لسنا مستعدين بعد.. لماذا تدفعوننا نحو الأمومة دفعاً؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/15 الساعة 17:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/22 الساعة 08:13 بتوقيت غرينتش

فكرت طويلاً قبل أن أكتب هذا المقال، وحتى بعد أن قررت البوح برأيي حول موضوع الأمومة، ظللت أحاول أن ألتزم بالحذر حتى لا يُساء فهمي، ليس في الأمومة ما يعيب، ولا بد أن كثيراً من النساء قد وجدن السعادة في الحياة ما إن قررن تكوين أسر، وإنجاب أطفال، ولا يسعني أنا التي أفرح لفرح كل نساء العالم إلا أن أقاسمهن سرورهن وسعادتهن، لكن هذا لا يعني أن نغيب عنصر التفكير النقدي البناء ونضع سطراً تحت كل ما يجعلنا نعيد النظر في مسلمات وأعراف اجتماعية سائدة.

إن طفولتنا تتميز وبشكل ملفت للنظر بعلاقاتنا الأسرية خاصةً تلك التي تجمعنا بعمودي الأسرة السليمة الفطرة والنقية السريرة؛ إذ إننا ننظر لأمهاتنا ولآبائنا كما لو أنهما كائنان منزّهان عن الخطأ، ونرى فيهما القدوة الأعلى والمثال الأقرب للكمال، ونحن أطفال لا يفهمون شيئاً عن حقيقة الحياة وضعف النفس البشرية نسمح لأنفسنا بتمجيد شخصية الأب والأم مما يجعلنا نتعلم منهما أبجديات الحياة، ونُلَقَّنُ أول دروس الحياة منهما، قد يتساءل البعض منكم: ولم اخترت الحديث عن الأمومة حصراً دون الأبوة رغم إدراكك لأهمية الاثنين معاً في تربية الطفل ونشأته؟ الحقيقة أيها القارئ وأيتها القارئة أن الأمومة على عكس الأبوة عادة ما يتم فرضها على النساء، يُخَوِّفُ المجتمع النساء "الصائعات" من بعبع العنس والعقم، الذي يتربّص بنا منذ بلوغنا حتى نصبح تحت عصمة رجل ونصبح أمهات بعد أن أصبحنا زوجات.

يعيش معظم الرجال أواخر عشرينياتهم في أحضان العزوبة دون القلق حيال الأسرة، التي قد لا يتسنى لهم إنشاؤها، لا تعكر صفاء أذهانهم الضغوطات الاجتماعية، ولا الساعة البيولوجية ولا الشعور بالوقت ينزلق من بين أيديهم ليذكرهم بمصيرهم، إن هم لم يسلموا بسنة الحياة ويركبوا قطار الارتباط الجاد ليصلوا في نهاية المطاف إلى محطة بناء عش سعيد. نولد نحن النساء وعلى جبيننا كتبت لائحة مهام مرفقة بمواعيد نهائية فنعيش ونحن نسابق الوقت؛ لكي لا يقال إننا قد فاتنا القطار، ولكي لا يضرب بنا المثل في التجمعات والجلسات كلما ذكر موضوع "العنوسة" أو العزوف عن الزواج. أسبابنا الشخصية وظروفنا الخاصة لا تعني أحداً من النمّامين، كل ما يهمهم أننا ابتعدنا عن المنطق والفطرة السليمة حتى لو كان الأمر خارجاً عن إرادتنا بالكامل.

ولأننا جعلنا من الأمومة ميدالية تعلق على جِيد كل امرأة استطاعت إخراج حياة من رحمها سواءً مارست الأمومة بحذافيرها أم تحلّت بالتجاهل، وسلكت طريق اللامبالاة؛ فإن الأمومة قد جردت تدريجيًّا من طابعها الفطري وكادت تتخذ شكل واجب ديني وفريضة كالصوم والصلاة، وما إن تصبح الواحدة منا أمّاً حتى يتم تجريدها من كل صفة أخرى، يتوقع منها الجميع أن تتنفس وتعيش وتموت كونها أمًّا قبل كل شيء؛ تضع كل إنجازاتها على جانب وتتفرغ للتباهي بإنجازها الأعظم: أطفالها.

عندما يخبرني أحدهم أن الأمومة ستغير نظرتي للحياة يوماً ما لا يسعني سوى تخيل نفسي كبطل رواية "الانمساخ" لفرانز كافكا وهو ينسلخ شيئاً فشيئاً عن نفسه وهويته بسبب تحوله لكائن قبيح الشكل، فإلى جانب أن الأمومة تغير أجسامنا ونظرة الآخرين لنا فإنها أيضاً تعرّينا من فردانيتنا، وتحيلنا إلى عواطف لم نشعر بها من قبل، ومشاعر قد نألفها مع الوقت أو قد يزداد امتعاضنا منها، فنصبح بالتالي غرباء عن أنفسنا وعما كنا قبل الأمومة. تمنحنا الأمومة سبباً جديداً للتشبت بالحياة وتسرق منا في المقابل الحرية بأن نكون من نريد، نصبح أمهات قبل كل شيء، ويصبح وجودنا منحصراً في هاته المهمة التي لا مفر منها لمن لا يريد أن يعيش في خضم رفض أو حصار اجتماعي. وفي وسط كل تلك الفوضى التي تحصل في دواخلنا نجد أنفسها قد نسينا أو تناسينا أننا أكثر بكثير مما يحجمنا إليه هذا المجتمع الذي يأبى إلا أن يتدخل في كل حركاتنا وسكناتنا ويملي علينا كيف نعيش حياتنا، ننسى أن الحياة لا تنتهي بعد الولادة، وأننا لا نبلغ خط النهاية في سباق الحياة بمجرد أن نُكَوِّنَ أسرة ونرضخ لإرادة المجتمع والأهل والأصحاب.

نعيش في وسط اجتماعي يرى الأمومة إنجازاً لا مسؤولية أو عملاً شاقاً يتطلب مجهوداً كبيراً فنسارع لتحقيق هدف الأمومة دون التفكير بحجم المسؤولية التي تأتي مع هذا "الإنجاز" ونقمع صوت طفلنا الداخلي، الذي يصرخ طالباً النجدة لنكون أمهات (أو آباء) لأطفال سيرثون عنا فهماً خطأً للتربية والأمومة وتطبيعاً مع العنف النفسي والفشل الذريع في التربية، وهكذا تتكرر دورة الجهل العاطفي والإنكار المزمن للعقد النفسية الناتجة عن الضغوطات الاجتماعية والحاجة الملحة للامتثال للمعايير الوضعية التافهة والعيش في ظلها.

ليس من المستحيل التغلب على هاته الأفكار المتوارثة جيلاً بعد جيل، إلا أن ذلك يتطلب منا مجهوداً ووقتاً كثيراً ورغبة صريحة وصادقة في هدم تلك الأفكار السامة وبناء تصور جديد عن الأمومة والتربية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
آية العنزوق
كاتبة مغربية في مجال التاريخ والفلسفة
تحميل المزيد