بالنسبة لي، من المفهوم تماماً أن يثير خبر اختيار محمد الشوربجي اللعب باسم منتخب إنجلترا، بعد أعوام من تمثيل بلده الأم، مصر، في لعبة الإسكواش، كل هذه المناقشات الدائرة على مواقع التواصل الاجتماعي، خلال أسبوع تقريباً.
فالشوربجي هو نجم مكتمل اللمعان، وأحد أبرز لاعبي العالم في تلك اللعبة، واسمه معروف فيها، شأنه في ذلك شأن عمرو شبانة سابقاً، ولا شك في أنّ كل من هو مهتم بوضع مصر العام في الألعاب الرياضية قد سمع اسمه من قبل. ومن ثم فإننا لا نتحدث عن "ناشئ" واعد جرى إغراؤه بالمال للعب باسم دولة مختلفة، على غرار ما يحدث في ألعاب أخرى، وإنما عن جوهرة عالمية ثمينة، كما أنّ تلك الرياضة، بحكم طبيعتها، هي رياضة النجم الواحد، لا رياضة الفريق؛ لذا فإن التركيز يكون منصباً على اللاعب الوحيد الذي يضرب الكرة في الملعب الزجاجي حصراً.
قبل ذلك الجدل، كانت هناك علاقة غامضة بين مصر وبين التفوق الكاسح في رياضة الإسكواش، يا ترى هل هو نجاح مرتبط بأسباب مؤسسية وإدارية؟ يعني هل لاتحاد اللعبة تقاليد مؤسسية ودعم حكومي وعوامل نجاح تساعد في تأكيد التفوق المصري في تلك اللعبة؟ أم أن الأمر يرتبط بأسباب أخرى، داخلية وخارجية، ليس على رأسها العامل المؤسسي؟
ساهمت تبعات تلك الأزمة في الكشف عن جانب معتبر من إجابة هذا السؤال الذي طالما حير المهتمين بالرياضة المصرية؛ فمن خلال تحليل بيان الرد الصادر عن اتحاد اللعبة تفاعلاً مع القرار، والذي انصب على تعداد المزايا والنعم التي تمرد عليها الشوربجي، وهي أمور تافهة في معظمها، يبدو أن أسباب التفوق المصري الملحوظ منذ سنوات في تلك اللعبة يمكن أن تتعلق بأي شيء، إلا احترافية القائمين عليها، خاصة أنّ اللاعب لم تكن لديه أية مشكلة من البداية مع اللعب باسم بلاده، على عكس لاعبين آخرين يختارون "الخيار الأفضل" مبكراً، وهو ما يشي بأنّ الأوضاع في الكواليس والغرف المغلقة تختلف جذرياً عن المعادلة التي طالما صدرها لنا المسؤولون الحكوميُّون في تلك اللعبة من أنّ سبب التفوق المصري الملحوظ فيها هي عوامل مؤسسية وفنية في المقام الأول.
اختيار الشوربجي أن يلعب باسم دولة "غير شقيقة"، وفقاً للمفهوم الشائع عن الدول الشقيقة في الثقافة المصرية، التي تقصر مفهوم الدول المباح، إلى حد ما، التفاعل معها، على الدول الشرقية، العربية والإسلامية القريبة من الهوى المصري، ربما أيضاً أحد الأسباب التي تبرر النقاش المجتمعي حول قرار الشوربجي، فالرياضة، على نحو ما، جزء من الثقافي والسياسي، وإنجلترا، وإن لم تكن دولة معادية للمزاج المصري السياسي حالياً، فإنها كانت في الماضي القريب تحتل مصر احتلالاً خشناً لأكثر من 70 عاماً. من هذا المنظور، يمكن فهم حساسية بريطانيا بالنسبة للثقافة الشعبية في مصر، والتي تشبه الحساسية الباقية نفسها تجاه الفرنسي في نفوس شعوب شمال إفريقيا جنوب المتوسط. تخيل مثلاً أن يعدل لاعب جزائري متميز في رياضة ما عن اللعب باسم بلاده بعد سنوات من تمثيلها ليختار تمثيل فرنسا!
على مستوى الفلسفة السياسية، على الرغم من عدم تأثير هكذا قرار، على مستقبل أمته الأصلية تأثيراً كبيراً، ففي النهاية هو مجرد رياضي في لعبة مغمورة، إلا أنه، في الحالة المصرية في هذا الظرف التاريخي، فإنّ قرار الشوربجي يعيد مساءلة المسلمات الدقيقة في الاجتماع السياسي المصري: ما هو الوطن أصلاً؟ وما هو سقف الاحتجاج الممكن ضد الممثلين الإداريين لهذا الوطن في جهاز الحكومة في حقبة ما؟ وهي أسئلة مثيرة وخطيرة تستحق النقاش فعلاً، حتى ولو لم تؤدِّ إلى إجابات، بقدر ما يمكن أن تؤدي إلى مقاربات.
كل تلك الزوايا مفهومة طرقها، ومشروعة إثارتها، في التفاعل مع قرار الشوربجي، لكن غير المفهوم، بالنسبة لي على الأقل، هو تبجُّح الإعلام الرسمي في الهجوم على اللاعب وتشويهه وتخوينه بشكل ممنهج، رغم أن ما فعله الشوربجي، وفقاً لتفسير مادي عقلاني بحت يعزل العواطف، بتفضيل تمثيل بلد آخر على بلده الأم لأسباب تتعلق بغياب التقدير المنشود، هو ذروة ومنتهى التطبيق العملي للسياسات التي يدعو إليها النظام السياسي الحاكم في مصر حالياً.
لا موارد متبقية لأحد.. هتاكلوا مصر يعني؟
في خطابه السياسي، يتقصّى السيسي عادة تاريخ الاقتصاد السياسي المصري الحديث، ليخلص إلى نتيجة مفادها أنّ ذلك الاقتصاد، نتيجة سوء الإدارات المتتابعة التي أدت إلى دخول حرب لا طائل من ورائها في اليمن مطلع الستينيات خلال الحقبة الناصرية، والحرب الاضطراريّة ضد إسرائيل في عهد السادات، والزيادة السكانية في عهد مبارك، وصولاً إلى أحداث يناير 2011، مع كون مصر دولة محدودة الموارد في الأساس، فإنّ الدولة المصرية لم تعد قادرة على الإنفاق اللازم على المتطلبات الأساسية لشعبها.
بعد 8 سنوات من صعوده إلى السلطة واستقراره فيها، يقر السيسي أنّ الدولة المصرية ليست قادرة على الإنفاق على القطاعات غير الإنتاجية، أو بمعنى أدق، القطاعات غير المدرة للربح، مهما كانت ذات أولوية قومية، حتى لو كانت تلك القطاعات هي الصحة والتعليم.
في كل مناسبة مهمة تقريباً في الداخل أو في الخارج، يعاود السيسي دون حرج، ضمن ما يعتبره نوعاً من المصارحة مع المصريين والتصالح مع مشكلات الوطن، أنّ ما تحقق خلال الأعوام الأخيرة، ليس كافياً من الناحية الاقتصادية لإشعار المواطن بأي تحسن على المدى البعيد، فضلاً عن أن يشعر بتحسن في حياته اليومية.
ما علاقة ذلك بالإسكواش؟ بالتبعية ينسحب ذلك التأسيس الذي يرسيه السيسي في علاقته، كأفضل ممثل ممكن عن الدولة وفقاً لتعبيره، بالمواطن إلى القطاعات غير الحيوية؛ فإذا كنا غير قادرين على الإنفاق على الصحة والتعليم، وإذا كانت الميزانية العامة مثقلة بالديون الخارجية، وإذا كان الخطُّ العام للسياسات الاقتصادية هو التوسع في فرض الضرائب، فإنه من باب أولى، لا يمكن ولن يمكن الإنفاق الحقيقي على الرياضة، التي لا تحقق عوائد سريعة وملموسة، خاصة إذا تعلق الأمر برياضات غير شعبية كالإسكواش.
تحتاج الإسكواش، كأي رياضة، إلى الإنفاق السخي لضمان استمرار المنافسة الدولية، على الأدوات وأماكن التدريب وتنشئة اللاعبين وتجهيز المدربين والسفر إلى الخارج، وفي ظل المفاهيم الاقتصادية العملية التي تتبناها الجمهورية الجديدة، فإنّ الإنفاق المسموح على الرياضة، إذا كان هناك إنفاق على الرياضة، لن يركز على هذا النوع من الرياضات، ولن يركز على تأهيل الكوادر البشرية، وإنما سينصبُّ على البنى التحتية مثل الملاعب والإستادات التي تساعد في تدوير معادلة الاقتصاد السياسي الحالية، الاقتراض والمقاولات والتنفيذ العسكري، والإعلام الكروي عبر احتكار المحتوى وإعادة بيعه للمشاهد بأعلى سعر ممكن.
أما الإسكواش وغيرها من الألعاب المشابهة والكوادر البشرية الخاصة بها، فإنه بداهة لا مكان لها في تلك المعادلة.
كل شيء مسعَّر بالمال، كل القيم قابلة للبيع
من وجهة نظر السيسي، فإنّه في مسيرة هذا الوطن الواقف على حافة السقوط، فإنّ كل شيء، مهما بلغت قيمته المعنوية، يمكن معادلته إلى أموال سائلة، فقصة حياة الإنسان بالنسبة له هي قيمته المادية، وكلما نجح الإنسان في الحصول على أعلى سعر مقابل سلعته، مهما كانت، كان هذا الإنسان أقرب إلى الكمال والصواب والعملية والبعد عن المثالية.. "أنتوا مش عارفين البلاد بتبنى إزاي ولا إيه؟".
إذا قمنا بإجراء تحليل كمي عن المفردات والمعاني الواردة في الخطاب السياسي للسيسي الموجه للمجتمع المصري، فإنّ أحد أبرز المفاهيم الناتجة عن هذا التحليل ستكون تحول كل ممارسة ممكنة في الاجتماع السياسي المصري، مهما كانت، مادية أو معنوية، رخيصة أو ثمينة، إلى سلعة تباع لأفضل مشترٍ بأعلى سعر.
نذكر مثلاً حلمه الغريب بتدفيع طرفي أي مكالمة هاتفية ثمن المكالمة مضاعفاً، لا أن يدفع المتصل وحده ثمن المكالمة كما هو معروف في كل مكان. وتكراره مفردة "الفلوس" في أحد الخطابات العامة المشهورة، وتأكيده على ضرورة أن يحصل على مقابل أي خدمة يؤديها للمواطن "كاش" (نقداً)؛ لأن النقود هي أهم شيء في الدنيا على الإطلاق على حد تعبيره، وصولاً إلى عرض نفسه شخصياً للبيع لأعلى سعر على الهواء مباشرة في خطابه الشهير: "والله العظيم لو ينفع أتباع لأتباع".
وفقاً لتحليل مثالي، يمكن القول إنّ هذا الحديث المتكرر عن المال والمصلحة والسعر ينم عن وعي محمود من جانب القيادة الحاكمة بدور الاقتصاد في بناء الدول، ولكنَّ المشكلة ومربط الفرس أنّ السيسي لا يستخدم البلاغة في حديثه عن أهمية المال، لا مجازات هنا، السيسي يقصد تماماً ما يقول، كل شيء، في عقيدته السياسية، قابل للبيع، وهو الأساس النظري الذي استباح نظامه من خلاله إعادة ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية عام 2016، وهي الصفقة التي ترتب عليها التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير بالغتيْ الأهمية بالنسبة لمصر إلى الرياض مقابل حوالي 16 مليار دولار مساعدات سعودية، وعرض الأصول الإستراتيجية للدولة للبيع لأعلى سعر ضمن الصندوق السيادي وخطة تحرير الاقتصاد من دور الدولة، وتسجيل جول في تركيا عبر التعاون مع إسرائيل، العدو التقليدي للأمة المصرية، لشراء الغاز بـ10 مليارات دولار لإعادة تسييله وبيعه لأوروبا بسعر أفضل.
لذا، وبالمنطق نفسه تماماً، يكون الشوربجي قد أثبت أنه مفاوض بارع وسياسي محنك، حينما فاضل بين الرخاء البريطاني والقحط المصري، وقرر أن يختار الرخاء والتقدير؛ ففي الجمهورية الجديدة، التي أرسى السيسي قيمها بنفسه، خطابياً وفعليّاً، فإنّ القيمة الحقيقية للأشياء تكمن، فقط وحصراً، في سعرها.
الولع بالدولار
الدولار، بداهة، ليس كالجنيه؛ فالدولار يعني الحفاظ على القيمة، والمرونة في التعامل في أي مكان، والقدرة على الاستيراد، وبالنسبة للسيسي الذي يقيم كل شيء، مادياً كان أو معنوياً، بالسعر، فإنه من المفهوم أن يكون مولعاً بالدولار الأمريكي، سيد العملات الصعبة.
على هذا الأساس، كان السيسي قد اقترح اقتراحاً فريداً قبل أعوام مفاده أن تحصل البلدان الفقيرة المصدرة للمواهب والكوادر البشرية إلى الخارج الغربي المتقدم على تعويضات دولاريّة نظير القيمة التي تقوم تلك المواهب بتوليدها في بلدانها الجديدة، وهو اقتراحٌ مشهور ومتكرر ودالٌ على الطريقة التي ينظر من خلالها السيسي إلى كل شيء.
في كرة القدم نفسها، كان السيسي قد تأثر بالعوائد السخية التي يحققها نجم ليفربول المصري محمد صلاح بالعملة الصعبة، والتي تنعكس طبعاً على الاقتصاد المصري عبر التحويلات التي يقوم بها شخص واحد متميز في مجاله إلى أهله في مصر، مقترحاً على اللاعب أحمد حسام ميدو، أحد أبرز محترفي مصر السابقين في كرة القدم الأوروبية، أن يؤسس أكاديمية تهدف إلى تخريج 1000 لاعب جديد مثل محمد صلاح للاستفادة منهم مادياً!
بغض النظر عن مدى الإمكانية العملية لتطبيق هذا المشروع، والذي يبدو أن مصيره كان، مثل باقي الاقتراحات الرهيبة للسيسي، دعاية دون إنجاز، فبعد 4 أعوام لم نسمع شيئاً مهماً عن المشروع؛ ولكنه كاشف أيضاً عن النظرة التي يتبناها السيسي في تعامله مع المواهب المصرية، فالكوادر البشرية الفذة مكانها الحقيقي هو البيئة الداعمة في الخارج، لكي ترسل العملة الصعبة إلى الداخل، كي نكمل مسيرة الاقتراض والاستيراد.
الخلاصة
على أي معيار، لا يحق لتلك الجوقة من الإعلاميين الهجوم على اللاعب، فقد لعب الشوربجي سنين طويلة، رغم الإغراءات الخارجية وضعف التقدير داخلياً، باسم بلاده، محققاً أرفع الأوسمة والبطولات، واضعاً اسمها في مرتبة الشرف عالمياً.
كما أنّ هذا القرار، حالياً، وفقاً لتحليل عقلاني، هو أفضل تجسيد ممكن للقيم والسياسات التي يروجها هؤلاء الإعلاميُّون على أنها منتهى الفكر العملي، ففي زمن الندرة الاقتصادية وتسليع مقدرات الوطن والبحث عن الدولار بأي وسيلة، يكون قرار الشوربجي، وفقاً لتلك الوصفة، مفيداً لمصر، في ثوبها الجديد، جمهورية السيسي وقيمه.
غير أنّ ما أزعجهم حقاً من الشوربجي، ليس مبدأ التخلي نفسه والمفاضلة، لأنهم أمهر الناس فيه، ومعظم إعلاميي النظام، بحسب كثير من التسريبات، على استعداد أن يسدوا الخدمات الإعلامية للممول الخليجي، ولو تعارضت مع المصالح المصرية الحقيقية المباشرة، مقابل حفنة من الهدايا والعطايا من سيارات وإكسسوارات وتكريمات وسفريّات وخلافه.
وإنما ما أزعجهم، أن التخلي وطريقته واتجاهه لا تصب في مصالحهم، كما اعتادوا؛ حيث أحرج الشوربجي المنظومة التي لم تقدره، لا لكونها فقيرة مادياً، وإنما لأن أولوياتها، بعكس ما تروج، ليست، ولم تكن قط، تدعيم المنتج الوطني، من رياضة وآداب وفن، ولو أنّ الشوربجي كان جزءاً من تلك الجوقة، يحضر مؤتمرات الشباب ويمدحُ في السيسي في الخارج، لكان على الأرجح، موضعاً للاهتمام والأضواء داخلياً بشكل دائم، فالحسبة الحقيقية، أن ما ستحصل عليه من دعم يكون مقروناً بما تقدمه من خدمات سياسية غير مباشرة، وبما تمتلكه من علاقات، لا بمقدار الاجتهاد والإنجازات الوطنية التي تحققها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.