استقر الأمر للمسلمين في مصر عام 642 ميلادية، على يد القائد عمرو بن العاص، الذي دائماً ما يوصف بأنه داهية سياسية، وأحد أنياب العرب، ومن ثم، لم يغير شيئاً يُذكر في نسق الحياة المعتادة لدى المصريين، بل سوف يستعين بالكثير من الأقباط في أمور كثيرة، خاصة ما يتصل بشؤون الخراج، وهي السياسة التي يُفهم منها ضمنياً أن القبطية ظلت هي اللغة السائدة حتى في الدواوين الحكومية.
تذكر تقريباً جميع المصادر التاريخية أن الجيش الذي قدم به عمرو بن العاص كان ما بين 3500 و4000 جندي، ثم وافاه مدد من الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لاحقاً بما يوازي 12 ألف جندي. وبالتالي هي ليست بالأعداد التي يمكن أن تغير من ثقافة ولغة شعب كالشعب المصري بسهولة.
كانت السيطرة على مصر من قِبل المسلمين ضرورة لتأمين بلاد الشام، التي غزاها المسلمون من قبل، علاوة على تخوف المسلمين من هجمات البيزنطيين من خلال القلزم (السويس حالياً)، ثم إن خيرات مصر لم تكن بعيدة عن أذهان العرب، فمن الثابت تاريخياً أن عمرو بن العاص زار مصر تاجراً قبل الإسلام، وبالتالي كان يعلم ما تتمتع به من خيرات وثروة.
قانون الارتباع
تتساءل الدكتورة سيدة إسماعيل الكاشف في كتابها (مصر في عصر الولاة من الفتح العربي حتى الدولة الطولونية) ص 145، عن السبب الذي جعل شعباً عريقاً في المدنية كالشعب المصري يتنازل عن لغته ويتخذ لغة شعب غازي، لا يوازيه في الحضارة، في حين أن ذلك لم يحدث مع غزاتها الكُثر من فرس ويونان ورومان، ولا حتى أثناء الاحتلال العثماني، الذي دام قروناً طويلة، ومحاولته فرض اللغة التركية، على الأقل رسمياً.
ومصر في هذا الصدد تمثل ظاهرة تلفت الأنظار، بالنسبة لبلاد إسلامية مثل إيران، التي لم تترك لغتها الأم بعد اعتناق أهلها للإسلام، خاصة أن مصر تتميز بشدة التمسك بكل ما هو وطني، ضد كل ما هو دخيل، ووافد عليها. ربما نجد الإجابة عن هذا التساؤل المهم في قانون الارتباع، ولكن ماذا يعني هذا القانون؟
أسس عمرو بن العاص مدينة الفسطاط، بالقرب من حصن بابليون، الذي استعصى عليه اقتحامه، طيلة سبعة أشهر، واتخذ منها عاصمة ومستقرًّا لجنوده، وبالتالي، لم يكن هناك اختلاط كبير بالأقباط، إلا أنه قد استن قانوناً سُمي بالارتباع، وهو تعبير مشتق من الربيع، حين تكسو الخضرة أرض مصر وتزهر بساتينها، وتُجمع محاصيلها، وفي تلك الفترة كان عمرو بن العاص يأمر الجنود بالذهاب إلى قرى وأرياف مصر بخيولهم، كي ترعى في حقول البرسيم، حتى تسمن، ويمارسون رياضة الصيد، وهي هوايتهم المفضلة، وكان للعربي حق اختيار أي بيت للإقامة فيه طيلة ثلاث ليال، يمكن أن تطول، ويبدو أنها كانت بالفعل تطول، فاضطرت الأسر القبطية إلى تعلم لغة الضيف، للتفاهم معه، وبالتالي بدأت العربية في الانتشار بين الأقباط.
لا يمكن أن نتجاهل أيضاً دور الهجرات المتعاقبة للقبائل العربية واختلاطها بالمصريين.
التعريب
من المعروف تاريخياً أنه في بداية العصر الإسلامي كانت اللغات المستخدمة في الدواوين الحكومية هي اللغات المحلية، مثل اليونانية في الشام، والفارسية في العراق، والقبطية واليونانية في مصر، وظل الأمر على الحال نفسها، حتى خلافة عبد الملك بن مروان، وهو الخليفة الأموي الخامس (664ـ 705م) ويعده الكثير من المؤرخين المؤسس الثاني للدولة الأموية، وفي عهده جرى تعريب دواوين الجند، والخراج، والبريد.
كان جُل هدف الخليفة الأموي هو صبغ الإدارة المالية للدولة بالصبغة العربية الإسلامية الخالصة، وتمكين المسلمين من الإشراف على الإدارة المالية إشرافاً تاماً، مقدمةً لأسلمة الاقتصاد وتعريبه، حيث ضُربت العملة الإسلامية الخالصة، لتحل محل العملات الأجنبية من الدينار البيزنطي، والدرهم الفارسي.
كان لهذا القرار عظيم الأثر في اللغة العربية، حيث بدأت أول عملية ترجمة منظمة إلى العربية من الفارسية واليونانية، وبالتالي، انتقال الكثير من المصطلحات الجديدة إليها، علاوة على ظهور طبقة من الكتاب المسلمين. ومحلياً، أثر هذا القرار في الكثير من أقباط مصر، في محاولة تعلم العربية سبيلاً وحيداً للاحتفاظ بمناصبهم القديمة.
تذكر الدكتورة سيدة إسماعيل الكاشف، في كتابها الذي تمت الإشارة إليه سابقاً، ص 122، أن "أول من أمر بترجمة الكتاب المقدس إلى العربية كان الأصبع بن عبد العزيز بن مروان (86 هجرية أو 705م)، مع عدة كتب دينية مسيحية أخرى، ليعرف المسلمون إذا كان بهذه الكتب ما يمس الدين الإسلامي بسوء".
ولكن ظهور طبقة من الأقباط تجيد العربية، للعمل في الدواوين الحكومية، متى وجدوا إلى ذلك سبيلاً، لا يعني انتشار العربية على نحو كبير بين الشعب، ولهذا يُحكى أن الخليفة العباسي المأمون عندما زار مصر في عام 831 ميلادية، وتجول في أسواقها، عندما جاءها بنفسه لإخماد ثورة البشموريين -يميل بعض الباحثين إلى اعتبار فشل ثورة البشموريين السبب الرئيسي في ضعف الوجود المسيحي بدلتا مصرـ والتي وقعت نتيجة التعسف، من قبل والي المأمون في الجباية، والتي استعصى إخمادها على أخيه المستعصم في البداية، ثم قائده أفشين لاحقاً، احتاج إلى دليل ومرشد طيلة إقامته، التي استمرت 49 يوماً، وقد ذكر المقريزي عن ذلك "وكان لا يمشي أبداً إلا والتراجمة بين يديه من كل جنس"، ويشاع أن دليله كان العالم المصري أيوب بن مسلمة؛ مما يعني أن العربية لم تكن قد ترسخت لدى الشعب المصري حتى القرن التاسع الميلادي.
هناك سبب آخر لانتشار اللغة العربية بين الأقباط علاوة على قانون الارتباع، الذي أشرنا إليه سابقاً، وأيضاً هجرة الكثير من القبائل، ألا وهو ما حدث أثناء خلافة المعتصم، وهو الخليفة التالي للمأمون، حيث أرسل لواليه على مصر كيدر بن نصر بن عبد الله، بوقف دفع مرتبات الجنود من الضرائب (العطايا)، وأمر بإرسالها مباشرة إلى بغداد، حيث اتضح له الشطط والمغالاة من قبل الجنود في جمع الضرائب، وكذلك أبعد العائلات العربية عن ديوان الجند، وأرسل العطايا من بغداد إلى الجنود الأتراك المتمركزين في مصر فقط؛ لأنهم كانوا أهل ثقته، وبالتالي، لم تجد هذه القبائل العربية -التي كان نشاطها ينحصر فقط في المجال العسكري منذ عهد عمرو بن العاص- بعد انقطاع دخلها سوى الاختلاط بالأقباط على طول الوادي بشكل مكثف من أجل اكتساب الرزق، ومن هنا بدأت اللغة العربية في الانتشار بشكل مكثف بين الأقباط.
الحاكم بأمر الله وبداية النهاية للغة القبطية
خضعت مصر عام 972 ميلادية للفاطميين الذين استقطعوها من الخلافة العباسية ببغداد، والذين تباينت سياستهم تجاه المسيحيين أيما تباين. فاتسمت سياسية الخليفة الأول لهم بمصر، وهو المعز لدين الله، بالتسامح الشديد مع المسيحيين، ومن بعده ابنه العزيز بالله، الذي قيل إنه تزوج من سيدة مسيحية ملكانية، يذهب البعض إلى أنها أم ابنه الحاكم بأمر الله. ومن مظاهر حبه لها أن جعل أحد أخواتها بطريركاً على بيت المقدس، والآخر بطريركاً على الإسكندرية. ولكن الأمر اختلف بشكل جذري مع وصول الخليفة الحاكم بأمر الله إلى سدة الحكم.
تميزت خلافة الحاكم بالاضطراب الشديد، ومرجع ذلك هو شخصيته العجيبة. فمنذ عام 1005 ميلادية، استبدل بسياسة التسامح التي انتهجها أسلافه، في التعامل مع المسيحيين سياسة أخرى متشددة، ومتعنتة، وأصدر سلسلة من الأوامر، تحتوي على الكثير من الممنوعات وتتوعد من يقدم عليها بالعقاب بالقتل أو التعذيب.
يذكر الدكتور أيمن فؤاد سيد في كتابه (الدولة الفاطمية في مصر تفسير جديد) ص 98: "ألزم أهل الذمة بلبس الغيار، ومنعهم من دخول حمامات المسلمين، وهدم كنائسهم، وبيعهم، وأمرهم باعتناق الإسلام أو الخروج إلى بلاد الروم، مما اضطر الكثيرين إلى اعتناق الإسلام كارهين".
كذلك أمر بحرق كنيسة القيامة، ببيت المقدس، وهو الأمر الذي يعده الكثير من المؤرخين سبباً مباشراً للحروب الصليبية. مع أن المصادر نفسها تعود لتؤكد أنه أعاد بناءها مرة أخرى، ثم أبدى قدراً من التسامح في نهاية أيامه مع المسيحيين، قبل أن يُقتل على يد أخته ست الحكم وتختفي جثته للأبد.
وفيما يتعلق باللغة القبطية، فقد أمر بإبطال استخدامها، وتعهد بقطع لسان كل من يتكلم بها، في الشوارع، والأسواق، أو حتى في المنازل مع أولاده. مثل هذا القرار الضربة القاضية للغة القبطية، حيث بدأ الناس في تعلم العربية، خوفاً من بطش الحاكم، ومع الوقت، أصبحت القُداسات تُقام بالغة العربية، التي يبدو أن قطار انتشارها كان قد انطلق بأقصى سرعته، ليس في مصر فقط، بل في العالم أجمع، فمع نهاية القرن الثاني عشر كانت اللغة العربية قد أصبحت لغة العلم والحضارة على مستوى العالم، ويتسابق الجميع على تعلمها، بعد أن استطاعت من خلال الترجمات أن تستوعب كل تراث العالم القديم في مصر، وبابل، واليونان، وبالتالي، فمن الظلم أن نطلب من اللغة القبطية أن تصمد بشكل كامل أمام لغة باتت الأهم في العالم في ذلك الوقت. وفي هذا الصدد يذكر الدكتور زكاري لوقمان، أستاذ التاريخ الحديث للشرق الأوسط بجامعة نيويورك، في كتابه المهم (تاريخ الاستشراق وسياساته) ص 71، نقلاً عن الشاعر الإسباني بول ألفاروس: "يحب المسيحيون قراءة أشعار وقصص العرب، ويدرسون الفقهاء والفلاسفة العرب، لا ليفندوها بل ليكتبوا بلغة عربية صحيحة وفصيحة، وأسفاه على الشباب المسيحي الموهوب، يقرأ الكتب العربية ويدرسها بحماس، لقد نسوا لغتهم. فمقابل كل فرد قادر على أن يكتب خطاباً باللاتينية إلى صديق، هناك ألف ممن يستطيعون التعبير عن أنفسهم بالعربية بفصاحة، وكتابة قصائد بهذه اللغة أفضل من العرب أنفسهم".
هكذا وبعد أن تسيدت اللغة العربية، أخذ علماء الأقباط يصوغون مؤلفاتهم باللغة العربية، مثل أولاد العسال، وجرجس بن العميد، وأبو شاكر بن الراهب، والقس بطرس السدمنتي. وكان أول من ألف كتاباً مسيحياً باللغة العربية، هو الأسقف ساويرس بن المقفع، مؤلف (تاريخ بطاركة كنيسة الإسكندرية القبطية).
ولهذا يُذكر أن البابا غبريال بن تريك، وهو البطريرك السبعين (١١٣١-١١٤٦م)، عندما وجد أن الغالبية من الشعب لم تعد تفهم اللغة القبطية، أصدر أوامره بقراءة الأناجيل والعظات الكنسيّة وغيرها من القراءات باللغة العربية بعد قراءتها بالقبطية.
في الحلقة القادمة والأخيرة، من هذه الثلاثية، نستعرض محاولات إحياء اللغة القبطية، مع عرض موجز لبعض مفرداتها التي لا تزال تتداولها ألسن المصريين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.