العقيدة الجزائرية الجديدة.. هل ينجح تبون في إعادة تشكيل السياسة الخارجية لبلاده؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/17 الساعة 11:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/17 الساعة 11:56 بتوقيت غرينتش
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون/ رويترز

إن الحراك الدبلوماسي الذي تعرفه السياسة الخارجية الجزائرية يعتبر بمثابة حتمية طرحتها عقيدة جديدة في ظل التحديات الأمنية التي تواجه الجزائر ومحيطها الإقليمي؛ مما دفع إدارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى تجسيد مفهوم جديد لسياسة خارجية جزائرية نشطة واستباقية جعلتها تسترجع دورها الحيوي في المحافل الدولية وتتموقع كقوة فاعلة إقليمياً؛ حيث نجح الرئيس عبد المجيد تبون ووزير خارجيته المخضرم السيد رمطان لعمامرة في إعادة تفعيل سمعة الدبلوماسية الجزائرية القائمة على إحلال السلم والأمن الدولين ولعب دور الوسيط الوثيق في القضايا الإقليمية والدولية الذي عرفته في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. 

في العادة السياسة الخارجية في الجزائر تبقى في يد صانعي القرار في مفاصل الدولة وأجهزتها، لكن بعد انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون 12 ديسمبر/كانون الأول 2019 التي جرت في أجواء غير عادية ميزها احتجاج الرافضين والمعرقلين (Obstructionists) لهذه الانتخابات. 

إن عقيدة الدبلوماسية الجزائرية هي وليدة ثورة التحرير المباركة وإنجازات الوفد المفاوض لجبهة التحرير الذي فاوض فريق الجنرال ديغول لفك استقلال الجزائر من فرنسا، فهي تعد اليوم إنجازات الوفد المفاوض لجبهة التحرير مرجعية الدبلوماسية الجزائرية وعقيدتها النضالية. 

الجزائر دولة محورية في المنطقة 

أصبح جوار الجزائر مقلقاً بسبب الأزمة الليبية، والانسداد السياسي في تونس وعدم الاستقرار السياسي والأمني في دول الساحل الإفريقي وغرب إفريقيا، أضف إلى التوتر الدائم مع المغرب؛ مما دفع الجزائر إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب في الصيف الماضي. 

الرئيس عبد المجيد تبون أكد خلال ترشحه لرئاسة الجمهورية أن الجزائر قوة إقليمية معترف بها، "كانت منظمة حركة عدم الانحياز قد صنفت في عام 1994 الجزائر  دولية محورية، وفقدنا الجناح القوي لنا الذي هو الجناح الإفريقي وأصبحنا نهتم بملفات اخرى… واسترجاع قوة دبلوماسيتها بعدم التدخل وعدم قبول التدخل وكنا منارة الشعوب المضطهدة، لا بدَّ للاقتصاد أن يأخد القسط الوافر من عمل الدبلوماسي". 

تعيش الجزائر متغيرات وأحداثاً سياسية وأمنية صعبة فرضتها عليها بيئتها الداخلية منذ أحداث أكتوبر/تشرين الأول عام 1988، وهذه المتغيرات تجسدت في شكل محددّات داخلية أساسية، طبعتها بشكل كبير، قيم المجتمع الجزائري وتماسكه في كل الظروف والتحديات التي عاشها منذ تلك الفترة. 

وبالتالي كانت الجزائر دائماً تسعى إلى سياسة خارجية براغماتية المصالح- أحياناً في ظل لعبة تدوير الزوايا وسياسة المحاور-  بناء على تحديد وصف مسبق ودقيق لمجموعة من الأهداف والأولويات التي تؤثر بشكل مباشر على فاعلية السياسة الخارجية وتعمل على توجيهها. 

الجزائر كدولة مستقلة ذات سيادة سارعت منذ استقلالها إلى تبنِّي سياسة خارجية تتسم بالواقعية عبر دبلوماسية تحكمها المبادئ والأهداف الواردة في مختلف المواثيق والدساتير الوطنية الجزائرية (عدم التدخل في الشأن الدّاخلي للدول (non-Interventionism) والتي تعد في مجملها امتداداً لمبادئ ثورة نوفمبر/تشرين الثاني 1954. 

حيث تمكنت من خلالها الجزائر أن تحقق العديد من الإنجازات في شتى المجالات السياسية منها والاقتصادية وحتى الثقافية بحسب الظروف والمعطيات التي كانت تفرضها في كل مرة البيئتان الداخلية والدولية عليها، وتكون بذلك بمثابة عوامل أو محددات في توجيه سياستها الخارجية. 

كانت الجزائر تعد قِبلة الأحرار والحركات التحررية للمناضلين والمثقفين في الدول العربية والإفريقية، مما لا شك فيه أن السياسة الخارجية للدولة الجزائرية من خلال تعبيرها عن سلوكها الخارجي تتأثر بالحالة أو الوضعية التي تنتج عليها تطورات النسق الدولي المتوتر في ظل الحرب الروسية-الأوكرانية، وبالتالي تتفاعل فيه الدولة مع غيرها وتتحدد الصورة الاستراتيجية لهذا النسق الدولي (International System) التي سوف تفرزه الحرب الروسية-الأوكرانية تبعاً للتفاعلات السائدة في إطار هذا النسق والتي تتمثل في القواعد السلوكية التي تحكم العلاقات بين أعضائه والأطراف الإقليمية الصاعدة. 

التغيرات والتقلبات الأمنية والجيو-سياسية

الجزائر دولة ليست بمعزل عن هذه التغيرات والتقلبات التي فرضتها عليها هذه البيئة، والتي تشكل محدداً من محددات سياستها الخارجية ضمن علاقة ثنائية ومتبادلة التفاعل ترتكز على عنصرَي التأثير والتأثر. وبالتالي أصبحت ملتزمة بإرساء محاولات مناسبة للتماشي مع هذه التقلبات، وفقاً لما تقتضيها مصالحها وأهدافها في هذا المجال. 

مرت الجزائر بمحنة أمنية كبيرة في بداية التسعينيات من القرن الماضي؛ مما أدى إلى غيابها عن الساحتين الإقليمية والدولية، عرفت الجزائر متغيرات داخلية وخارجية كثيرة ساهمت في تجاوزها بشكل مستمر لمحنة الإرهاب الذي عرفته طوال العشرية الحمراء. ومنذ مجيء الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة (1999-2019) كونه دبلوماسياً وأحد مهندسي الدبلوماسية الجزائرية بعد الاستقلال غيّر ودفع بالسياسة الخارجية الجزائرية نتيجة تجربته وخبرته في السلك الدبلوماسي وعلاقاته الشخصية مع قادة دول العالم بل حتى مع المؤسسات الدولية. 

المحدد الشخصي لعب دوراً مهماً في العهدتين الأولى والثانية للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة في إدارة سياسة خارجية براغماتية بين تغيير الثابت والمتغير؛ لذلك كان التركيز على شخصية الرئيس الراحل في اتخاذ وصنع القرار؛ لأنّ العامل القيادي يلعب دوراً في مسار صناعة القرار الخارجي خاصة كونه كان رجلاً كريزماتياً ومثقفاً مزدوجاً ذلك بحكم خبرته وتجربته في الحقل الدبلوماسي ومعطيات مفاصل وآليات الحكم في الدولة الجزائرية؛ حيث إنه مثّل العامل الحاسم في عملية صناعة القرار. 

فكان تأثيره قوياً في صياغة سياسة خارجية جديدة تتوقف على طبيعة نمط التقلبات الإقليمية والدولية، كانت سياسة خارجية واقعية الأهداف تجسدت في شخص الرئيس الراحل وهذا ما زاده شعبية كونه القائد الذي كان يبحث عنه الجزائريون منذ وفاة الرئيس هواري بومدين عام 1979. وكان الرئيس الراحل وزيراً للخارجية خلال فترة حكم الرئيسين أحمد بن بلة وهواري بومدين، فاحتضنته غالبية الشعب كقائد للدولة وسياستها الخارجية والأمنية (رجوع العصر الذهبي للدبلوماسية الجزائرية).  

لا سيما ما تعلق منها بالجانب الأمني، بعد التطورات التي عرفتها المنطقة العربية في ظل الموجة الأولى للثورات العربية التي شهدتها منطقة المغرب العربي (تونس، والمغرب) تلتها الأزمة الليبية والساحل الإفريقي التي جسَّدتها بشكل كبير الحرب في مالي، وبالأخص بعد التدخل الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي عام 2013.  

ومن هنا تمرير السياسة الخارجية تحت حيثيتَي الصرامة والاحتياج في آن واحد وفق السقف التشخيصي الإقليمي "ب" واستدراج الرؤى الأمنية القومية والعسكرية على حد سواء، بوصفهما الأداتين الكفيلتين بترسيم وجه الخطر ووجه مواجهته، هذا ما عرفته واقعتا اختطاف دبلوماسيين في مالي عام 2012 والهجوم الإرهابي على محطة مصنع الغاز بعين آميناس جنوب شرق الجزائر عام 2013، وفتح ملف الأمن في صحراء الجزائر وكان بمثابة إنذار لمصالح الأمن في البلاد.

وفي ظل الأوضاع الأمنية الراهنة في منطقة الساحل الإفريقي والأزمة الليبية والانسداد السياسي في تونس وفرضية التوتر الدائم بين الجزائر والمغرب وتزامنه والأزمة الدبلوماسية مع إسبانيا التي أثارها قرار الوزير الأول الإسباني، تغيّر الموقف الإسباني تجاه قضية الصحراء الغربية. قرارات الوزير الأول بيدرو سانشيز المستفزة للجزائر دفعت الإدارة الجزائرية للرد ووقف معاهدة الصداقة والتعاون المبرمة بين البلدين من جانب الجزائري عام 2002.

 فتمكنت الجزائر مؤخراً من السيطرة على الجبهة الداخلية بعد حراك شعبي سلمي دامَ تسعة أشهر، تلتها أزمة صحية عالمية (جائحة كوفيد-19) غيَّرت سلوك ونمط شعوب العالم، مما جعل الجزائر تكسب مكسباً كبيراً لأمنها واستقرارها الداخلي؛ الذي أسهم  في تفعيل حراك دبلوماسيتها اليوم والبعث بعقيدة جديدة. 

عامل الطاقة كمحدد في السياسة الخارجية 

ارتفاع أسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية والتي بدأت تداعياتها تؤثر على اقتصادات دول عديدة في العالم، مما جعل الجزائر تتبنى سياسة خارجية نشطة، تلعب دوراً كبيراً في انتعاش حركية اقتصادية على اعتبارها دولة ريعية، تعتمد منذ استقلالها في تمويل سياساتها التنموية المختلفة على عائدات صادراتها من هذه الموارد.

إن تجسيد هذا النشاط منذ عودة السيد رمطان لعمامرة وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية على رأس الخارجية الجزائرية، عرفت الدبلوماسية حراكاً مكثفاً على الصعيدين الإقليمي والدولي كونه صاحب خبرة، حيث عودته  للخارجية الجزائرية غيرت معطيات إقليمية قد توسعت إلى دولية في ظل الأزمة الروسية-الأوكرانية واللقاءات المكثفة مع نظيره الروسي، سواء على الصعيد الثنائي أو التكاملي في إطار جامعة الدول العربية مع الوفد الوزاري المكون من وزراء خارجية كل من الجزائر ومصر والأردن والعراق والسودان، مشاركة مع أحمد أبوالغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية لزيارتهم لموسكو وكييف لمناقشة الأزمة الأوكرانية وتداعيات هذه الأزمة على اقتصادات الدول العربية.

الجزائر تربطها علاقات تاريخية وثيقة مع موسكو ما زالت تعزز التعاون الاستراتيجي ذا البعد العسكري والطاقوي؛ كون هذا الأخير سمح للجزائر أن تتبنى سياسة مستقلة جعلتها تخرج من معادلة الأمر الواقع المفروض عليها من قِبَل الدول الأوروبية وتحقيق سياسة التوازنات مع الغرب المنقسم؛ حيث لجأت الكثير من الدول الأوروبية للجزائر كبديل للغاز الروسي، وبالتالي أصبحت دبلوماسية الغاز أحد محددات سياستها الخارجية. 

إن التحرك المكثف لوزير الخارجية لعمامرة على الصعيدين المغاربي والعربي لم يتوقف نشاطه سواء مع الملف التونسي منذ انقلاب الرئيس قيس سعيّد على الدستور في 25 يوليو/يوليو 2021 أو مع الأزمة الليبية وتخفيض شدة التصعيد مع المغرب- الجزائر تسعى إلى عقد القمة العربية في الخريف القادم لترتيب البيت العربي المنهار، بدءاً بالجامعة العربية والدفع بالقضية الفلسطينية، أما على الصعيد الإفريقي، فالجزائر تنظر لأمنها القومي من عمق دول الساحل الإفريقي واستقرارها؛ حيث ثمة لقاءات متواصلة مع السلطة العسكرية الجديدة بباماكو ولعبها دوراً حيوياً أيضاً داخل الاتحاد الإفريقي؛ في الشتاء الماضي تمكنت الجزائر من طرد الكيان الصهيوني من الاتحاد الإفريقي وسحب صفة العضو المراقب منه، رفقة كل من جنوب إفريقيا وبعض دول الأعضاء الأخرى. 

أرسلت عقيدة الدبلوماسية الجزائرية الجديدة بقواعد سياسة خارجية براغماتية المصالح  ليست فقط قائمة على قاعدة تدوير الزوايا؛ بل بالبحث عن أداة فنية تحمل رسائل مباشرة يتم تصديرها لدعم الانتشار الناعم إقليمياً ودولياً، كما يجب إدراك هذا الجانب المهم لسياسة خارجية حديثة تضع السياسة الخارجية الجزائرية تتماشى وموقع القوة الناعمة. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالنور تومي
كاتب وباحث جزائري
صحفي متخصص في شؤون دراسات شمال إفريقيا في مركز دراسات الشرق الأوسط (أورسام). حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة تولوز في فرنسا. له مقالات تنشر في صحيفة ديلي صباح اليومية التي تصدر باللغة الإنجليزية في تركيا. عمل محاضراً في قسم دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في كلية بورتلاند كوميونيتي. وفي الوقت نفسه كان عضواً في مركز دراسات الشرق الأوسط التابع لجامعة ولاية بورتلاند.
تحميل المزيد