ندّد بسوء حكم السلطان عبدالحميد، فمات بفنجان قهوة مسموم.. هل قتل العثمانيون الكواكبي حقاً؟

عدد القراءات
889
عربي بوست
تم النشر: 2022/06/14 الساعة 11:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/14 الساعة 11:59 بتوقيت غرينتش

ما إن علمتُ بحلول ذِكرى رحيل العلامة الحلبي الشهير عبد الرحمن الكواكبي حتى تداعت عليّ الكثير من صور حياة الرجل الذي سار في ميادين الفكر والسياسة طولاً وعرضاً.

بعض تلك الميادين قُتلت بحثاً كتحليل أفكاره وأطروحاته الثورية، وبعضها لم ينل حظّه من الشهرة مثلما هو الحال مع حالة الاشتباك التي عاشها مع الدولة العثمانية، فالرجل خصّص أشهر كُتبه لانتقاد دولة أحفاد عثمان، معتبراً إياها بلاءً على المسلمين.

وهو موقف يستدعي التأمّل؛ لماذا اتّخذ هذا الموقف الحاد؟ وهل كان على صوابٍ فيه؟ وهل أودت هذه الأفكار بحياته فعلاً؟ سأسعى في هذا المقال للإجابة عن تلك التساؤلات وأكثر.

ما وراء أطروحات الكواكبي

عبد الرحمن الكواكبي

مع بداية القرن الـ17 عاشت دولة الخلافة حالة من الوهن السياسي التي أجبرتها على توقيع معاهدات مذلة عدّة مع الدول الأوروبية، فتحت الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية في الشؤون التركية، وهو الوضع الذي بلغ مداه مع بداية القرن الـ19 حتى باتت الدولة العثمانية تُعرف دبلوماسياً في دوائر السياسة الأوروبية بـ"الرجل المريض".

مع بداية القرن الـ14 الهجري (الـ20 ميلاديّاً)، والذي قاد فيه الدولة العثمانية السلطان عبد الحميد، وشهد مداهمة إمبراطوريته الضخمة بروح القومية/الشعوبية التي انتعشت في نفوس العرب بدءاً من منتصف القرن الـ19، وكانت بلاد الشام هي أسرع أجزاء الوطن العربي تأثراً بالروح القومية الجديدة التي سادت التفكير الأوروبي آنذاك.

مع كل مظاهر الضعف تلك أحسّ الجميع بحاجة الدول الإسلامية، لكن كيف؟ ما هو السبيل القويم؟

في القرن الـ19 تبلورت 3 تيارات فكرية مشرقية؛ العرب الذين تأثروا بالحضارة الغربية وقيم الثورة الفرنسية الداعية للحرية والمساواة والعدالة، واعتبروا أن الاقتداء بها هو أمل العرب الأخير في اللحاق بركب النهضة، منهم رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وحمدان خوجة وبطرس البستاني.

وتيار آخر يدعو إلى العودة إلى حُكم الإسلام في تجلياته الأولى على الأرض بصفائها وبُعدها عن الغلو والانحرافات مثل الحركة السنوسية في ليبيا والحركة الوهابية في الجزيرة العربية والحركة السلفية في مصر والعراق، بعض هذه التيارات -كالوهابية مثلاً- نادت بعدم الاعتراف بالخلافة العثمانية وإعادتها للعرب من جديد، وهو ذات ما نادَى به الكواكبي.

لكن الكواكبي لم ينتمِ إلى أيِّ من تلك الحركات السلفية وإنما اعتنق نهجاً إسلاميّاً إصلاحيّاً  يدعو إلى الاستعانة بالحداثة الغربية من أجل إعادة إضفاء البريق إلى الروح الإسلامية، والتي اعتبر أن السبيل الوحيد لإقامتها من تحت الرماد هو إقامة خلافة عربية مميزة تُعيد البهاء لدولة الإسلام، وفي هذا الدرب سار مع الكواكبي محمد عبده -جزئيّاً- ورشيد رضا، الذي ستُلهم كتاباته حسن البنا لتأسيس جماعة الإخوان المسلمين لاحقاً.

الكواكبي والعثمانيون

عبد الرحمن الكواكبي

تبنّى الكواكبي موقفاً حادّاً من الخلافة العثمانية عبّر عنه بوضوح في كتابي "أم القُرى" و"طبائع الاستبداد".

يقول الكواكبي في كتابه أم القرى: "أليس التُّرك قد تركوا الأمة أربعة قرون بلا خليفة، وتركوا الدين تعبث به الأهواء بلا مرجع، وتركوا المسلمين صمّاً بكماً عمياً بلا مرشد. أليس الترك قد تركوا الأندلس مبادلة؟ وتركوا الهند مساهلة؟ وتركوا الممالك الجسيمة الآسيوية للروس؟ أما آن لهم أن يستيقظوا ويصبحوا من النادمين على ما فرّطوا في القرون الخالية فيتركوا الخلافة لأهلها والدين لحماته".

في كتابه، اعتبر الكواكبي أن الحل هو اختيار خليفة عربي قرشي يكون له السلطة الروحية على جميع المسلمين ويكون مقره في مكة، ولا يتدخّل في شيءٍ من شؤون السياسة، أما إدارة المسلمين فتكون من قِبَل حكومة يقع مقرّها في دمشق.

وعلى الرغم من الشهرة الساحقة لكتابيْ الكواكبي، فإنهما لم يكونا طليعة حالة الجفاء التي لطالما عبّرت عنها كلمات الكواكبي ضد حكام إسطنبول، فمنذ ريعان شبابه اعتاد كتابة مقالات ساخنة في جرائد "الفرات" و"الشهباء" و"الاعتدال" يندّد بحُكم السلطان عبد الحميد ويتهم ولاته على بلاد الشرق بسوء الإدارة ويحرّض الناس علناً على الخروج عن الدولة العثمانية، فأُلغيت هذه الصحف بناءً على قرارات من الولاة العثمانيين، وهو ما دفع السلطات العثمانية التي كانت تحكم حلب وقتها إلى فرض رقابة عليه ثم السجن لاحقاً، ولاحقاً أمر السلطان العثماني بسحب لقب نقابة الأشراف في حلب من آل الكواكبي ومنحه لآل الصيادي أعضاء الطريقة الرفاعية، بعدها اضطر الكواكبي إلى الهرب لمصر لاحقاً اتقاءً للمزيد من الملاحقات القضائية العثمانية وكان عُمره قد بلغ الـ47 عاماً، وفيها نقّح كتابيه الشهيرين "الاستبداد" و"أم القرى" وأعاد تقديمهما للناس من جديد.

وهنا يجب الإشارة إلى أن دعوات "تعريب الخلافة" لاقت هوى في نفوس أبرز حكّام الشرق حينها، وهما: الشريف الحسين بن علي في مكة والخديوي عباس حلمي الثاني في مصر، والذي قرّب الكواكبي منه ووثّق صلاته به إعجاباً بما يقدّمه من فِكر قد يُساعده على انتزاع الخلافة من الأتراك، كما كلّفه الخديوي بالسفر إلى الأقطار العربية للاطلاع على أحوالها.

كما يجب الإشارة أيضاً إلى أن تلك الدعاوى لاقت هوى بريطانيّاً –التي كانت تحتلُّ مصر خلال وجود الكواكبي فيها-، التي اشتمَّ سياسيوها نُذُر حربٍ عالمية متوقّع حدوثها، بالتأكيد ستُشكل الدولة العثمانية بصحبة حليفتها ألمانيا حجر أساس في أي تكتّل عسكري مضاد لبريطانيا، لذا اعتبرت لندن أن إعادة إثارة مسألة "الخلافة العربية" سيثير رعايا دول المشرق ضد تركيا ويشكّل ضربة قاصمة لها في ذلك الزمن الصعب.

هل قتله العثمانيون؟

تعدّدت الروايات التي نقلت لنا خبر وفاة الكواكبي، والتي اتّهمت السلطان العثماني بدسِّ السم له في القهوة، منها ما حكاه المفكر السوري محمد كرد علي في الجزء الثاني من مذكراته، أن الكواكبي زاره ذات ليلة بصحبة الأديب الدمشقي رفيق العظم، ليخطره أن الخديوي عباس والسلطان عبد الحميد قد اصطلحا، ولهذا قرّر الخديوي السفر إلى الأستانة وعرض على الكواكبي السفر معه ليُصالح السلطان. في لقائه مع أصدقائه أعرب الكواكبي عن تخوّفه من السفر؛ لأن "ابن عثمان لا تأخذه هوادة فيمن خرجوا عن سُلطانه".

نبعت هذه المخاوف من مصير مُصلح آخر، هو جمال الدين الأفغاني الذي سافر إلى إسطنبول عام 1892م، وقضى فيها 5 سنوات رهن الإقامة الجبرية حتى مات "بشكلٍ يدعو للشك" أيضاً!

انتهى اللقاء دون الاستقرار على قرارٍ بالسفر أو عدمه، ثم رحل الكواكبي إلى داره؛ لأنه يشعر منذ الأمس "بوجعٍ في ذراعه ما عرف له تعليلاً"، وما هي إلا ساعة وكان ابنه "كاظم" يدقُّ منزل كرد وهو يصيح فيه باكياً: "أبي مات"!

وأخرى رواها الشيخ صالح عيسى أحد أصدقائه، بأن الكواكبي سافر إلى الخديوي لحضور حفل في الإسكندرية، ثم عاد منها إلى مقهى كان يجلس فيه بعض أصدقائه، وفي تلك الليلة اشتكى الكواكبي من "وجع شديد في خاصرته اليسرى". ولما عاد الشيخ صالح إلى بيته فوجئ بطارقٍ يصرخ أمام الباب: "أنا كاظم الكواكبي، إن والدي قد مات".

كما حكى الدكتور سامي الدهان الأديب الحلبي الكبير ذات الموقف الأخير بتفاصيل متفاوتة قليلاً لفت نظري منها فقرة تقول: "أمر الخديوي بدفن الكواكبي على نفقته الخاصة، وأن يعجل بدفنه".

وعلى هامش رحيله المفاجئ، تكاثفت روايات أصدقائه الذين خطر لهم جميعاً أنه مات بأمرٍ من السلطان عبد الحميد، كتب المؤرّخ الحلبي الأستاذ الغزي: "كأن وفاته كانت مُنتظرة؛ لأنها لم يمضِ عليها يوم وأمر السلطان عبد الحميد أحد الصحفيين موالين له -عبد القادر القباني- بأن يداهم منزل الكواكبي ويستولي على ما فيه من أوراق.

هذه الفرضية لم يستبعدها حفيده حين كتب سيرته الذاتية وكتب إن "الخلاص من الكواكبي كان على يد جواسيس السلطان".

ورغم هذا، فإن العقاد برّأ في كتابٍ له آل عثمان من دم الكواكبي بعدما رأى أن وفاته جاءت مُباغتة وفي وقتٍ مشحون بالغضب على الدولة العثمانية، ما جعل أصدقاءه لا يستبعدون أن تقوم بهذه الفِعلة لكن "تحقيق الخبر للتاريخ لا تكفي فيه مظنّة السوء"، حسبما ذكر.

ورجّح العقاد أنه ذهب ضحية "ذبحة صدرية طبيعية"، واعتبر أن هذا التشخيص يؤيده الأعراض الصحية التي أصابته في يومه الأخير، مثل: وجع الذراع والألم في الجانب الأيسر، وما رُوي عن إصابته بنوبة قلبية خفيفة تلتها نوبة الوفاة.

أما تفسيري الخاص -سيئ الظن- أن الكواكبي راح نتيجة التوافق الذي بدأ يتكوّن بين الخديوي والسلطان، وأن التضحية به -سواء كانت بأمرٍ من السلطان أو بمبادرة من الخديوي- كانت ضرورية قبل المباحثات الدبلوماسية المرتقبة خلال الزيارة، وفي هذا الشأن يحضرني سيناريو القبطان العثماني أحمد فوزي باشا الذي انقلب على الدولة العثمانية وسلّم أسطولها إلى محمد علي والي مصر.

ظلَّ القبطان أحمد مقيماً في مصر ومقرّباً من الوالي فيها حتى وقّع الطرفان صُلحاً أعاد بموجبه محمد علي السفن الحربية إلى إسطنبول عام 1841م، وهو ذات العام الذي شهد وفاة القبطان أحمد بشكلٍ غامض.

خمّن كيف مات القبطان؟ بفنجان قهوة مسموم!

على كلٍّ، ومهما كانت هوية القاتل فإن تلك الوفاة المباغتة للكواكبي هوت كالصاعقة على أسرته، التي عاشت في ضنكٍ شديد بريحله، إلا أن هذا لم يمنع ابنه "أسعد" من مواصلة خُطى والده القومية العروبية -عسكريّاً هذه المرة وليس في جنبات الفِكر كأبيه- بعدما انضمّ إلى الجيش العربي بقيادة الملك فيصل الذي قاوم احتلال الفرنسيين حتى هُزم في موقعة ميلسون، ليستمر نسل الكواكبي في محاربة الاستبداد أينما كان بالقلم مرة وبالبندقية مرة أخرى.

مصادر إضافية

كتاب "عبد الرحمن الكواكبي"، عباس محمود العقاد، ص 105. 

كتاب "ديوان النهضة"، الكواكبي، ص 217. 

كتاب "عبد الرحمن الكواكبي وجدلة الاستبداد والدين"، حسين السعيد، ص 38. 

عبد الرحمن الكواكبي، الحفيد سعد زغلول الكواكبي، ص 107. 

الإصلاح السياسي والوطني في جهود الكواكبي (محور إصلاح الدولة العثمانية)، دكتور محمد علي الأحمد (بحث). 

تراث القلق الإسلامي في نهاية القرن الماضي (قراءة في فكر عبد الرحمن الكواكبي)، إبراهيم بيضون (بحث). 

رؤية الكواكبي للإصلاح السياسي ونظرته للخلافة العثمانية، دكتور أحمد فهد الشوابكة (بحث). 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد متاريك
باحث في التاريخ وعلوم اللغة
باحث في التاريخ وعلوم اللغة، صحفي مصري، عمل محرراً في عدد من دور النشر.
تحميل المزيد