اكتشفت من خلال تجربتي كأُم أن عملية التربية سهلة في أهم جوانبها، والذي هو "تربية الولد على الإسلام والعقيدة الصحيحة"، وأن الأطفال يولدون بخمسة أمور تُسهل على الوالدين التربية والتوجيه، فما هي؟
1- كل مولود يولد على الفطرة، أي يولد موحداً مؤمناً بالله، وعلى الوالدين فقط المحافظة على هذه الفطرة وصيانتها من التشوّه والانحراف.
2- ويولد ولديه القدرة الكاملة على الاتجاه إلى الخير، وهذا ما نريده (وإن كان لديه أيضاً إمكانية الاتجاه إلى الشر).
3- ويولد وعنده حس الفضول وحب الاستكشاف والاستعداد التام للتعلم.
4- ويولد وقد حمل في جيناته صفات وراثية قد يصعب محوها، ويولد بطباع لا يسعنا التحكم فيها ولا تغييرها، ولا يمكننا تشكليه على هوانا.
5- ويولد ولديه حب التقليد والانتماء لجماعة.
وهذه الخمسة تقلل من عبء عملية التربية الملقاة على الوالدين. فما دور الأم والأب مع طفل قد وُلد جاهزاً؟!
الطفل يولد جاهزاً كالبذرة الجيدة المستعدة للإنبات، وواجب الوالدين يكمن في تعهد هذه النبتة بالتربة الصالحة (أي إصلاح نفسيهما ليكونا قدوة جيدة)، وكل نوع من النبات يحتاج لشروط معينة خاصة لينمو نمواً سليماً (من حيث الحرارة وكمية الماء والضوء)، وعلى الوالدين تعهد هذه النبتة بالطريقة الملائمة لفصيلتها (فكل طفل له قدراته واستيعابه، وأسلوب خاص يتقبل به التوجيه).
مثلاً: النبتة تحتاج إلى السقي باستمرار (أي تكرير التوجيه والتنويع في أسلوبه)، فإذا اصفرت النبتة أضافا السماد (أي استعانا بطرف ثالث كالعم أو الأستاذ)، وإذا اعوجت قوّماها ولو بعود (أي بصديق صالح)، وإذا لحقتها آفة رشّاها بالمبيد (أي قطعا أسباب الفساد بالعقاب أو الحرمان)، وهكذا.
فما هي التربية؟ وما المطلوب من الأم والأب في طفل قد ولد جاهزاً؟
– المطلب الأول: "المحافظة على الفطرة"
من أول واجباتنا تربية الأبناء على الإسلام، والله سبحانه وتعالى وفّر علينا كثيراً حين جعل الطفل يولد مؤمناً موحداً، والمحافظة على الموجود أسهل من الإتيان به من العدم.
والمحافظة على الفطرة تكمن في تنمية التقوى في القلب وتعظيم الخوف من الله، وتكون بكثرة ذكر الله أمام الصغار: "بسم الله" نبدأ أي عمل، "الحمد لله" كلما أصابنا خير، وننسب كل نعمة إلى الله، ونتحدث أمامهم عن كرمه وفضله بما أعطانا من حواس ومواهب، ونشكره باللسان وبالصلاة وبالصدقة.
وإن وصل للطفل ما يَسُره من لعبة أو حلوى أو هدايا ظريفة قولي له: "الله يحبك، ولذا وهبك لعباً وطعاماً لذيذاً وشراباً…"، وفي مرة أخرى قولي له: "لأنك أطعت أمك أعطاك الله هذه المكافأة"، وإن أصابه ألم أو وقع به مكروه قلنا له ادعُ الله يفرج عنك.
ومهما حدث نستعن بالله، فهو معنا دائماً ناظر إلينا ومطلع علينا، وحتى لا يحزن الابن على ما فاته ولا يفرح بما آتاه الله، اربطي كل أمر بالقضاء والقدر، فيكون الله هو الملجأ وهو الملاذ، وهو المؤنس والرفيق، ويكون مع الطفل دائماً في الفرح والحزن.
ولا تنسي تحذير الصغير من كل قبيح (مثل الكذب والغش) ولو في الخفاء لأن الله يراه ومطلع عليه، والمعاصي تغضب الله، وغضب الله مخيف، لأنه سيحجب الهدايا والملابس الجميلة والنزهات الممتعة، ولا طاقة لنا بغضب الله.
وحين تكون الفطرة نقية يسهل على الوالدين الانتقال إلى المرحلة التالية.
– المطلب الثاني: "تغليب الخير على الشر"
ويولد الطفل وقد هداه الله النَّجدين؛ طريق الخير وطريق الشر، والإنسان إذا تُرك تغلَّب نجد الشر، ونزع للعدوانية وكبرت فيه الأنانية، وصار هلوعاً جزوعاً منوعاً ظلوماً جهولاً، وواجبنا نحن المربيات تغليب نجد الخير على نجد الشر وتعليمه الفضائل والأخلاق الكريمة؛ فنعلمه حب الخير للناس، وكف أذاه عنهم، فإن آذوه دفع الأذى بما يستطيع ولا يكون هو البادئ بالظلم إطلاقاً.
تغليب الخير على الشر يتحقق بالتوجيه اليومي، وأكثر ما يفيد مع الصغير "الكلام" الهادئ الموجه، والمعلومات العلمية لها دور فعال في هذا المجال، فكلميه دائماً عن الأشياء التي خلقها الله وعن استعمالاتها الصحيحة، الله خلق العينين لنتفكر في خلقه ونستعين على عبادته، فلا تتبع بهما عورات الناس ولا تنظر من ثقوب الأبواب… وأيضاً الأشياء التي صنعها البشر واستعمالاتها الصحيحة، وكيف يتسبب الاستعمال الخاطئ في الفساد، الكُرة مثلاً صنعت ليلعب بها الأولاد، ولو رماها الطفل على النافذة عمداً لكسرتها وآذت الناس.
تنبهيهم بلطف وحب، حاولي تغييرهم نحو الأحسن بالتوجيه المباشر أو القصص، أو ربطهم بالصديق الصالح العالي الخلق. واستَبِقي الأحداث، وبغِّضي لأبنائك من صغرهم كل ما هو كريه، مثلاً انظري شزراً لكل مدخن، وتحدثي بإسهاب عن مضاره وعن كل ناحية سلبية فيه.
ولا سبيل لديك "لتغليب الخير على الشر" إلا بالكلام، والتكرار مع تنويع الأساليب.
– المطلب الثالث: "التفقه في الدين والحياة"
وتتلخص هذه المرحلة في تعليم الولد الفروض الأساسية، وبعض الخلق والتوجيهات الاجتماعية. وهذه الأمور يتعلمها الصغار بالقدوة، فإذا صام الأهل صام الصغار وسألوا: "كيف يكون الصوم؟"، وإذا ذهب الأب إلى صلاة الجماعة رغبوا في مرافقته وتعلموا أصول الجمعة والجماعة، وهكذا يمشي الأبناء مع ذويهم حتى يأتي يوم يتقنون فيه كل ما هو مطلوب منهم.
ويولد الطفل جاهلاً بالآداب الاجتماعية، ومفتقداً إلى بعض الأخلاق الحميدة، فيحتاج لبعض الصّقل، وهذه يتعلمها كل في مناسبتها، وهذا مهم وضروري جداً، وإن لم يتعلمها الصبي في وقتها لم يتعلمها أبداً، وإليك الطريقة:
حين تجتمع العائلة كل يوم ثلاث مرات على الطعام يتعلم آدابه؛ فإذا رأى أمه تسكب مما يليها تعلّم منها، وإن فتح فمه وهو يأكل أرشدته لإغلاقه.
وفي كل لحظة وفي كل يوم يتعلم الولد شيئاً من الآداب؛ فحين يقتحم الصغير غرفة أمه تنهاه ألا يدخلها مرة أخرى دون استئذان، وحين تذهب معه لزيارة الأقرباء تعلمه أن يقرع الباب مرة واحدة، وينتظر مقدار ركعة ثم يقرعه ثانية، وأن يقف وظهره للباب بحيث لا يرى باطن الدار…
ويُحبذ لو نسأل الصغار عما يدور بينهم وبين أقرانهم، لنعلم كيف هم في غيبتنا، ولنصوب السلوك، فإذا بخسوا الناس أشياءهم نوهنا إلى حرمته، وإذا فعلوا منكراً حذرناهم من تكراره، وهكذا ومع ظروف الحياة المختلفة ومع متابعة الأم يتعلم الأبناء كل يوم شيئاً من الأشياء التي يحتاجونها، ويعرفون أن للحياة قوانينها، وأن الدين اعتنى بأمورنا كلها، والسنة مليئة بالإرشادات والتوجيهات الهامة، وسوف يحفزهم هذا للسؤال عن القوانين الأخرى وعن السنن التي يجهلونها، وسيسألوننا عن كيفية التصرف في المواقف التي تواجههم في المدرسة وفي النادي، وعن رأي الإسلام فيما يعترضهم من مشكلات، وهكذا حتى يصلوا إلى يوم قد اكتمل فيه تثقيفهم وتعليمهم وتهذيبهم.
-المطلب الرابع "معالجة الصفات الوراثية السيئة وتعديلها وتثبيت الحسنة ومباركتها"
الناس معادن، وكل طفل يولد بمزايا عظيمة ويولد ببعض العيوب، وهذه الخصال تأتيه بالوراثة من والديه، وعلى الأقل لا بد أن يقوم الوالدان على تعدِين ولدهما، أي يعملان على اكتشاف المعادن الثمينة في ابنهما، ثم يقومان باستخراج هذه المعادن الأصيلة الأصليّة من مكامنها، ليستفيد صاحبها منها ويستثمرها في علاقته بربه وبذويه.
ولا بد من اكتشاف الخَبث في شخصية الطفل واستبعاده، وتقويم العيوب التي وُلد بها، وإدخال بعض التعديل على شخصيته (التي وُلد عليها) ليصبح فرداً صالحاً. ويحصل هذا بمراقبة الطفل، وكلما تنبّه الأهل إلى خير في ولدهم أثبتوه وباركوه، وكلما اكتشفوا شراً فيه حاربوه ومحوه.
مراقبة الأطفال تكون منذ الولادة وإلى ما بعد البلوغ، مع الانتباه الدقيق إلى سلوكهم لتحديد صفاتهم السلبية والإيجابية، ومراقبة كلامهم لاكتشاف قناعتهم ودوافعهم، وملاحظة شخصياتهم بدقة وعمق لمعرفة مواطن القوة والضعف فيها، مع الاهتمام بما يطرأ عليهم من تغيّرات خلال الأشهر والسنين.
واعلمي أن طفلك يولد جاهزاً بصفاته ولا يمكنك تشكيله كما تشائين، ولو كان الأمر كذلك لكان الناس في كل بلد أمة واحدة وشخصية متماثلة. أو لكان أولادك طبعة واحدة، وليسوا كذلك، وابنك متفرد في شخصيته، فدعيه كذلك واتركيه على سجيته وطبيعته (ما دامت مقبولة اجتماعياً وفي حدود الشرع)، ودورك يكمن في مراقبة ذلك الصغير، وتعديل الأخطاء وتعليمه الدين والخلق.
وواجبنا نحن المربين الوصول بالطفل إلى أفضل صورة وأحسن سلوك بحسب جهدنا البشري. ثم الاتكال، ولعل الله يجعل من أولادنا ذرية طيبة وقرة أعين.
– المطلب الخامس "المتابعة المستمرة والمثابرة والدأب على المراقبة والتوجيه وتجنب الإهمال أو اليأس والملل".
فالصغار ينسون ويلهون ويصرفهم اللعب واتباع الهوى عن الالتزام بما علموه، فذكريهم، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وفي انتباهك لهم ودأبك على تعديلهم يكمن سر النجاح في عملية التربية.
ولا تنسي أطفالك من دعائك المستمر ليستقيموا لك.
والخلاصة:
نحن لا نستطيع تبديل طباع الأبناء تبديلاً جذرياً، ولا يمكننا تحييد الظروف والعوامل الخارجية المؤثرة سلباً، على أننا نستطيع تشكيل عقول أبنائنا وصوغ مبادئهم، وتغيير طريقة تفكيرهم، ونستطيع تدريبهم على النظام والنظافة، ليكونوا لبِنات صالحة وفعالة… وهذا ما يعطي "التربية" القوة الخارقة، وهو ما يجعلها الأداة الوحيدة القادرة على الرقي بالمجتمعات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.