بداية، في خضم التحولات الجيوسياسية اللافتة التي يشهدها العالم نتيجة للغزو الروسي لأوكرانيا ينبغي أن نتذكر أن العامل الرئيسي المهيمن على ديناميات المشهد الكلي يبقى اقتصادياً، ويتمثل في حقيقة أن الاقتصاد العالمي يعاني من اختلالات هيكلية حادة نتيجة تركز الإنتاج في الشرق وتركز الاستهلاك في الغرب، وهذا خلل لن يكون بوسع الناتو- بما في ذلك الولايات المتحدة- حسمه في ظل معطيات التوازن العسكري الاستراتيجي القائم بين الناتو من ناحية والتحالف الصيني الروسي المدعوم من كوريا الشمالية من الناحية الأخرى.
وتعلم واشنطن علم اليقين أنه ليس من الحكمة أو الحصافة أن تتم محاصرة دولة عظمى نووية كروسيا في "خانة اليك"، فتبعات ذلك ستكون وخيمة جداً على أوكرانيا. إلا أنه من الواضح أن الولايات المتحدة تود إطالة أمد الحرب قدر المستطاع؛ لأن في ذلك على الأقل نوعاً من "الإهانة العسكرية" لروسيا بوتين القوية وفوائد كبيرة للمجمع الصناعي العسكري في أمريكا عبر توريد العتاد لأوكرانيا. وعليه فإن الولايات المتحدة ستستمر في محاربة روسيا حتى آخر جندي أوكراني، لكن بوتين سيخرج "منتصراً" في نهاية الأمر!
كيف سينتصر بوتين؟
سوف يحسم بوتين المعركة عسكرياً بإحداث تدمير شبه شامل للبنى التحتية الرئيسية عبر أوكرانيا بأكملها واحتلال كل المناطق الاستراتيجية في شرق أوكرانيا، بما في ذلك إقليم لوغانسك. وعندئذ ستخضع الحكومة الأوكرانية على طاولة المفاوضات، لأنه سيكون على قواتها المهاجمة بدلاً من الدفاع، وستشتد خسائرها؛ الأمر الذي سيجعلها تقبل على الأقل بالحد الأدنى من الشروط التي ترضي موسكو لوقف النار والانسحاب. وستصر روسيا على استقلال المنطقتين اللتين أعلنت الاعتراف بهما كدولتين مستقلتين عن أوكرانيا (جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين في إقليم دونباس) وعلى إعلان حياد أوكرانيا عن الناتو بشكل نهائي وقطعي. وقد لا تكتفي موسكو بإقليم دونباس الغني بالموارد الطبيعية، بل إنها قد تصر على إقامة شريط عازل في مناطق شرق أوكرانيا المتاخمة لحدود الإقليم.
باختصار، ستنتصر موسكو عندما تستحكم قواتها في المناطق الاستراتيجية الشرقية وتطوق أو تحتل العاصمة كييف وتجبر الأوكرانيين على التحول من الدفاع إلى الهجوم فتتفاقم خسائرهم بشكل كبير.
ترجمة "النصر" دولياً..
سنعود بعد انتهاء العمليات العسكرية في أوكرانيا، إلى المواجهة الصينية الأمريكية التي ستحتدم بالتأكيد، وستقع على الصين مدعومة بروسيا بوتين المنتصرة وحلفاء آخرين مسؤولية ترجمة "النصر" على الساحة الدولية. والصين تدرك أنها إن أرادت لعب دور القطب المقابل للقطب الأنجلوساكسوني فما عليها سوى التلويح بإمكانية الإطاحة بسر القوة الأمريكية واستمرارها حتى الآن، ألا وهو الدولار.
وإن خطت الصين ومعها روسيا وغيرها من حلفاء بكين المتزايدين الخطوات اللازمة لإطلاق مرحلة انحسار حقبة البترودولار وأشارت بإمكانية تخفيض المشتريات من أذونات الخزينة الأمريكية (أي تمويل الدين العام للولايات المتحدة) فستبدأ حقبة جديدة كلياً يحل فيها اليوان كعملة احتياطي رئيسية موازية للدولار ومساوية له في الاعتبار.
ستقوم معظم الدول التي تربط أسعار صرف عملاتها بالدولار بالتحول نحو الربط بسلة عملات تضم اليوان الصيني واليورو إضافة إلى الدولار، وكون معظم واردات هذه الدول تأتي من الصين بالدرجة الأولى ومن ثم أوروبا فسيكون للصين واليورو نصيب الأسد في السلة.
وستقوم تلك الدول بفك الربط مع الدولار، ليس فقط لتراجع الثقة فيه وصعود نجم اليوان، وإنما أيضاً للتخلص مما يعرف بالتضخم المستورد نتيجة لهيكل وارداتها آنف الذكر. وعندها ستبدأ قيمة الدولار بالتراجع؛ مما سيؤثر في المستوى المعيشي للأمريكيين ككل.
الأهم من هذا كله أن حكومة الولايات المتحدة لن يكون بوسعها عندئذ أن تقوم بطباعة ما تشاء من الدولارات أو الاقتراض حسبما ترغب- كما تفعل الآن- لتمويل برامجها الاجتماعية والبيئية وترسانتها العسكرية. ونتيجة لذلك ستنكفئ أمريكا على نفسها أكثر فأكثر.
أعتقد أن الاستراتيجية الصينية ستركز على إيصال أمريكا إلى حال كهذه على مهل وتضييق الحلقة تدريجياً إلى أن تتفكك الولايات المتحدة بثورة شعبية أو بإعلان الولايات الثرية والقوية اقتصادياً استقلالها عن الولايات المتحدة أو كلا الأمرين معاً.. وللحديث تفاصيل وبقية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.