كيف فشلت القيادة الفلسطينية في الاستفادة من الكفاءات المتفوقة لديهم؟ “2”

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/19 الساعة 11:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/19 الساعة 11:50 بتوقيت غرينتش
من اليمين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات والمفكر الفلسطيني يوسف صايغ


هذا المقال هو الجزء الثاني من مراجعة كتاب "سيرة غير مكتملة" للسياسي الفلسطيني يوسف صايغ.

حين احتل اليهود القدس رفض يوسف أن يخرج منها، وقد بات أهل المناطق المحتلة منها يهجرونها، كان برفقة صديق له (أحمد عبد الخالق)  قررا ومعهما عشرون شاباً يقطنون الحي اليوناني من منطقة البقعة أن يسجلوا أنفسهم نزلاء في المضافة الألمانية، الذي تديره مجموعة من الراهبات، كانت المضافة قد وُضعت تحت إدارة الصليب الأحمر الدولي، ويمكن للنزلاء أن يقيموا فيها بالإيجار، ولذلك حين ألقي القبض عليهم هناك، لم يتمكن الإسرائيليون من قتلهم كما كانوا يفعلون مع غيرهم، نظراً لأن الراهبات قد أبلغن الصليب الأحمر بأسمائهم.

يروي يوسف حكاياتٍ مثيرة عن الأسر التي ظل حوالي تسعة أشهر برفقة 200 فلسطيني وخمسة آلاف عسكري مصري، وعشرات من السوريين واللبنانيين، فكل من عرفت إسرائيل أنه مارس العمل العسكري من الفلسطينيين قتلته بدعوى أنه حاول الفرار من معسكر الاعتقال، وقد أطلق سراحهم بعد اتفاقية الهدنة الثانية.

يروي يوسف هذه الحادثة: الشيء المثير للاهتمام، والذي اكتشفته لاحقاً، هو أنه عندما كنا في المعتقل الأول في القدس قبل أول وقف لإطلاق النار، سقط الحي اليهودي في القدس القديمة في أيدي الجيش الأردني، وكان للإسرائيليين جيب هناك، فأسر الأردنيون ١٢٠٠ مقاتل يهودي.

كان ذلك إنجازاً كبيراً، فأسرع منير أبو فاضل إلى عمَّان لمقابلة عبد الله بن الحسين الأول، ملك شرق الأردن، وقال: جلالة الملك، هناك ١٢٣ من رجالنا في أيدي اليهود، ومعنا قوائم بأسمائهم من الصليب الأحمر، ولا يقدم اليهود لكل منهم إلا ربع أوقية من الخبز في اليوم، بينما أسرى اليهود يحصلون حتى على خراف حية ليتم ذبحها حسب الشريعة اليهودية، واقترح أبو فاضل تبادل الأسرى، فقال له الملك: ماذا؟! أنا لا أبادل عربياً واحداً حتى بعشرة من اليهود، سأحرر رجالي بقوة السيف، وهكذا بقى أسرى العرب تسعة أشهر في سجون اليهود، بينما أُطلق سراح اليهود بعد أيام، فشهامة العرب لا تقبل الاحتفاظ بأسرى!

من مذكرات يوسف السياسية كثير مما يشير إلى أن القيادة مهما كان إخلاصها وكاريزمتها، من الممكن أن تكون عقبة في طريق النجاح، وتجربة يوسف الفاشلة في مجلس التخطيط دليل على ذلك.

حضر يوسف لأول مرة اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في يوليو/تموز عام 1968 في القاهرة، وهناك قدَّم مداخلة عن التخطيط، إذ بدا له أن رجال المقاومة غير منظمين، ولم تكن لديهم فكرة عن تسلسل الخطوات العملياتية (التعبير ليوسف)، لذلك ركز في مداخلته على أهمية التخطيط، قال: "إن التخطيط أمر ضروري حتى على مستوى دكان صغيرة، إذ يجب أن يكون لها ما نسميه في الاقتصاد، الجدوى الاقتصادية للتكلفة، وحين تقررون كجماعة مقاتلة، مهاجمة أحد التلال أو احتلال موقع ما، يجب أن تأخذوا بعين الاعتبار ما إذا كان الموقع يستحق التكلفة،أي الخسائر في الأرواح. وهذا يعني أن عليكم أن تخططوا".

ثم يتابع: أسهبت في شرح فكرة التخطيط، واقترحت إنشاء مركز للتخطيط لإعداد شتى أنواع الخطط العسكرية والسياسية والإعلامية، وفي وقت لاحق، بعد إنشاء المركز، أضيفت إليه الخطة العملية.

وحيث إن هذه المداخلة قد أحدثت أثراً، فقد صوَّت الوطني على إنشاء مركز للتخطيط ورُشح يوسف لرئاسته رغم محاولته الاعتذار لارتباطه بالجامعة.

استغرق تأسيس المركز شهوراً لإعداد الكادر الوظيفي، يروي يوسف محاولته الاستعانة بالدكتور وليد الخالدي، المفكر الفلسطيني المعروف، يقول: دعوته إلى لقآء، وشرحت له أفكاري وما أنتوي فعله، وقلت: "بدي نتعاون مع بعض".

 (كنت أحترم كفاءة وليد وقدراته التحليلية، يعلق يوسف: نظر وليد إليَّ وقال:  "يوسف، أنت حمار!

  ثم ضحك وليد، ليخفف من وقع الكلمة، فقلت:

-أنا عارف أنا حمار في بعض النواحي، لكن ليش في هذه الحالة؟ فقال:

أنت تعرف أنه مهما تخطط، ومهما تكن خطتك ممتازة، وذكية، ومهما تكون لها علاقة بالعمل، إذا لم يكن عرفات مقتنعاً بالخطة، ما بتمشي. وحتى يقبلها عرفات، لازم تيجي من أحد مراكز النفوذ، وهي فتح، وإنت مش فتح، ولا محسوب على حد، حتي لو أنك عبقري، عرفات لن ينظر إليك نظرة جدية).

كان يوسف متفائلاً فلم يتأثر بهذه الكلمات، وتمكن من اختيار 38 خبيراً كلهم من التكنوقراط، ومعظمهم من ذوي التوجهات القومية،عملوا أكثر من نصف عام بشكل متصل حتى أنجزوا خطة، حملها يوسف بنفسه إلى اللجنة التنفيذية، وكانت تنعقد في عمَّان، وظل حوالي السنة يبحث عن التغذية الراجعة بخصوصها، ولكن كل ما وصله كان نتفاً متناثرة، عرف مثلاً أن الأعضآء استكثروا أن يقرأ كل منهم حوالي 400 صفحة، فحولوها على أحد أصحاب الدكتوراه، كى يختصرها إلى 4 صفحات، وهذا ما لم يحدث ولم يسأل عليه أحد، وعلم بعد عام من صديقه كمال ناصر أن أمر التخطيط كله قد انتهى عند اللجنة التنفيذية، ثم أنهى أبو اللطف الموضوع برمته قائلاً:

ثورة وتخطيط ما بيصير..

وهكذا انتهى الأمر باستقالة يوسف.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

صالح الشحري
طبيب فلسطيني
طبيب فلسطيني واستشاري أمراض نساء و توليد. مهتم بالشأن الثقفي وقضايا المجتمع وسبق أن كتبت عدة مقالات في موقع huffpost النسخة العربية.
تحميل المزيد