إبّان الحرب العالميّة الثانية، عرف العالم العربيّ موجة تعاطف ومساندة كبيرة لألمانيا النازيّة والمحور ضدّ الحلفاء، وهتف العرب باسم هتلر مناصرين. لم يكن مردّ ذلك تبنّي العرب للفكر النازي، فمعظمهم في ذلك الزمن لا يفقه شيئاً منه، كان الأمرُ ردّ فعل تجاه إمبراطوريّتي الاحتلال الفرنسيّ والبريطانيّ الغاصب لجلّ البلاد العربيّة، لذلك من باب عدّو عدوّي صديقي تعاطفوا مع الألمان والمحور، وشمتوا في محتلٍّ أعياهم ونكّل بهم؛ إذ يرون هيبته تمرّغ في الوحل، وأسطورة استعصاء هزيمته تهوي أمامهم، رأوا في ألمانيا الهتلريّة فرصة انزياح غمّة الاستعمار، وألهمتهم أملاً أنّهم قادرون على دحره.
مثّلت دول المحور وجهة لبعض المناضلين السياسيين العرب، ويُعتبر ما قام به مفتي القدس الحاج محمّد أمين الحسيني أهمّ تحرّك سياسيّ لمحاولة الاستفادة من ألمانيا لضرب الوجود البريطانيّ والفرنسيّ في البلاد العربيّة. التقى المفتي بموسوليني بدايةً ثم بهتلر، ووجد تحفّظاً منه في البداية بشأن إعلان صريح بمساندة المحور للشعوب العربيّة لاعتبارات سياسيّة، توجّساً من توتّر العلاقات مع حلفائه (حكومة فيشي خصوصاً). أقام في ألمانيا خلال الحرب العالميّة، حيث تمكّن من تحقيق مكاسب لصالح الأمّة الإسلاميّة والعربيّة بإقناع زعماء المحور بتشكيل جيش بوسنيّ أوقف مدّ الإرهاب والمجازر الصربيّة الوحشيّة بحقّ المسلمين هناك، والإسهام في نيل إندونيسيا استقلالها.
وقد تمكّن من دفع الألمان إلى التصريح رسمياً عبر وزارة الخارجية باستقلال دول المشرق العربيّ، واعتبار الوطن القوميّ لليهود في فلسطين ملغيّاً: "إنّ ألمانيا مستعدّة لتقديم كلّ ما تستطيع من مساعدة للأقطار العربيّة في الشرق الأدنى الرازحة تحت نير الاضطهاد البريطاني، وأن تعترف بسيادتها واستقلالها، وتوافق على وحدتها، إذا كانت مرغوباً فيها ممّن يعنيهم الأمر، وعلى القضاء على الوطن القومي اليهودي في فلسطين". غير أنّ المحور خسر الحرب كما هو معلوم.
أفرزت الحرب العالميّة الثانية صراعاً جديداً بين القطبين الليبرالي والشيوعيّ بزعامة أمريكا وروسيا فيما سمّي بالحرب الباردة. اختارت الدول العربيّة حديثة الاستقلال أن تتظاهر بالحياد، وتمظهر ذلك في انتمائها إلى "حركة عدم الانحياز" وإن كان لزعمائها الضعاف والعملاء ميلٌ مصلَحيّ لهذا الجانب أو ذاك، فيما الأحزاب أو الحزيّبات التي بالكاد نشطت وسط قمع الأنظمة الاستبدادية العربيّة، إضافة إلى المسيّسين والمثقّفين، فالمتشبعين بأيديولوجيا أحد جانبي الصراع؛ متعصبون لها مشدوهون بها، مع رجوح كفّة الشقّ الشيوعيّ على حساب الماضي الأسود عربياً لبريطانيا وفرنسا الفاعلتين في المعسكر الغربيّ. وقد بلغ العمى الأيديولوجي بالأحزاب الشيوعيّة العربيّة أن تنهج نهج الاتحاد السوفييتي في مساندة الصهيونيّة وقيام دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.
أمّا الرأي العام الشعبي العربيّ فكان فاتر الاهتمام بالصراع إلى حدّ ما بلا تبنٍّ أيديولوجيّ جليّ وببساطة في الفهم، إلّا مع وجود حدث جلل يمسّه مباشرة كالقضيّة الفلسطينيّة والصراع العربيّ الإسرائيلي عموماً الذي زاد إلى جانب مخلّفات فترة الاحتلال في تنامي العداء للمعسكر الغربي بشكلٍ كبير، جرّاء دعمه السافر لدولة الاحتلال، وخوض فرنسا وبريطانيا معها حرباً مباشرة ضدّ مصر (العدوان الثلاثي). وقد اضطلعت الولايات المتّحدة ومعسكرها خلال هذه الفترة بالدور الأبرز في مساندة الاحتلال الإسرائيلي على جميع الأصعدة، وشرعنة وجوده من خلال قرارات ما يسمّى بمنظّمة الأمم المتحدة، ومنع أيّة عقوبات ضدّه مهما بلغت شناعة جرائمه ومجازره، بما زاد من العداء الشعبي العربيّ لهذا المعسكر، خصوصاً مع تغيّر سياسة الاتحاد السوفييتي.
وكان لعاملَي العاطفة وقصر الذاكرة الشعبيّة دورٌ في جعل الرأي العام العربيّ ينسى أنّ المعسكر الشرقيّ دعم قرار تقسيم فلسطين بكلّ قوّته، وقام بتسليح دولة الاحتلال الإسرائيلي، وأنّ التبدّل النسبيّ في موقفه لاحقاً من هذه الدولة الغاصبة كان في إطار توازنات حربه مع المعسكر الأمريكي، لا لأجل عيون العرب وانتصاراً للقضيّة الفلسطينيّة، بما جعل دعم هذا المعسكر محدوداً لما لا يعدو عنده حرباً بالوكالة خاضها العرب لمنع تعاظم النفوذ الأمريكي في المنطقة.
بسقوط الاتحاد السوفييتي، وتغوّل المعسكر الغربي، وبسط الولايات المتحدة نفوذها بمعيّة حلفائها في المنطقة العربيّة والشرق الأوسط، وغزوها العراق وأفغانستان، ومزيد إسناد وحماية الاحتلال الإسرائيلي وإجرامه، ودعمها الأنظمة العميلة في المنطقة بعد أن روّضتها؛ تعزّزت وتكرّست مشاعر العداء لأمريكا والغرب عند حيّز مهم من الرأي العام العربي رغم تأثّره الواضح بالثقافة الغربيّة. في هذا الوقت كانت روسيا بصدد التدرّج في استعادة دورها في المنطقة.
من هنا عندما جاءت ثورات الشعوب العربيّة ضدّ الأنظمة الاستبداديّة الفاسدة، شرع الغرب في التدخّل سياسياً وعسكرياً لضمان مصالحه، حتّى لا تخرج الأمور عن سيطرته، وقام بدعم المعارضة السوريّة وضرب داعش وجبهة النصرة. ولأنّ النظام السوريّ كان الوحيد في المنطقة المناوئ للولايات المتحدة والقريب من المعسكر الشرقي، تدخّلت روسيا عسكرياً للحيلولة دون سقوطه، وادّعى الجانبان محاربة الإرهاب والتطرف في المنطقة، فيما كانت آليّاتهما تحصد أرواح المدنيين وتجرّب جديد أسلحتها.
في خضم كلّ هذا كان الموقف الشعبيّ منقسماً غير ثابت التوجّه أمام إجرام نظام بشّار وداعش وروسيا والغرب وإيران، فبعد أن كان الأمر سعياً للإطاحة بنظام استبداديّ فاسد يجثم على صدور السوريين، استحال أو أحاله النظام حرباً أهليّة فإقليميّة فدوليّة. أمّا رأي القوى السياسيّة والنخب العربيّة فحكمته الأيديولوجيا؛ إذ أمام مدّ التيارات الأصوليّة والنفوذ الأمريكي هلّل القوميّون وأذيال الشيوعيّة عديمو الشعبيّة للتدخّل الروسي وفلاديمير بوتين المبجّل عندهم؛ إذ حال دون سقوط نظام الأسد المجرم الفاسد قاتل شعبه وإن بقي اسماً بلا رسم. فهو "الممانع الأخير المعادي لإسرائيل وأمريكا"، حسب حجّتهم التي تسقط بمجرّد معرفة أنّهم دعموا ويدعمون السيسي المجرم الفاسد قاتل شعبه، رغم أنّه حليف صريح للاحتلال الإسرائيلي وأمريكا. أمّا واقع حالهم فعداءٌ لصعود التيارات الأصوليّة مهما كان الثمن، وأياً كان توجّه قامعها.
مع الحربّ الروسيّة الأوكرانيّة، وهي حرب نفوذ ومصالح بين روسيا والغرب، يهلّل أذيال الشيوعيّة والقوميوّن لروسيا وزعيمها المنقذ قاهر أمريكا معيد توازن المعسكَرين، فيما يعوم الإسلاميّون عوم الموقف الغربيّ المناهض للحرب الجانح لحلّ سلمي، ويحملون فوق المهادنة للغرب عداءً لروسيا، خصوصاً بعد حيلولتها دون سقوط بشار، وكلاهما لا وزن لموقفه بتهليله أو شجبه.
أمّا الرأي العام العربيّ فليس بعيداً عن هذا الانقسام وإن كان دون نزعة أيديولوجيّة كالعادة، فالجدل فيه يشابه نقاشات كرة القدم العقيمة فيما لا ناقة لهم فيه ولا جمل عدا إجماعهم على الخوف من التبعات الاقتصادية وتدهور المعيشة. ولعلّ كفّة روسيا أرجح عند العامّة رغم أنّها القائمة بالغزو، وذلك بسبب تراكمات الضغائن التي خلّفها التدخّل الغربيّ منذ الاحتلال المباشر، مروراً بالوجع الفلسطينيّ، وصولاً عند الغطرسة الأمريكيّة، مع شبه تلاشٍ لجرائم روسيا في الشيشان من الذاكرة الشعبيّة، وموقف ضبابيّ من تدخّلها في سوريا بسبب ارتباطه بالحرب ضد إرهاب داعش. والحال أن هذا الجدل أسلوب تنفيس عن خيبات وهزائم وانكسارات لعب المعسكران دوراً فيها، وللغرب دورٌ أكبر يجعل معظم الغضب الشعبيّ يُصبّ تجاهه، فيما التعاطف يوجَّه لعدوّه.
غير أنّ هاتين القوتين العظميين لا تقيمان وزناً للشعوب العربية مهما تعاطفت معها، وتشتركان في منظور واحد لدول العالم العربي التي يجب أن تبقى تراوح مستنقع الانحطاط أطول زمن ممكن، ولا تجاوز دور بيادق أو فرائس في خضمّ صراع المصالح والنفوذ بينهما. وهما في حالة توجّس واستنفار دائم للحيلولة دون إمكانية صحوة ونهوض هذه المنطقة بعمقها الحضاري والديني المناوئ لما تقوم عليه الحضارة الغربيّة. وإن كان قيامهما بتقرير مصير سوريا حدثاً راهناً، كما تحويلهما وجهة باقي الانتفاضات والثورات العربيّة، فالتاريخ يحكي منذ ما يقارب القرنين تحالف وتوافق هاتين القوّتين المتنافرتين: الأوروبيّة الشرقيّة الأرثوذكسية (روسيا) والأوروبية الغربيّة الكاثوليكيّة والبروتستانتية (النمسا وبروسيا وبريطانيا، وفرنسا بخذلانها مصر)، لكسر شوكة محمّد علي باشا والحيلولة دون إطاحته بالخلافة العثمانيّة؛ إذ ما كان لقيادة طموحة ودولة فتيّة أن تعوّض الرجل المريض وتقوّض مصالح أوروبا وما كانت تحضّر وتخطّط له من خلال ما سمّي بـ"المسألة الشرقيّة" المستمرّة حتى اللحظة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.