"قبل النكسة بيوم" عنوان لا يترك للنفس شكوكاً حول مسرح أحداث الرواية، لكنها- أي الرواية- مليئة بالخيال، كما هي مليئة بالتسطير الواقعي للحكاية.
"قبل النكسة بيوم" هي رواية أصوات، أصوات أبطال الحكاية؛ كريمة إدريس القاهرية، ابنة البواب النوبي، المتعلمة التي تُكمل دراستها العليا بينما تعمل وتنضم إلى منظمة الشباب، والصحفي عبد المعطي الصيرفي، الشيوعي المنتمي لـ"ثورة يوليو"، والمنحاز لمشروعها السياسي والاجتماعي، والمحاسب حمزة النادي، القيادة الوسطية في منظمة الشباب، والمنتمي سابقاً للقوميين العرب، صاحب الوصف الدقيق من زاوية مُعايش لمؤتمرات التوعية والتثقيف في معسكر "حلوان" أو "أبو قير".
يلتقي الأبطال بالصف الأول: جمال عبد الناصر، كمال رفعت، علي صبري، حتى المشير عبد الحكيم عامر، بؤرة الرواية الزمنية ما بين عام 1965 حتى 4 يونيو 1967، الشخوص كلها تخطت الكارثة الأولى التي أحاقت بهم.
ليست النكسة هي الكارثة الأولى، الكارثة الأولى كما تحكي "قبل النكسة بيوم" أو كما فهمتها، هي عندما أكلت قطةُ الثورة أولادَها، سجنتهم وعذبتهم وشردتهم، أفقدتهم الأمل والرجاء، أسقطت كل أقنعة الثوار.
تقول السردية صراحة "نظام قمعي وفاشل"، فحتى عبد الرحمن الأبنودي، الشاعر وكاتب الأغاني الثورية والعاطفية، الناطق بلسان الفلاحين والصعايدة يلتقي مع أبطال الرواية في المعتقل!
أكاد أسمع شريط الأغاني مع تدفق السرد، أغنيات أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، ومحمد فوزي، ومحمد رشدي، من "صورة تحت الراية المنصورة"، حتى "أسمر يا اسمراني"، سردية محكمة الإيقاع واللحن، ربما أبلغ شهادة عن تحطم جيل- ربما أجيال- بجغرافيا المكان من وسط القاهرة وميدان التحرير وميدان طلعت حرب، حتى مصر الجديدة وخطوط المترو الثلاثة.
في "قبل النكسة بيوم" تتبدى البرجوازية المصرية والفساد دون كسوف ولا سفور في وصف منطقة الميريلاند، حيث البحيرة الصناعية، وخلفها شارع نهرو، حيث يسكن أبارتشيك النظام الجديد، فيلات هدى ومنى عبد الناصر وعلي صبري، وفيلا عبد الحكيم عامر، أمام الميريلاند يقع المعهد الاشتراكي والشارع مازال قائماً إلى يومنا.
الأجيال الجديدة التي ستقرأ الرواية، لا تظنوا أن الرواية تاريخية أو أثر قديم، الرواية ملحة ولصيقة بأحداث ثورة 25 يناير ومآلاتها، فأبطال منظمة الشباب جثموا على أرواحنا حتى ثورة 25 يناير، الثورة الحقيقية على عكس انقلاب يوليو/تموز 1952. على سبيل المثال، حسين كمال بهاء الدين، رئيس المنظمة السابق، كان وزير التربية والتعليم، الذي أعلن في عهد مبارك انتهاء عصر الدروس الخصوصية!
الرواية يجب أن تكون نصاً مقرراً على طلبة الثانوية العامة، لنرى كيف "تمسرح" ضباط يوليو بين الوطنية والاشتراكية، بينما أجهزة الأمن القمعية تمارس التعذيب والقهر لأنها لا تؤمن بعبد الناصر ولا اشتراكيته، ولكن تؤمّن نظاماً تتشارك قطف ثماره.
من دون كشف حبكة الرواية يتقابل أبطال الرواية في ميدان التحرير مرة ثانية، حمزة وعبد المعطي وكريمة، بعد شيب الجسد ورحيل الأزواج أو الطلاق أو الهجرة، ومعهم أحفادهم، حفيد كريمة وحفيدة عبد المعطي، من يوم جمعة الغضب حتى تنحّي حسني مبارك في 11 فبراير/شباط 2011، الأمل مراوغ، المستقبل أكثر لوعاً من كل الأغاني، عرف بقية القصة، شباب جديد، وجيل آخر وقع في حبائل السلطة، عساكر آخرون يعِدون بمصر "قد الدنيا"، راعني بينما أقرأ أغنية لأم كلثوم تقول:
"فتاك عبد الناصر
بطل الكفاح الصابر
لم تعطنا الدنيا سواه ولا نريد لها سواه
شدت يداه لنا الصباح من الدجى
سلمت يداه.. سلمت يداه.. سلمت يداااه"
هي ذات الأيادي، ولكن الأغنية كانت بصوت الراعي
صدامات المثقفين مع "النظام"
المثقفون الماركسيون كانوا عون السلطة من لطفي الخولي حتى صلاح جاهين.
ففي مشهد رائع على الزيف الذي نعيشه وعشناه، لطفي الخولي يصطحب جان بول سارتر وسيمون دي بوليفار إلى قرية كمشيش، تم إمداد المسؤولين الفلاحين بأسئلة مكتوبة عن الفلسفة الوجودية من أوراق مكتوبة، فتقول السردية فاصفرّ وجه سارتر ولطفي الخولي!
لكن صدامات المثقفين مع "النظام" عديدة، فبمؤتمر المبتعثين "العرب" بجامعة الإسكندرية في أغسطس 1966، تصادم عبد الناصر شخصياً مع رغبات قطاع من الانتلجنسيا المصرية، التي ترى نظامه بيروقراطياً وعسكرياً.
غالبية المبتعثين، وخاصة إلى فرنسا، كانوا متأثرين بالنبرة "الماوية" (نسبة لماو تسي تونغ)، وفعلاً خرجت المظاهرات بالكتاب الأحمر في باريس، في مايو/أيار 1968، سبق المصريون فرنسا في ثورة 1968، نعم ثورة، ثورة من جيل الثورة ضد العفن الإداري والسياسي والبيروقراطية، وضد أسباب الهزيمة الثانية والأكبر في يونيو/حزيران 1967.
قسمت الرواية إلى 19 فصلاً، تراوحت بين أصوات الأبطال، ففي نهاية كل فصل فاصل حمل أخباراً أو تعليقاً تسجيلياً أو وثائقياً عن تلك الحقبة التاريخية، تشريح كامل لمجتمع ما قبل 1967، والعثرة الكبرى في حرب اليمن، وأخبار التهريب حملها زكي المجند النوبي، قريب كريمة، الذي صار زوجها.
وتوقف الخطة الخمسية الثانية لعدم توفر الاستثمارات، والتصعيد السياسي ضد السعودية رغم اتفاقية التسوية، والتصعيد ضد إسرائيل، ولجنة تصفية الإقطاع بقيادة المشير عامر.
الرواية واقعية في منطقة مخصوصة بين "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني أو "ميرامار" لنجيب محفوظ أو حتى "الكرنك"، لأن المذنبين واضحون، وأسماؤهم مكتوبة، والمجني عليهم أسماؤهم مكتوبة، اعتقالات نوفمبر/تشرين الثاني 1966 ضمّت مئتَي اسم من أعضاء منظمة الشباب.
قضايا الفوارق الطبقية حاضرة، حمزة من الطبقة المتوسطة، وكريمة ابنة إدريس البواب، وقضايا الاستغلال للصغيرات وخادمات الطبقات العليا في مصر بحديقة الميريلاند، ورواتب الموظفين، ورواتب المسؤولين، والطبقة الرأسمالية الجديدة من المقاولين والتكنوقراط.
التناول العشوائي لكل القضايا حتى بواسطة الزعيم الملهم، تكريس الطبقة العسكرية، ورواتب المبتعثين المدنيين والعسكريين، وغيرها من المشاكل، حتى المفارقات في إعلان عمر أفندي عن ورود مايوهات من إنجلترا، وإيشاربات من فرنسا، وبونيهات للبحر من ألمانيا بمناسبة عيد الثورة، في صيف 1966، بينما نحن بصدد هزيمة عسكرية باليمن، وأزمة اقتصادية يُقال فيها رئيس وزارة بعد آخر؛ علي صبري، زكريا محيي الدين، محمد صدقي سليمان، أيضاً الرئيس الزعيم يصارح الشعب في مؤتمرين: سنرفع الأسعار!
هناك فيما بين السطور حاضرون بقوة، مثل صلاح عيسى "الكاتب الصحفي"، وطارق البشري، الكاتب والقاضي الماركسي، الذي تحول إلى إسلامي فيما بعد، وجماعة المبتعثين إلى فرنسا، والسيد ياسين، وحسن حنفي، وحسان عيسى، ورشدي راشد.
هناك أيضاً قصة الدكتور رشوان فهمي، نقيب الأطباء الذي تصدى لانتقاد الزعيم لقصر العيني، فتمت إقالته، وفُرضت عليه الحراسة، هناك أيضاً إشارة وتوثيق لطريقة المعاملة المهينة من الضباط وصف ضباط القوات المسلحة للمجندين، وهي أحد أسباب الأداء المتردي في حربَي اليمن وسيناء.
التوثيق والتسجيل فيما بين سطور الرواية ليس فقط لدولة الاستبداد والعشوائية والفساد الإداري، ولكن نظام التصنّت والتلصص، من التليفونات إلى البريد إلى تقارير تنظيم طليعة الاشتراكيين للأجيال الجديدة، وهؤلاء منهم: عمرو موسى، وزير الخارجية لاحقاً، ومصطفى الفقي، مستشار الرئيس المعزول مبارك، ورفعت المحجوب، رئيس جامعة القاهرة ومجلس الشعب، وفتحي سرور رئيس مجلس الشعب الأسبق، ومفيد شهاب، القانوني ووزير الدولة، وكمال الشاذلي، وآخرون.
الرواية مهمة لفهم تاريخ عشناه، وواقع نعيشه، وربما ننتظر نفس النتائج الكارثية، لأنه لا يمكن أن نستخدم نفس الوسائل ونبتغي نتائج مغايرة.
الرواية ملحة جداً، وهي تصف أعراض المرض بنفس الانفراجات ومبادرات السلطة، بنفس الأجهزة والعقليات.
مشاهد فارقة
يقابل الاعتقال والتعذيب الوحشي في زمن الاشتراكي حس إنساني فريد، إذ يُعطى المعتقل المفرج عنه مبلغاً بسيطاً من المال عند الافراج، لا أظن أن صندوق "تحيا مصر" يستطيع فعل الشيء نفسه اليوم.
مشهد أخير حدث في موسكو، عبد الحكيم عامر، وصلاح نصر ينتقدان بالسباب عبد الناصر، فيدخل السفير مراد غالب، ويسمع جزءاً من النقد اللاذع، فيطمئن عامر نصر قائلاً: "غالب ده راجل"، بمعنى أنه لا يكتب تقارير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.