بالعودة إلى الدستور التونسي في مسودته الأولى سنة 2012، من حيث كل من التوطئة وبابَي المبادئ العامة والحقوق والحريات، ستجده متسقاً إلى حد كبير مع هوية وقيم غالبية الشعب التونسي، ينهل في هذا الجانب من دستور 1959 ويزيد ويطور، رغم أن هذا الأخير بقي في جانبٍ منه حبراً على ورق، بما في ذلك الفصل الأول: "تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها".
بيد أن هذا الاتساق يتعارض ضرورةً مع توجهات ومصالح الأقلية العلمانية المناهضة لقيم الأغلبية والمسيطرة على مفاصل الدولة، وقد تفشت هذه الأقلية الأيديولوجية منذ السبعينات في مفاصل الدولة، وصار تمكنها تاماً زمن بن علي. فأن يصير دستور كهذا ناجزاً نافذاً، وأتحدث دائماً من حيث التوطئة وباب المبادئ العامة والحقوق والحريات، فإنه يخول للأغلبية العمل والإنجاز والإبداع في تماهٍ مع قيمها وأخلاقها، وبالتالي السير لزاماً نحو إزاحة الأقلية والأخذ بزمام قيادة الدولة والمجتمع، بما يضر بمصالح فرنسا (والغرب) مُنشئة هذه الأقلية وداعمتها.
لذا كان هذا الدستور منذ ظهور المسودة الأولى محل هجمة شرسة من هذه الأقلية المسيطرة على المشهد الإعلامي، مع العمل على ربطه في المخيال بـ"الإخوان" (حركة النهضة في تونس).
ولأن الترويكا بأياديها المرتعشة وارتجالها وحداثة عهدها بدواليب الحكم (وقد صعدت حركة النهضة مثلاً إلى الحكم في 2011 بلا برنامج واضح باعتراف عبد الفتاح مورو)، عجزت الترويكا عن التعامل مع التحديات من حيث شروع المنظومة القديمة، بما فيها هذه الأقلية، في استعادة زمام الأمور بأذرعها الإعلامية والنقابية والألغام التي زرعها الباجي قائد السبسي خلال قيادته الحكومة المؤقتة في 2011، علاوة على التعامل الأخرق من حركة النهضة مع تنامي خطر الإرهاب والحركات السلفية المتطرفة.
وجدت هذه الأقلية مدخلاً لفرض ضغوط على مشروع الدستور، زادت وطأتها وأثرها مع الاغتيال السياسي الأول ثم الثاني لبلعيد والبراهمي مع المتغير الإقليمي الأبرز بالانقلاب العسكري في مصر، وفي ما بينهما نطقت سامية عبو– رغم أنها محسوبة على الجانب المعتدل من هذه الأقلية أو ما يُعرَف باليسار الاجتماعي– بعبارة "دستور خوانجي" التي تلخص منظور الأقلية لما يتماهى مع أخلاق وقيم غالبية التونسيين، والتستر في ذلك خلف فزاعة محاربة "الإخوانجية"، وقد نطقت بعد سنوات بعبارة أخرى تلخص الصراع بقولها: "ما تشبهولناش" (لا تشبهوننا).
إذاً، كان 25 يوليو/تموز 2013 موعد تمام الانحراف، باعتصام الرحيل أو ما سمي سخرية "اعتصام الروز بالفاكية"؛ حيث تمسكت هذه الأقلية بقائد السبسي، الممثل الأخير للحزب الدستوري وسرديته الكاذبة، وقد آتت ألغامه أكلها، فامتطى الأقلية قائداً الثورة المضادة.
وهنا اختار راشد الغنوشي أن ينحرف بحزبه عن الخط الثوري وخطر المواجهة إلى خيار "التوافق"، الذي عُرِف شعبياً من باب السخرية بـ"التنافق"، مع قائد السبسي، صُعد على أساسه هذا الأخير إلى سدة الحكم.
لكن قبل الوصول إلى مرحلة "حكم التوافق" ورغم الحفاظ على غالب ما جاء في التوطئة والبابين من الدستور عند الوصول إلى نسخته المصادق عليها في 2014، تم تفخيخه إلى حد ما ببعض ما سترتكز عليه الأقلية لحاقاً في فتنتها (فمثلاً في التوطئة تم تغيير "وتأسيساً على ثوابت الإسلام ومقاصده المتسمة بالتفتح والاعتدال، وعلى القيم الإنسانية السامية" إلى "وتعبيراً عن تمسك شعبنا بتعاليم الإسلام ومقاصده المتسمة بالتفتح والاعتدال… ومبادئ حقوق الإنسان الكونية السامية"، كما تم اعتماد قانون انتخابي يحولُ دون إفراز أغلبية مريحة للحكم، مقابل تمثيلية زائدة للأقليات المعرقلة.
بعد انتخابات 2014، كانت الضربة الأولى والأوجع للدستور أنه خُرِق سريعاً وفقد علويته لصالح وثيقة قرطاج التي وقعتها أطراف سياسية عديدة، على رأسها حزب السبسي وحركة النهضة، التي أبدت لاحقاً استعداداً لمعاودة الخرق لو وافق قيس سعيد. هذا إلى جانب تمرير قانون المصالحة المرفوض شعبياً الخارق للدستور، وخصوصاً عجز النواب طوال سنوات من مرحلة التنافق ثم ما بعد 2019 عن انتخاب المحكمة الدستورية.
أما الحدث الأخطر فكان تخريب ثقة العامة بالدستور، عبر ما سميته "فتنة الكوليب" بإنشاء قائد السبسي "لجنة الحريات الفردية والمساواة" المدججة بالأقلية اليسارية العلمانية، التي ادعى أنها ستقترح "إصلاحات وفقاً للدستور"، فيما الحقيقة منافاتها له في جل ما اقترحت، رغم ما مسه من تغييرات وتفخيخ (كما المثال في الفقرة السابقة حيث تم التلاعب لتقليص المرجعية الإسلامية وإدراج كونية حقوق الإنسان والارتكاز عليها).
فكان مشهد وضع الدستور فوق القرآن، والمسعى للمس بحكم المواريث القطعي والتطبيع مع المثلية صادماً للتونسيين، إلى جانب ما حصل من خروقات للدستور وغياب الأثر الملموس لهذا النص في واقعهم. بما جعلهم في فترة لاحقة لا يكترثون لخرق قيس سعيد للدستور والانقلاب عليه ثم إلغائه والسعي لكتابة دستور جديد تخطه الأقلية العلمانية يتصدرها الصادق بلعيد، أحد رموز فترة ما قبل الثورة، والمبارِك والموقع على وثيقة قرطاج الخارقة لدستور 2014.
إن هذه التراكمات تجعل مطلب حركة النهضة وحلفائها في الحفاظ على دستور 2014 والعودة إليه مجروحاً غير ذي شعبية، حتى وهي تحاول استرجاع صراع الهوية برفض مشروع دستور سعيد الجديد من حيث قيامه على حذف الفصل الأول وعدم اعتماد الإسلام ديناً للدولة.
أما سعيد فيبحث من خلال الاستفتاء على الدستور الجديد– المرجح أنه مكتوب– عن إيجاد شرعية يستند عليها في الاستفتاء لا الدستور. فيما الأقلية "اليسرجية" نجحت فعلياً وعلى مراحل في تقويض مشروع دستور 2012، وتمكنت مؤقتاً من الحفاظ على مصالحها، وكبح مسعى الأغلبية المحافظة في الأخذ بزمام الأمور.
قال الصادق بلعيد -منسق الهيئة الوطنية الاستشارية لإعداد دستور "الجمهورية الجديدة" في تونس- إنه سيعرض على الرئيس قيس سعيّد مسودة لدستور لن تتضمن ذكرا للإسلام دينا للدولة، بهدف التصدي للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية على غرار حركة النهضة.
لكن مهما كان نتاج دستور سعيد ومدى امتداد فترة حكمه أو حكم الأقلية، فإنه لن يفضي إلى استقرار وازدهار، ما دام لا يمثل هوية وقيم غالبية الشعب، والغلبة في الأخير ستكون لقوة الأغلبية الصاعدة مع تبلورها ونضجها على حساب منظومة في طور الأفول، عاجزة عن الإنجاز.
لقد عرفت فرنسا سبعة دساتير خلال أقل من عقد ونصف عقب الثورة، في خضم صراع بين القوى القديمة والجديدة، منها ما لم يُنفذ بالمرة، وسبعة دساتير أخرى خلال أزيد من قرنٍ لاحقاً.
وستعرف تونس نصيبها من التغييرات والنصوص المؤسسة إلى أن تستقر على نص يتماهى مع هوية وقيم الأغلبية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.