحببتهُ أيضاً بسبب الرغبة البلهاء للبكاء في أُمسيات الهزيمة".

الإثارة في اللعبة

الإثارة في اللعبة تقومُ على ما يقدمهُ اللاعبُ مباشرةً أمام جمهوره ولا وجود للجدران الفاصلة بين الطرفين؛ إذ ما أن يسجلَ هدفاً حتى يركضَ نحو الحضور ملوحاً بما يعبرُ عن تقاسم الشعور بالسعادة القصوى مع المشجعين الأمر الذي يصعدُ من زخم الأجواء التفاعلية في الملعب.

ما يأخذُ بالتشويق إلى مدىً أقصى ويجعله متفرداً ليس إلا الفنيات العالية في الاستعراض؛ بحيثُ ما يقعُ عليه البصرُ أحياناً يفوقُ مستوى المخيلة لدى الجمهور والمدرب في آن واحد.

الدليلُ على ذلك رؤية الحركات التي تعبرُ عن شدة التأَثر فالمدرب المتموضعُ على تخوم الخط مرتدياً طقماً أنيقاً يتأملُ المواجهة فجأةً يقفزُ في الهواء محتضناً كل من يراهُ، وربما يصادف حسناءً، وبذلك يكون من الفائزين المحظوظين. أو يربتُ على رأسه، كما فعل زين الدين زيدان أكثر من مرة مباغَتاً بمهارات استعراضية لعناصر فريقه.

ومن نافلة القول أنَّ الرشاقة في الأداء والخفة في الحركة والسرعة في القرار من مواصفاتٍ مشوقة في اللعبة، ومن المناسب الإشارةُ إلى ما يقولهُ اللاعب الهولندي الشهير آرين روبن عن المشهد الذي كان يتابعهُ العالم عندما انفرد مُهاجمُ فريق الطواحين بالكرةِ في المباراة الاخيرة لنهائيات كأس العالم 2010 التي جمعت بين فريق بلاده وإسبانيا، مشيراً إلى أنَّه كان عليه أن يتخذ القرار في جزء من الثانية وهو أمام حارس المرمي للفريق الخصم إيكر كاسياس وجهاً لوجه، وعُرف عن الأخير براعته في صد الكرات والحد من خطورة اللاعبين، موضحاً أنه سدد بالكرة نحو زاوية مناسبة لذلك لا يتحسرُ على عدم استقبال الشبكة لكُرته.

مدرب نادي ريال مدريد السابق زين الدين زيدان/رويترز
مدرب نادي ريال مدريد السابق زين الدين زيدان/رويترز

المؤثر في كلام روبن هو تمكنه من استعادة تفاصيل هذه اللحظة، ومن ثم عدم إبداء الشعور بالندم، والثقة بصحة قراره، والأهم من كل ذلك هو الذكاء في التعامل مع مهلة زمنية وامضة. هل يحصل هذا الأمر خارج حلبات اللعبة؟

البُعد الحضاري

قد يرى البعضُ في اللعبة عموماً، وفي كرة القدم خصوصاً، عبثاً وتفاهةً. صحيح أنَّ الغرض من اللعبة هو التسلية بالدرجة الأولى وقد يلجأُ إليها الناسُ هرباً من الأزمات المضنية، لكن لا تخلوُ اللعبة من رمزية حضارية وثقافية. فأصبحت النوادي الرياضية إلى جانبِ الفرق الوطنية تُعبرُ عن حيوية المجتمع وشغف مواطنيه بالحياة والمرح.

زِد على ما سبق متابعة مباريات كرة القدم؛ حيث لم تعدْ متعةَ بالفرجة أو المشاهدة فحسب، بل التعليق المصاحب لوقائع اللعبة يفتحُ مجالاً للتشابك مع الحقول اللسانية والمعرفية، كما ترى ذلك في هذه العبارة "تجاوز غوارديولا الخيط الضيق بين العبقرية والجنون"، كذلك فإن ما يقدمه عصام الشوالي يُعدُّ تغطية بلاغية تنزاحُ فيها المفردات نحو سياقات مختلفة، هذا إضافة إلى أن اللمحات التاريخية الموجزة التي يسردها عن الملاحم الكروية تكشفُ عن خلفية الثقافة الرياضية لدى الشعوب، كما يتعاملُ المعلقُ بمنطق تحويلي مع نصوصٍ أدبية ملفوظات مأثورة ويطوّعها بما يكملُ المتعة الفرجوية "لو كانت العارضة رجلاً لقتلته". أكثر من ذلك فإنَّ مطالبةَ المعلق من المدرب بضرورة عدم الانسياق وراء الأخطاء وتخميناته بشأنِ ما يجريه من التغييرات في المستطيل الأخضر كل ذلك ينزلُ ضمن ما يمكن تسميته بميتا اللعبة.

طبعاً لاحظتُ أنَّ بعض المعلقين يتفاعلون بقوة مع قرارات المدرب، فكان الشوالي يرجو من بيب غوارديولا ألّا يتفلسف في مباراة فريقه مع واتفورد، كأنَّه أراد بذلك القول بأنَّ ما كتبته على لوحتك يا فيلسوف لا يطابقُ تماماً مجريات الساحة، لأنك غالباً ما تأخذ دور الصدفة بنظر الاعتبار عندما ترسمُ خطتك.

أخبرني أحدُ الأصدقاء أنَّ الملحمة الكروية بين مانشستر سيتي وريال مدريد قد سحبته إلى أجوائها لدرجة لم ينظر إلى هاتفه الجوال على امتداد الفترة التي استغرقها اللقاء؛ ما يعني أنَّ بلاغة اللعبة أكثرُ إغراءً مما يعرضُ على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

كه يلان محمد
كاتب عراقي مهتم بالثقافة والأدب والفلسفة
كاتب عراقي مهتم بالثقافة والأدب والفلسفة
تحميل المزيد