كل من يتابع بيانات وكالة التعاون الدفاعي الأمريكي، بخصوص الموافقات على عقد صفقات أسلحة مع دول عربية، يجد هذه الجملة (البيع المقترح لن يغير التوازن العسكري الأساسي في المنطقة)، أي لن يؤثر على التفوق النوعي العسكري لإسرائيل.
دفعتني تلك الجملة للبحث عن خلفياتها ومعناها ومتى بدأ استخدامها، ووجدت تفاصيل وافية في عدة دراسات نشرها "مركز أبحاث الكونغرس" المعني بتقديم معلومات لأعضاء الكونغرس لفهم قضايا السياسة الخارجية، مثل سلسلة (إسرائيل: الخلفية والعلاقات مع الولايات المتحدة) التي يجري تحديثها سنوياً، فضلاً عن دراسة (المساعدة الخارجية الأمريكية لإسرائيل)، ودراسة (التفوق النوعي العسكري لإسرائيل والبيع المحتمل لأسلحة أمريكية للإمارات)، وهي دراسات ترسم صورة وافية لأبعاد وتفاصيل العلاقات الأمريكية الإسرائيلية.
إسرائيل ضمن أكبر مصدري السلاح عالمياً
الأرقام لا تكذب، كما يُقال، ولفهم حجم التعاون بين البلدين قبل تناول الضمان الأمريكي للتفوق العسكري الإسرائيلي، سأشير إلى بعض الأرقام المهمة. فمنذ عام 1948 إلى عام 2021 قدمت واشنطن لتل أبيب مساعدات بمقدار 150 مليار دولار، من بينها 107.8 مليار دولار مساعدات عسكرية، و7.9 مليار دولار كمساعدات خاصة ببرامج الدفاع الصاروخي، فضلاً عن 34.3 مليار دولار كمساعدات اقتصادية من عام 1971 ثم توقفت في عام 2007 مع تحسن وضع الاقتصاد الإسرائيلي.
وفي عام 2016، وقّع البلدان مذكرة تفاهم بشأن التعاون العسكري لمدة عشر سنوات بداية من العام المالي 2019 إلى 2028، تتعهد موجبها واشنطن بتقديم 33 مليار دولار كمساعدات عسكرية، و5 مليارات دولار ضمن برامج تطوير منظومات الدفاع الصاروخي مثل القبة الحديدية، ومقلاع داوود، والسهم 1 و 2 و3.
وقد ساعدت المساعدات العسكرية الأمريكية في بناء الصناعات العسكرية في إسرائيل، وصولاً إلى تحولها لتصبح ضمن أكبر مصدري السلاح عالمياً، فوفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) شغلت إسرائيل خلال الفترة من 2016 إلى 2020 المركز الثامن في تصدير الأسلحة عالمياً بنسبة 3٪ من مبيعات السلاح، فيما تمكنت شركات مثل "رفائيل" و"إالبيت" و"الصناعات الجوية الإسرائيلية" من تصدير نحو 70% من إنتاجها، والذي يتراوح من منظومات الدفاع الصاروخي وأنظمة الطائرات، وصولاً إلى الطائرات المسيرة وأنظمة الأمن السيبراني، بل واشترى الجيش الأمريكي نفسه معدات إسرائيلية بقيمة 1.5 مليار دولار في عام 2019 شملت بطاريات القبة الحديدية، وخوذات لطياري إف 35، وأجهزة تحديد للمدى تعمل بالليزر، ونظارات رؤية ليلية متطورة، وكاميرات تُستخدم لمراقبة الحدود الأمريكية المكسيكية، ورغم كل ذلك، فإن واشنطن ما زالت تتعهد بضمان التفوق النوعي العسكري لإسرائيل وفق التالي.
مفهوم التفوق النوعي العسكري
يعود مفهوم التفوق النوعي العسكري في الولايات المتحدة إلى عهد الحرب الباردة؛ حيث برر مخططو الحرب الأمريكيون لنواب الكونغرس صفقات تسليح معينة لدول أوروبية بأنها تهدف لتحقيق تفوق نوعي في مقابل تمتع دول حلف وارسو بميزة عددية تتفوق على القوات الأمريكية وحلفائها في أوروبا، ولاحقاً وُسع هذا المفهوم ليشمل إسرائيل في مواجهة العرب، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية ألكسندر هيج خلال شهادته أمام الكونغرس في عام 1981 قائلاً: "إن أحد الجوانب المركزية لسياسة الولايات المتحدة منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 تتمثل في ضمان احتفاظ إسرائيل بتفوق عسكري نوعي".
وفضلاً عن اشتراط موافقة إسرائيل أولاً على بيع واشنطن لأسلحة للعرب، فقد جرى تنفيذ عدة إجراءات لضمان التفوق العسكري النوعي الإسرائيلي، من أبرزها:
1- السماح لإسرائيل بامتلاك أحدث أنواع الأسلحة الأمريكية قبل بيعها للعرب، فعلى سبيل المثال حصلت إسرائيل على طائرة F-15 عام 1976 قبل ست سنوات من حصول السعودية عليها، ومنذ عام 2016 اشترت إسرائيل 50 طائرة من طراز F-35 التي تُعد الطائرة الوحيدة عالمياً المصنفة ضمن الجيل الخامس من الطائرات، وتسلمت بالفعل 30 طائرة منها على الأقل، وهو ما يتيح لتل أبيب قصف أهداف في العراق والأردن ومصر وتركيا والسعودية، في حين لم توافق واشنطن حتى الآن على بيع أي منها لدول عربية، وتعثرت صفقة بيعها للإمارات.
2- مراعاة الاشتراطات الجغرافية التي تلبي مخاوف الأمن الإسرائيلي؛ حيث اشترط الكونغرس للموافقة على بيع إدارة الرئيس فورد لصواريخ هوك المضادة للطائرات إلى الأردن في عام 1975 أن تُثبت الصواريخ في قواعد جنوب وشرق عمان، أي بعيدة نسبياً عن الحدود مع إسرائيل، وألا يتم السماح بتشغيلها على منصات متحركة، كما وافق الكونغرس في عهد كارتر على بيع طائرات F-15 إلى السعودية، بشرط عدم وضعها في قاعدة تبوك الأقرب إلى إسرائيل، فيما اشترطت إدارة ريغان لبيع طائرات أواكس للسعودية مشاركة جميع المعلومات الاستخبارية التي تجمعها الطائرة مع الولايات المتحدة، وعدم مشاركة أي معلومات جمعتها أواكس مع أي طرف ثالث، وتشغيل أواكس فقط للأغراض الدفاعية داخل الحدود السعودية، وعدم الاستثناء من ذلك سوى باتفاق مسبق، ووقف برامج المتابعة والصيانة والتدريب في حال عدم الالتزام بتلك الشروط؛ مما يجعل الطائرة مجرد خردة لا قيمة لها.
3- تعويض إسرائيل بصفقات تسليحية أكثر تطوراً حال عقد صفقات أسلحة متطورة مع العرب، ففي عام 2010 وافقت إدارة أوباما على بيع 20 طائرة من طراز F-35 لإسرائيل عقب بيعها للسعودية طائرات F-15 الأقل تطوراً، وفي الحالات التي تتلقى فيها إسرائيل ودولة عربية نفس طراز السلاح، تلقت إسرائيل أولاً إما نسخة أكثر تقدماً أو تُوضع قيود تجعل الأسلحة المقدمة للعرب أقل فاعلية، فعند بيع طائرات F-15 للسعودية وُضعت عليها قيود فنية شملت عدم وضع خزانات وقود إضافية؛ ما يحد من مدى الطيران، وتقليل عدد رفوف حمل الذخائر لتقليل حجم التسليح.
تقنين ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي
جرت المناقشات بخصوص ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي أثناء مراجعة الكونغرس لمبيعات الأسلحة الأمريكية المحتملة إلى الشرق الأوسط، وشارك في تلك النقاشات أعضاء لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس مع عناصر من الجيش الأمريكي، لكن اتسمت تلك النقاشات بالذاتية، وتم الدفع باتجاه ترشيد تلك المناقشات، وجعلها أكثر موضوعية، ودمجها كعنصر منتظم في عملية مراجعة مبيعات الأسلحة الأمريكية لدول الشرق الأوسط بخلاف إسرائيل، وهو ما قُنن بالفعل في عام 2008 عبر تعديل قانوني تضمن النص على تقييم التفوق العسكري النوعي لإسرائيل كل أربع سنوات، وتعديل قانون مراقبة تصدير الأسلحة بحيث يتضمن النص على أن تصدير أي معدات عسكرية أمريكية إلى أي دولة في الشرق الأوسط لن يؤثر على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل، وأصبحت هناك جملة لازمة في أي إخطار بيع ترسله وكالة التعاون الدفاعي إلى الكونغرس ينص على أن (البيع المقترح لن يغير التوازن العسكري الأساسي في المنطقة).
وبناء على ما سبق، فإن الضجة التي تثيرها بعض الدول العربية عند حصولها على أسلحة أمريكية متطورة هي ضجة مثيرة للشفقة؛ لأنها أولاً تتم بعد موافقة إسرائيل، وثانيا لا تُنفذ سوى بعد التزامها بقيود تشغيلية وفنية تقلل من فاعليتها مقارنة بالأسلحة النظيرة المبيعة لإسرائيل، وأخيراً عادة ما تتبعها صفقات أسلحة أكثر تطوراً لإسرائيل تضمن تفوقها النوعي على بقية دول المنطقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.