أَضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا.. وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا
بيت شعر قاله الشاعر الأندلسي ابن زيدون في حبيبته ولادة بنت المستكفي بعد طول هجر بينهما، اقتبس الرئيس التونسي قيس سعيّد هذه الأبيات خلال لقائه بالأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل في منتصف شهر يناير/كانون الثاني الماضي ٢٠٢٢، وذكر سعيد هذه الأبيات في سياق الرد على ما راج من جفاء بينه وبين الاتحاد العام التونسي للشغل، محاولاً استدراجه إلى صفه بالكامل.
إبان انقلاب 25 يوليو/تموز ٢٠٢١ أصدرت منظمة الشغيلة بياناً عبّرت من خلاله عن موقف داعم للإجراءات التي أعلن عنها قيس سعيّد، وأكدت وجوب "مرافقة التدابير الاستثنائية التي اتّخذها الرئيس بجملة من الضمانات الدستورية، وفي مقدّمتها ضرورة ضبط أهداف التدابير الاستثنائية بعيداً عن التوسّع والاجتهاد والمركزة المفرطة، وتحديد مدّة تطبيق الإجراءات الاستثنائية والإسراع بإنهائها حتّى لا تتحوّل إلى إجراء دائم، والعودة في الآجال إلى السير العادي وإلى مؤسّسات الدولة، وكذلك ضمان احترام الحقوق والحريات، بما فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية دون تجزئة، مع الاحتكام إلى الآليات الديمقراطية والتشاركية في أيّ تغيير سياسي، في إطار خارطة طريق تشاركية واضحة تسطّر الأهداف والوسائل والرزنامة وتطمئن الشعب وتبدّد المخاوف"، حسب نص البيان.
راهن سعيد على اصطفاف قيادة الاتحاد معه في مواجهة معارضيه وتمكين مشروعه "الإصلاحي"، كما ادعى حينها، إلا أنه وبتقدم مسار الأحداث ظهرت على الساحة بوادر أزمة، صارت اليوم جليةً بين الاتحاد وقيس سعيد.
سعيد يريد اتحاداً موالياً
ترتبط خطوات سعيّد منذ إعلان ترشحه للرئاسة برؤية سياسية ونسق فكري يتقاطع فيه مع "رفاقه" مؤسسي اتحاد قوى تونس الحرة.
ظهر هذا التقاطع من خلال التطابق بين الأرضية السياسية لهذا التنظيم والنص الذي نشره سعيّد سنة 2013 تحت عنوان مبادرة من أجل تأسيس جديد وكذلك في رسالته إلى الشعب التونسي قبيل انتخابات 2019.
ومن أجل تنزيل هذه الرؤية، يرى سعيد وجماعته ضرورة تجاوز وسائل التعبير الكلاسيكية من أحزاب ونقابات وجمعيات.
لم تمر فترة طويلة حتى تَفطّن الاتحاد إلى الدور الذي يريد سعيد من قيادة المنظمة أن تلعبه، فبمجرد انطلاق العمل على قانون المالية 2022 واستبعاد الاتحاد عن ورشات الإعداد له، اكتشف الطبوبي ورفاقه نية تهميش منظمتهم من قبل المنظومة الجديدة، وازدادت هذه القناعة ترسيخاً، إثر إصدار الحكومة منشوراً يفرض على الوزارات والإدارات العامة والمؤسسات الحكومية عدم التفاوض مع هياكل الاتحاد دون العودة للحكومة، في خطوة اعتبرتها قيادة الاتحاد تعطيلاً للتفاوض وتقزيماً لدورهم.
ومَثّلَ تسريب مشروع وثيقة الإصلاحات الهيكلية الاقتصادية والاجتماعية، المطلوب اقتراحها على صندوق النقد الدولي دون إشراك منظمة الشغيلة في صياغتها وتضمين مقترحات يرفضها على غرار بيع بعض المؤسسات العامة وتجميد كتلة الأجور وإيقاف الانتدابات- دليلاً جديداً على هذا التهميش.
من جهته، احتج الاتحاد العام التونسي للشغل على سياسة سعيد وحكومته تجاهه، وطالب بأن يحكم الفترة الاستثنائية مقاربة تشاركية من خلال حوار وطني حقيقي يعيد البلاد إلى مسارها الدستوري، ويخرجها من أزمتها السياسية على غرار ما تم خلال سنة 2013.
طبعاً لم يستسغ سعيد طرح نور الدين الطبوبي، واعتبر في تصريح نفاه لاحقاً أن حوار 2013 الذي قاده الاتحاد وحصل إثر نجاحه على جائزة نوبل للسلام لم يكن حواراً ولم يكن وطنياً.
وتزامن انطلاق التجاذب بين الرئيس والاتحاد مع استعداد الأخير لعقد مؤتمره الاستثنائي، وقد شهدت الاستعدادات ظهور انشقاقات وتنازع قضائي داخل صفه القيادي، قال البعض إنه بدفع من سلطة الانقلاب من أجل استهداف الطبوبي وحلفائه.
وهو ما أكده الأمين العام لحزب العمال حمة الهمامي، قائلاً إن سعيد يريد إضعاف الاتحاد حتى تتمكن الحكومة من تمرير خياراتها المؤلمة وإجراءاتها، في إشارة إلى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
وكشف منذ أيام رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمادي أن وزيرة العدل طلبت من قاضية تحديد موعد لقضية مؤتمر الاتحاد في دائرة معينة بهدف استهدافه، وأن رفض القاضية طلب الوزيرة تسبب في إعفائها من منصبها.
قاوم الطبوبي محاولات الاستهداف، وانتصر في معركة إنجاز المؤتمر والمواصلة على رأس الاتحاد، متمسكاً بدور متقدم في صياغة الخيارات الاقتصادية والاجتماعية، مُصراً على حوار صار مطلباً للتونسيين وغيرهم من شركاء البلاد وأصدقائها.
منهجية الحوار.. القطرة التي أفاضت الكأس
مع تواصل الضغط الدولي والمحلي على قيس سعيد، استجاب إلى مطلب إعلان خارطة طريق واضحة تنهي حالة الاستثناء التي تعيشها البلاد، وأعلن مساراً قال إنه سيشمل حواراً مع الشعب على مضامين دستور جديد لجمهورية جديدة، وأقر الاستشارة الإلكترونية وسيلةً للتشاور مع الشعب ولجاناً استشارية تضم ممثلين عن المنظمات والأحزاب الداعمة لانقلاب 25 يوليو وشخصيات وطنية موالية له يعينهم بنفسه لإبداء الرأي، وتقديم المقترحات حول مضامين الدستور الجديد والنظام السياسي المعتمد فيه.
هنا انتفض الاتحاد واعتبر في بيان هيئته الإدارية أن الاستشارة الإلكترونية "لا يمكن أن تعوض الحوار؛ لكونها لا تمثّل أوسع شرائح المجتمع وقواه الوطنية، فضلاً عن غموض آلياتها وغياب سبل رقابتها، ومخاطر التدخّل في مسارها والتأثير في نتائجها".
لكن لم يعبأ سعيد بانتقادات اتحاد الشغل وبقية القوى الوطنية والأجنبية حول استشارته الإلكترونية، مؤكداً نجاحها، وأن نتائجها ستكون أرضية ينطلق منها المشاركون في الحوار الوطني، رغم أن المشاركة فيها لم تبلغ 5 بالمئة من نسبة المعنيين بالتصويت عليها.
الاتحاد لا يرضى بغير دور البطولة
واصل الاتحاد العام التونسي للشغل رفضه منهجية سعيد في قيادة البلاد بحكم الفرد، مطالباً السلطات بإنجاز حوار تنفتح فيه على مختلف القوى الحية.
وقال الطبوبي إن المكتب التنفيذي للمنظمة "قرر أنه لن يكون شريكاً في حوار مسبق المخرجات، ولن يكون مجرد صورة إعلامية"، ورغم مؤشرات الاستهداف بالإقصاء والتدجين التي كانت تصلها بين الحين والآخر، لم تتوقف قيادة الاتحاد عن إبلاغ رسائل الطمأنة والود لقيس سعيد أملاً في استجابته لهم في تمكين المنظمة من لعب أدوار متقدمة في الحوار المعلن وفق المنهجية التشاركية التي طالبوا بها.
ولم يطل انتظار منظمة الشغيلة كثيراً حتى أعلن قيس سعيد تركيبة لجان الهيئة الاستشارية الوطنية لتأسيس جمهورية جديدة، حيث لم يكتفِ سعيد بعدم الاستجابة لمطلب الاتحاد حول منهجية الحوار، بل أصدر أمراً رئاسياً تضمن تركيبة اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية برئاسة عميد المحامين إبراهيم بودربالة، وعضوية أمين عام اتحاد الشغل وبعض المنظمات الاجتماعية الأخرى.
فرفض الاتحاد المشاركة في حوار قيس سعيد، وقاطع جلساته، وفي خطوة تصعيدية أعلن الإضراب العام في مختلف مؤسسات القطاع العام يوم 16 يونيو/حزيران.
وجلبت مقاطعة الاتحاد لحوار سعيد وإعلان الإضراب العام استهدافاً واسعاً له من قبل أنصار قيس سعيد الذين رأوا في قراراته اصطفافاً مع معارضي الرئيس، كما صرح الطبوبي بأن الاتحاد صار مستهدفاً من قبل السلطة دون أن يقدم تفاصيل عن هذا الاستهداف.
ماذا لو طالب الاتحاد بإسقاط الانقلاب؟
يحرص الاتحاد العام التونسي للشغل على عدم توصيف ما حصل في تونس بالانقلاب، وأعلن في أكثر من مناسبة تحميل مسؤولية ما يحدث لحركة النهضة وحلفائها، واصفاً فترة حكمها بالعشرية السوداء.
وقال الاتحاد إنه لن يلتحق بأحد، في إشارة لجبهة الخلاص ومواطنون ضد الانقلاب، إلا أن مواقفه في الفترة الأخيرة اقتربت من مواقفها، وجاء بيان المكتب التنفيذي الرافض لقرار عزل القضاة تعزيزاً لهذا التقارب، فإن الدور التاريخي لمنظمة الشغيلة وزخمها النقابي وحضورها القوي في مختلف جهات البلاد وفضاءاتها الحيوية، يجعل منها رقماً صعباً في مواجهة الانقلاب، وفق تقارير.
ويعلم سعيّد جيداً بأن الدخول مع الاتحاد في مواجهة مباشرة هي معركة "تكسير عظام"، كما صرح بذلك سابقاً، معلناً عدم نيته خوض هذه المعركة.
لكن يبدو من خلال قرار الإضراب العام وما رافقه من تصريحات ولقاءات جماهيرية وأخرى سياسية أن الاتحاد هو الذي اختار خوض هذه المعركة مع المحافظة على التمايز مع حركة النهضة وحلفائها. والتاريخ والوقائع تدل على أن الاتحاد لم يدخل في معركة ضد السلطة إلا وأضعفها.
ويظهر أيضاً من خلال منهج المرور بقوة الذي يعتمده قيس سعيد في التعاطي مع مطالب الاتحاد وما يعلنه محسوبون عليه من اقتراحات تستهدف منظمة الشغيلة بالإضافة إلى حملة التشويه التي يقودها أنصاره ضد الاتحاد وقيادته تنبئ بأن سعيد اختار المواجهة بعد فشل سياسة الاحتواء.
هنا يقفز إلى الأذهان جملة من التساؤلات، أهمها في حال انطلاق هذه المواجهة والأمر صار حتمياً؛ فأيّ مصير للانقلاب في حال انضمام الاتحاد لجبهة مقاومة الانقلاب، وأي انعكاس لهذا التحول في موقف الاتحاد على مواقف القوى المنحازة لشرعية سعيد على غرار بعض وسائل الإعلام والقوى السياسية وأيضاً القوى الصلبة في البلاد؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.