يعني الاعتماد المتبادل قيام علاقة بين طرفين على أساس مراعاة مصالحهما معاً، ودون أن يكون أحدهما مستفيداً منها دون الآخر، وهي حالة تنشأ في واقع يشهد استقلال شخصيتهما، وسياساتهما عن بعضهما البعض. وهذا يستلزم التكافؤ في العلاقة، وانتفاء تبعية أحدهما للآخر أو مسايرته لسياساته، حيث يفرض التوازن والتبادلية نفسيهما في صلب العلاقة بينهما، وإلا لأضحى مفهوم الاعتماد المتبادل بلا معنى. من الملاحظ أن العلاقة التركية الغربية لم تعبر فيما مضى عن هذا المفهوم، بل مثلت علاقة تبعية ومسايرة من طرف ضعيف تجاه طرف قوي. وفي ضوء المحاولات التركية في عهد حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ عقدين من الزمان لإعادة شكل العلاقة بينهما لتصبح على أساس الندية والتكافؤ وتبادل المصالح، فإن المقالة تحاول فحص إمكانية اشتغال منظور الاعتماد المتبادل في السياق التركي الغربي الراهن، ومن ثم استشراف مستقبل العلاقة التركية الغربية في ضوء ذلك.
هناك تشابك كثيف في العلاقات التركية الغربية، فضلاً عن وجود عوامل كثيرة يمكن أن تؤثر على شكل ومستقبل العلاقات بينهما، الأمر الذي يجعل من قبول الغرب بتغيير أسس العلاقة بين الطرفين بعيد المنال، فيما تظل هذه الممانعة سبباً لتوتر العلاقة بين الطرفين حتى يستطيع أحدهما إملاء مواقفه على الآخر.
العوامل المحددة لطبيعة العلاقة التركية الغربية
أولاً: الرغبة التركية بالاستقلال والنهوض، إذ لا تخطئ عين المساعي التركية الراهنة الهادفة للانبعاث من جديد، وإعادة تعريف الذات والآخر، وما يعنيه ذلك من جهد يهدف للتغيير العميق في المواقف والسياسات التركية، والانتقال من وضع التابع والمساير للغرب تحديداً، إلى وضع الند والمشارك في رسم السياسات، والمؤثر في الآخرين سواء بسواء. وهي محاولة تهدف لتغيير القواعد والأسس التي يتعين قيام العلاقة بين الطرفين بناء عليها، ولهذا يمثل هذا المدخل أحد مستويات تحليل العلاقة بينهما واستشراف مآلاتها المستقبلية.
يشكل مبدأ التكافؤ النسبي في العلاقات الدولية من جهة، ومراعاة كل طرف مصالح الأطراف الأخرى من جهة أخرى، مقوماً مهماً في نجاح وديمومة تلك العلاقات، ويمكّن ذلك كل طرف من تحقيق الحد الأدنى المقبول من مصالحه ومطالبه، ويستدعي فحص ما إذا كانت العلاقة التركية الغربية تستند إلى أسس صحيحة أم لا، التعريج على ملابسات قيام العلاقة أساساً. من الواضح أن العلاقات التركية الغربية قد قامت منذ قرن من الزمان على أساس هزيمة الدولة العثمانية على يد القوى الغربية، وهي تندرج في سياق المساعي الهادفة أساساً لسلخ تركيا عن إرثها العثماني وتاريخها المديد، وفصلها عن محيطها الشرقي ببعديه العربي والإسلامي.
ولذلك فقد تأسست العلاقة على قاعدة مهزوم ومنتصر، ضعيف وقوي، تابع ومتبوع، وقد خلت تماماً من أي مقوم من مقومات التكافؤ، وهذا يستلزم القول إن العلاقة بينهما هي علاقة قسرية لا اختيارية؛ لأنها جاءت تتويجاً لهزيمة الدولة العثمانية الحاسمة أمام الغرب، وقد نجم عن ذلك إلحاق تركيا بالغرب سياسياً، واقتصادياً، وثقافياً.
ولذلك فإنه يمكن القول إن واقع العلاقة التركية الغربية يستند لأسس شاذة وغير طبيعية، ويشكل هذا المعطى السبب الرئيس، وربما الوحيد لتوتر العلاقات التركية الغربية منذ وصول حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم للسلطة، حيث يسعى الحزب لإعادة رسم خطوط العلاقة بين الطرفين بطريقة متوازنة وتبادلية، وتستند إلى إطار الندية وتحقيق المصالح المشتركة بين الطرفين.
التوجهات التركية الجديدة
بدوره يمانع الغرب بشدة بقبول التوجهات التركية الجديدة؛ لأن الانتقال بالعلاقة بين الطرفين من حالة التابع والمتبوع، إلى حالة الأنداد ستترتب عليه مكاسب تركية كبرى ستكون بالتأكيد على حساب المصالح الغربية، الأمر الذي يؤسس لدورة تاريخية مختلفة من العلاقات بين الطرفين، بحيث لا تضمن العلاقة الجديدة- وفقاً للمنظور التركي- هيمنة الغرب أو تبعية تركيا. غني عن القول إن علاقة التكافؤ المنشودة وفقاً للموقف التركي ستصب في صالحه، تماماً كما أن العلاقة التاريخية بين الطرفين (تابع/متبوع) كانت في صالح الغرب، ووفقاً لذلك فإن ثمة إشكالية كبيرة تصبغ علاقة الطرفين في الوقت الراهن وفي المستقبل.
ثانياً: الحضور التركي الكبير في الغرب، حيث الجاليات التركية المنتشرة في العديد من الدول الغربية المؤثرة، ويمكن لهذا المعطى أن يشكل عاملاً مهماً يؤهل تركيا للتأثير الكبير في المجتمعات الغربية في حال إعادة ترتيب العلاقة بين الطرفين على أسس متوازنة. إن من شأن توظيف تركيا لهذا العامل في المواجهة السياسية والاقتصادية والثقافية مع الغرب يمثل رافعة مهمة، تمنحها اليد الطولى للتأثير في المجتمعات الغربية، فضلاً عن السياسات والتوجهات والاستراتيجيات الحكومية.
ثالثاً: تعاظم القدرة التنافسية للمنتجات التركية في الأسواق الأوروبية، كانعكاس تمليه النهضة الاقتصادية والصناعية التركية، وتزايد نفوذها السياسي الإقليمي والدولي، ويشكل ذلك أداة مهمة يمكن أن تسخرها تركيا بذكاء في سياق التدافع الحضاري بين الفريقين.
رابعاً: الإسلاموفوبيا، ويشكل ذلك عاملاً آخر يوسع الفجوة القائمة بين تركيا والغرب؟ ويتفاعل هذا العامل من خلال زاويتين، تتركز أولاهما حول الجالية التركية المسلمة في الغرب المشار إليها آنفاً، والتي ستنحاز مع مرور الوقت للمظلة الثقافية الإسلامية في مقابل الثقافة الغربية، وما يعنيه ذلك من فرصة لخلْخلة الهيمنة الثقافية الغربية، فيما تتركز الثانية حول توجهات الحكومة التركية منذ عهد العدالة والتنمية الذي لا يخفي الانحياز لإرثه الإسلامي، كما لا يخفي مساعيه للانفتاح والتعاطي الإيجابي مع محيطيه العربي والإسلامي، وما يعنيه ذلك من تداعيات تؤثر داخل تركيا، أو عبر علاقاتها الخارجية، وهي حالة تغذي الصعود الحضاري الإسلامي الذي يؤرق صناع القرار في الغرب.
خامساً: يشكل التاريخ العثماني/الغربي محدداً مهماً لطبيعة ومستقبل العلاقة بين الطرفين. إذ لا يمكن تجاهل وصول تركيا العثمانية لقلب أوروبا، وإخضاع مساحات واسعة منها تحت سلطانها لعقود أو قرون طويلة فيما مضى؛ الأمر الذي يبقي على المخاوف الغربية حاضرة إزاء احتمالات تكرار ذلك مستقبلاً مع حركة الانبعاث التركية الحالية.
وفي المحصلة يدفع ما سبق باتجاه رفض الغرب إعادة نسج العلاقة مع تركيا على أساس الاعتماد المتبادل؛ لأن من شأن ذلك أن يقلب العلاقة بينهما رأساً على عقب، فيما ترفض تركيا من جهتها بقاء العلاقة بينهما وفقاً لأسس غير متوازنة، ويشكل هذا التعارض وقوداً للتدافع الخفي (حتى اللحظة) بين الطرفين، وسيوسع دائرة التنافر بينهما، فيما سيلعب التغيير في معادلات القوة لصالح تركيا دوراً مهماً في تسريع وإنضاج حالة الصراع بين الطرفين مع مرور الوقت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.