اللغة هي وعاء الفكر، وحاوية التراث، وأبرز مكونات الهوية، وكما أن هناك أكثر من طريقة لدراسة التاريخ؛ فأزعم أن دراسة تاريخ تطور لغةٍ ما، لدولةٍ ما، هي وسيلة ناجعة لدراسة تاريخها بشكل عام. واليوم، نعرض لدراسة تاريخ تطور لغة مصر بشكل عامٍّ، مع التركيز، بشكلٍ خاصٍّ، على اللغة القبطية، التي تأبى الاندثار، وما زالت الكثير من مفرداتها تتداول على ألستنا حتى الآن.
كُتبت اللغة المصرية القديمة بعدة خطوط، أشهرها هو الخط الهيروغليفي، ويعني المقدس، وكان هو الخط المستخدم في النقوش الدينية، على جدران المعابد والمقابر، وهو عبارة عن كتابة تصويرية، بالإضافة لوجود أبجدية وإن كانت معقدة إلى حدٍّ كبير، يعود أقدم نص مكتوب بهذا الخط إلى عام 3300 قبل الميلاد، كذلك، كان هناك خط آخر، خاص بالكهنة، ويسمى الخط الهيراطيقى، ولكن، يبدو أن هذين الخطين كانا من الصعوبة بمكانٍ، فتعذر على الكثيرين تعلمهما، فكانت هناك حاجة ملحة لاستحداث خط جديد، يسهل تعلمه من قبل الشعب، وهنا ظهر الخط الديموطيقي.
الخط الديموطيقي، يعنى الخط الشعبي، ويبدو أنه يمثل تبسيطاً للخطين السابقين، وإن ظهر في مرحلةٍ متأخرة نسبيّاً، والتي تقدرها المصادر التاريخية بفترة الأسرة الخامسة والعشرين في القرن الثامن قبل الميلاد، واستمر حتى القرن الخامس الميلادي، وآخر نص مكتوب بهذا الخط موجود بمعبد فيلة، وهو عبارة عن جرافيتي يعود إلى عام 452م. جدير بالذكر، أن الخط الديموطيقي، هو أحد الخطوط الثلاثة المكتوب بها نص حجر رشيد الشهير، الذي تم اكتشافه عام 1799 في قلعة جوليان بمدينة رشيد، على يد جنود الحملة الفرنسية، والذي تمكن الشاب الفرنسي جان فرانسوا شامبيليون من فك طلاسمه، وبهذا تمكنا لأول مرة من قراءة اللغة المصرية القديمة، وكان ذلك عام 1822.
بدخول الإسكندر الأكبر إلى مصر عام 332 قبل الميلاد، ومن بعده تأسيس دولة البطالمة على يد بطليموس الأول، والتي استمرت حتى عام 31 قبل الميلاد، بانتحار الملكة العظيمة كليوباترا السابعة، بعد هزيمة الأسطول المصري أمام الأسطول الروماني بقيادة أوكتافيوس أغسطس، والتي من بعدها، أصبحت مصر ولاية رومانية، وأصبحت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية المستخدمة في دواوين الحكومة، وسيطول استخدامها حتى نهاية العصر البيزنطي، الذي ينتهي بدخول المسلمين لمصر، وقد بذل البطالمة الأوائل جهوداً كبيرة في نشر الثقافة واللغة اليونانية، ومكتبة الإسكندرية خير دليل على ذلك، وأصبحت الإسكندرية أعظم وأهم وأجمل المدن قاطبة.
توازى استخدام اليونانية مع الخطوط الأخرى القديمة طويلاً، فآخر نص هيروغليفي، عُثر عليه حتى الآن، يعود لعام 395م، وآخر نص هيراطيقي بعام 476م، وكلاهما في معابد فيلة Philae بأسوان، حتى حرَّم الإمبراطور ثيودوسيوس الأول (347 – 395م) الديانة المصرية الوثنية، وأُغْلقت الهياكل تنفيذاً لأمره، وأصبحت المسيحية الأرثوذكسية هي الديانة الرسمية لمصر.
ظهور اللغة القبطية
إذاً، لقرون طويلة، كانت اليونانية هي اللغة الرسمية المستخدمة في الوثائق الحكومية، وهي، أيضاً، لغة البشارة بالمسيحية، ولهذا، سوف يتم استخدامها في الكنائس، في كثيرٍ من الأحيان، وفي ذلك أيضاً، تفسير لوجود كلمات وأسماء كثيرة في القبطية من أصل يوناني.
كانت الديموطيقية هي اللغة الشعبية، ولكن صعوبة إلمام الناس بعشرة آلاف حرف وعلامة، جعل التمكن من هذه اللغة أمراً شاقاً على غالبية الناس، فتم أخذ الأبجدية اليونانية بالكامل، والتي تبلغ 24 حرفاً، مع إضافة 7 حروف من اللغة الديموطيقية وهي: شاي، فاي، خاي، هورى، جنجا، شيما، دى. وكانت تمثل أصواتاً غير موجودة باليونانية، ومن هنا ظهرت اللغة القبطية، وأصبحت لغة المصريين جميعاً. حدث هذا التغيير المهم حوالي 100 قبل الميلاد.
يُذكر أن أقدم ترجمة قبطية للكتاب المقدس تمت في الإسكندرية على يد القديس بنتينيوس مدير مدرسة الإسكندرية اللاهوتية في نهاية القرن الثاني الميلادي.
تجدر هنا الإشارة، إلى رأي بعض المؤرخين في أصل نشأة اللغة القبطية، وهذا الرأي يذهب إلى أنها لغة قام المحتل الروماني باصطناعها تقليداً لبعض اللهجات المصرية القديمة كي تسهل السيطرة على مصر واستنزاف مواردها.
لست معنيّاً هنا بالبحث في صحة هذا الرأي، أو ذاك، فما يهمني هنا، هو أن كلا الرأيين قد اتفقا على صحة الآلية التي نشأت بها اللغة القبطية، كما أشرت سابقاً، وهي أنها عبارة عن كتابة اللغة الديموطيقية بحروف يونانية، ويبدو أن اختيار المصريين للأبجدية اليونانية كان له ما يبرره، فهي لغة المحتل والسائدة في الدواوين، وأيضاً كانت لغة مارمرقص البشير، وإنجيله مكتوب باليونانية، وهي فضلاً عن كل ما سبق، حاوية التراث الإغريقي العظيم.
جدير بالذكر، أن الكتابة القبطية هي الوحيدة بين صور الكتابة المصرية، التي تسجل الحروف المتحركة، فتعطينا فكرة دقيقة عن طبيعة نطق الكلمات المصرية، وبالتالي فإنها تُظهر أيضاً اختلاف نطق اللغة من منطقة إلى أخرى، فتتضح في الكتابة القبطية فوارق اللهجات، من منطقة لأخرى.
ولهذا، نستطيع من قراءة الوثائق القبطية، أن نحدد اللهجة المكتوبة بها، هل هي بحيرية، أم صعيدية، أم فيومية، أم بهنساوية، أم أسيوطية، أم أخميمية، أم واحدة من اللهجات الفرعية، الموجودة في نقاط التلاقي بين المناطق الناطقة باللهجات الرئيسة.
سارت اللغتان اليونانية والقبطية جنباً إلى جنب فترة طويلة من الزمن، ولكن مع الوقت، حدث ما أدى إلى تفوق كاسح للغة القبطية على اليونانية، كان ذلك بسبب الجدال والنزاع الديني بين كنيستي الإسكندرية والقُسطنطينية، والذي بدأ بمجمع نيقية، بناءً على دعوة الإمبراطور قسطنطين عام 325م، لمناقشة آراء الراهب السكندري أريوس، والذي بلغ أقصاهُ في مُنتصف القرن الخامس الميلادي، حينما اختلفت الكنيستان حول طبيعة المسيح؛ فاعتقدت كنيسة الإسكندرية أنَّ للمسيح طبيعة إلهية واحدة (مونوفيزقية)، وتبنت كنيسة القسطنطينيَّة القول بثنائية الطبيعة المحددة في مجمع خلقدونية، والذي انعقد في 451 ميلادية، بدعوة من الإمبراطور البيزنطي مارقيان، ورأت أن في المسيح طبيعة بشريَّة وطبيعة إلهيَّة، وتبنَت هذا المذهب ليكون مذهباً رسمياً للإمبراطورية، وأنكرت نحلة المونوفيزقيين، وكفروا من قال إن للمسيح طبيعة واحدة.
لم يقبل مسيحيو مصر بما أقرَّهُ مجمع خلقدونيَّة، وأطلقوا على أنفُسهم اسم "الأرثوذكس"، أي أتباع الديانة الصحيحة، وعُرفت الكنيسة المصريَّة مُنذ ذلك الوقت باسم "الكنيسة القبطيَّة الأرثوذكسيَّة"، ومال المصريُّون إلى الانفصال الديني عن الإمبراطوريَّة البيزنطية، فأعلنوا التمرُّد. وهكذا نرى أن المصريين حاولوا الاستعاضة بالاستقلال الديني عن الاستقلال السياسي الذي فقدوه منذ قرونٍ طويلةٍ.
كان أول مظاهر ذلك التمرد، إلغاء كنيسة الإسكندريَّة استخدام اللُغة اليونانيَّة في طُقوسها وشعائرها، واستخدمت بدلاً منها اللُغة القبطيَّة. بهذا الشكل، تصل اللغة القبطية إلى قرون مجدها، منذ منتصف القرن الخامس الميلادي، بعد أن باتت حجر الزاوية في التمسك بالهوية الدينية لمصر، ضد إرادة بيزنطة، التي استمرت في اضطهاد المصريين، إلى عهد هرقل الذي حاول فرض مذهبه التوفيقي، المعروف بالمذهب المونوثيلي، أو مذهب المشيئة الواحدة، على المصريين، ولهذا أرسل وَالِيه المعروف بالموقوقز، أو الموقوقس، كَوَالٍ وبطريرك في الوقت نفسه، ولكن رفض أقباط مصر هذا المذهب أيضاً، وكان نتيجة هذا الرفض، اضطهاداً كبيراً للأقباط، وهروب البابا المصري بنيامين، إلى صحراء وادي النطرون.
إن أقدم وثيقة موجودة إلى الآن، تسجل واحدة من المحاولات الأولى لكتابة لغة التخاطب المصرية بالحروف اليونانية (Proto-Coptic)، هي بردية هايدلبرج 414 ميلادية، التي ترجع إلى منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، وتشتمل على قائمة لمفردات قبطية، بحروف يونانية، مع ما يقابلها في المعنى من الكلمات اليونانية.
استمر ازدهار اللغة القبطية حتى عُرِّبت الدواوين الحكومية في العصر الأموي، على يد عبد الملك بن مروان، عام 705م، كما سنعرض لاحقاً.
مما سبق، يمكننا القول: إن فترة ازدهار اللغة القبطية، استمرت تقريباً ثلاثة قرون، منذ مجمع خلقدونية في 451م، وحتى تعريب الدواوين في 705م.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.