كان انتشار الإسلام في المرحلة السِّرِّيَّة، في سائر فروع قريش بصورةٍ متوازنةٍ، دون أن يكون ثقلٌ كبيرٌ لأيِّ قبيلة، وهذه الظاهرة مخالفةٌ لطبيعة الحياة القبليَّة آنذاك. وهي إذا أفقدت الإسلام الاستفادة الكاملة من التكوين القبليِّ، والعصبية لحماية الدَّعوة الجديدة، ونشرها، فإنَّها في الوقت نفسه لم تؤلِّب عليه العشائر الأخرى؛ بحجَّة: أنَّ الدَّعوة تحقِّق مصالح العشيرة التي انتمت إليها، وتعلي من قدرها على حساب العشائر الأخرى، ولعلَّ هذا الانفتاح المتوازن على الجميع أعان على انتشار الإسلام في العشائر القرشيَّة العديدة دون تحفُّظاتٍ متَّصلةٍ بالعصبيَّة.
فأبو بكر الصِّدِّيق من "تَيْم"، وعثمان بن عفان من "بني أميَّة"، والزُّبير بن العوَّام من "بني أسد"، ومصعب بن عمير من "بني عبد الدَّار"، وعليُّ بن أبي طالب من "بني هاشم"، وعبد الرَّحمن بن عوف من "بني زُهرة"، وسعيد بن زيد من "بني عَدِيّ"، وعثمان بن مظعون من "بني جُمَح"؛ بل إنَّ عدداً من المسلمين في هذه المرحلة لم يكونوا من قريش؛ فعبد الله بن مسعودٍ من هُذَيل، وعُتبة بن غزوان من مازنٍ، وعبد الله بن قيس من الأشعريين، وعمَّار بن ياسر من عنس من مَذْحِج، وزيد بن حارثة من كلب، والطُّفيل بن عمرو من دَوْسٍ، وعمرو بن عبسة من سليم، وصهيب النَّمَري من بني النَّمِر بن قاسِط. لقد كان واضحاً: أنَّ الإسلام لم يكن خاصّاً بمكَّة. (السِّيرة النَّبويَّة الصَّحيحة، العمري، 1/133).
لقد شقَّ النَّبيُّ- صلى الله عليه وسلم- طريقه بكلِّ تخطيطٍ ودقَّةٍ، وأخذ بالأسباب مع التوكُّل على الله تعالى؛ فاهتمَّ بالتَّربية العميقة، والتَّكوين الدَّقيق، والتَّعليم الواسع، والاحتياط الأمني، والانسياب الطَّبيعي في المجتمع، والإعداد الشَّامل للمرحلة التي بعد السِّرِّيَّة؛ لأنَّه- عليه الصَّلاة والسَّلام- يعلم أنَّ الدَّعوة إلى الله لم تنزل لتكون دعوةً سرِّيَّةً، يخاطب بها الفرد بعد الفرد، بل نزلت لإقامة الحجَّة على العالمين، وإنقاذ من شاء الله إنقاذه من النَّاس، من ظلمات الشِّركِ، والجاهليَّة إلى نور الإسلام والتَّوحيد، ولذلك كشف الله- تعالى- عن حقيقة هذه الدَّعوة، وميدانها، منذ خطواتها الأولى؛ حيث إنَّ القرآن المكيَّ بيَّن شمول الدَّعوة، وعالميتها:
قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ [ص: 87].
وقال تعالى: ﴿وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ [القلم: 52].
إنَّ الدَّعوة جاءت لتخاطب البشر، كلَّ البشر، ولتنقذ منهم من سبقت له من الله الحسنى، وهذا يعني: أنَّ الدَّعوة جاءت ومن خصائصها الإعلان، والصَّدع، والبلاغ، والبيان، والإنذار، وتَحمُّل ما يترتَّب على هذا من التَّكذيب، والإيذاء، والقتل.
إن استسرار النَّبيِّ- صلى الله عليه وسلم- في دعوته أوَّل الأمر إنَّما هو حالٌ استثنائيٌّ لظروفٍ وملابساتٍ خاصَّة، وهي ظروف بداية الدَّعوة، وضعفها، وغربتها، وينبغي أن يُفهم ضمن هذا الإطار.
وإن كان الكتمان والاستسرار سياسةً مصلحيَّةً في كثيرٍ من أمور الإسلام في الحرب، والسَّلام؛ فهو كذلك في موضوع الدَّعوة؛ فالاستسرار بها كان لضرورة فرضها الواقع، وإلا فالأصل هو بيان دين الله، وشرعه، وحكمه لكلِّ النَّاس، أمَّا الاستسرار بما سوى ذلك من الوسائل، والخطط، والتَّفصيلات؛ فهو أمرٌ مصلحيٌّ خاضعٌ للنَّظر، والاجتهاد البشريِّ؛ إذ لا يترتَّب عليه كتمانٌ للدِّين، ولا سكوتٌ عن حقٍّ، ولا يتعلَّق به بيانٌ، ولا بلاغٌ، ومن ذلك- مثلاً- معرفة عدد الأتباع المؤمنين بالدَّعوة، فهذا أمرٌ مصلحيٌّ لا يخلُّ بقضية البلاغ، والنذارة، الَّتي نزلت الكتب، وبُعثت الرُّسل من أجلها، فيمكن أن يظلَّ سرّاً متى كانت المصلحة في ذلك، مع القيام بأمر الدَّعوة، والتبليغ، ولهذا فإنَّ النَّبيَّ- صلى الله عليه وسلم- حتَّى بعد أن صدع بدعوته، وأنذر النَّاس، وأعلن النُّبوَّة ظلَّ يخفي أشياء كثيرةً لا تؤثِّر على مهمة البلاغ والبيان، كعدد أتباعه، وأين يجتمع بهم، وما هي الخطط الَّتي يتَّخذونها إزاء الكيد الجاهليِّ. (الغرباء الأوَّلون، ص 126)
معنى عالمية الدين ومحدودية الرسالات السابقة:
الدين هو الوضع الإلهي الذي اختاره الله لعباده ليصلحهم في الحياتين، ويكون عالمياً بعدم اختصاصه بجنس من الأجناس البشرية، وبعدم انحصار تطبيقه في إقليم خاص أو بيئة معينة، وبامتداد هدايته أزماناً طويلة تتجاوز العصر الذي بدأت فيه، بمعنى أن يكون الدين صالحاً لكل جنس وكل جيل، أو لكل زمان ومكان، أو بمعنى آخر أن يكون الدين شريعة الإنسان من حيث هو إنسان، بقطع النظر عن العوامل والفوارق العارضة، التي لا تدخل في ماهية الإنسان كإنسان، وبدون ذلك لا يتحقق معنى العالمية في أي دين.
فهو لا يكون دين جنس تميزه فصيلة الدم، أو سمة اللون، أو ظاهرة اللغة، بل دين لا يفرق بين العربي والعجمي والحبشي والرومي، ولا بين الأبيض والأسود والأحمر والأصفر، ولا يمنع من أن يستظل بلوائه متكلم بأية لغة من اللغات، وهو لا يكون ديناً محلياً تحده حدود جغرافية واعتبارات إقليمية، بل يصلح لكل البيئات وكل الأجواء ويتناسب مع كل بقعة زراعية وصناعية وتجارية، برية وبحرية، بدوية وحضرية على اختلاف المستويات المادية والاعتبارات الأخرى.
وهو لا يكون ديناً عالمياً إلا إذا صحب الإنسان في جميع أزمانه المتطورة، وعصوره المتلاحقة، بمعنى أن يكون خالداً لا يعتريه نسخ أو زوال، ولا عقم أو جمود، موفياً بجميع مطالبه المتنوعة المتجددة في الميادين السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وفي كل الميادين التي يزاول فيها الإنسان بعقله الواسع نشاطه الكامل من كل نوع.
ولا يوجد دين من الأديان السماوية أو الوضعية فيه هذه المواصفات التي تجعله عالمياً إلا دين الإسلام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.