يبدو للوهلة الأولى أن الحزب الشيوعي يقود الصين ويسهر على تسيير شؤونها، وهذا صحيح إلى أبعد حد، فمن المنظور العملي، فالرئيس الصيني "شي جين بينغ" يمثل حزب ويرأسه في قيادة الصين، لكن في الخفاء هناك رجل آخر -رجل ظل- نراه دائماً بالقرب من الرئيس الصيني، يقود المشروع الصيني.
الشخص الهادئ الذي يرفض حياة الأضواء ويفضل الاختباء والعمل وحيداً، يقول أصدقاؤه إن الرجل مدمن على القراءة والعمل، ولا يمل من التفكير، يمكن أن تصفه بكيسنجر الصين، أي ذاك الرجل الذي تمر على يده كل الملفات، ولا تخطو الدول خطوة إلى بعد إذنه.
كلما رأيت الرئيس الصيني إلا ووجدت هذا الشخص بجانبه، فالرجل لا يكاد يفارقه، وأثناء لقاء الرئيس الصيني بالرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما كان وانغ يراقب الوضع عن كثب، وظهر جلياً أنه ينظر للرئيس الأمريكي بتوجس.
"وانغ هيونغ" منظّر سياسي صيني وواحد من أهم قادة الحزب الشيوعي الصيني الحاكم في الصين، وعضو حالي في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني (أعلى لجنة لصنع القرار في الصين).
يقود الرجل الصين منذ سنوات نحو نموذج جديد مضاد للتيار الحداثي الأمريكي، فقد زار أمريكا في التسعينيات وقضى سنوات متنقلاً بين جامعاتها ومدنها واستطاع الإلمام جيداً بخبايا المجتمع الأمريكي، وقد هاله حجم الانحلال الأخلاقي الذي يسود المجتمع الأمريكي.
عند عودته كتب مقالاً بعنوان: "أمريكا ضد أمريكا" أحدث ضجة كبيرة، خاصة أن صاحبنا سيحوله فيما بعد إلى كتاب يحمل نفس العنوان.
يرى وانغ أن الحضارة الغربية لن تستمر كثيراً، وذاك بسبب التفسخ الذي أصابها، فهو يجعل المجتمع وتماسكه صمام أمان الحضارة، ويربط شأنه شأن توينبي أفول شمس الحضارة الغربية بالابتعاد عن الدين والتطبيع مع الإلحاد.
ومع أن الحكومة الصينية شيوعية (مضادة للدين)، إلا أنها بدأت تهتم بالدين والثقافة الدينية الصينية القديمة وتعيد إحياءها لمواجهة موجة التغريب، تحت توصيات وانغ هيونغ وبمتابعة منهم.
والصين تسير اليوم بخُطى ثابتة نحو التقليدانية بدعم الأسرة والزواج والتكافل الاجتماعي والتضييق على الانحلال الأخلاقي والشذوذ والاغتناء الفاحش.
لقد بدا واضحاً أن الصين تتحول إلى صين جديدة، خاصة بعد أن قامت فجأة بإخفاء رجل الأعمال الأكثر شهرة في البلاد، وصاحب أكبر شركات الصين "مجموعة علي بابا"، وصاحب شركة "آنت"، التي أوقفت الحكومة الصينية عملية عرضها للاكتتاب، الذي قيل إن عائداتها كانت ستفوق شركة "أرامكو السعودية"!
ظهر قبل أشهر "جاك ما"، لكن لدقائق معدودة وبوجه يبدو عليه التعب، ليس الرجل بالأول ولن يكون الأخير، فكل الشركات الصينية وكل رجال الأعمال يضعون أيديهم على قلوبهم، فالحكومة لن تتساهل مع أحد.
التغيير- كما قلنا- لن يستثني أي مجال، في المجال الثقافي/الفني، تشن الحكومة هجمة شرسة على كل الفنانين ذوي الميول الليبرالية، فكما حدث مع جاك ما، تعرضت الفنانة الصينية "فيكي زاو"، زاو لها علاقات متشعبة في المجال الفني، وواحدة من أغنى أغنياء الصين، البالغة من العمر 45 سنة، اختفت فجأة وبشكل غامض، لا من الواقع فقط، بل حتى من العالم الافتراضي؛ حيث حذفت كل صفحاتها، وكل مشاركاتها السينمائية أصبحت باسم مجهول، عوض اسم الفنانة، وتبين فيما ما بعد أن الحادثة تدخل فيما تسميه الحكومة "إصلاحات اجتماعية" تروم حماية المجتمع الصيني.
هكذا إذاً يحاول وانغ والحزب الشيوعي الحاكم إنقاذ الصين من شبح الليبرالية الذي يهددها بالسقوط كما يفعل مع الغرب، ولهذا يعملون بكل صرامة على محاربة كل ما من شأنه تغيير البنية المجتمعية التقليدية ونشر الأفكار المنحلة، فالبرجوازيون -كما رأينا- والممثلون والمؤثرون كلهم تحت المجهر والمراقبة.
قد يبدو الأمر استبداداً، وهذا بالضبط ما تصيح به أمريكا، إلا أنه من وجهة نظر منطقية كفيل بإنقاذ الصين ومجتمعها مما وقعت فيه أمريكا والغرب.
قبل وانغ حذر عالم النفس الأمريكي الشهير "إريك فروم" الذي يعتبر الرجل الثاني في مجاله سمعةً بعد النمساوي فرويد، من عاقبة التفسخ والانحلال الذي تشهده أمريكا.
ففي كتابه مجتمع سوي يشير فروم إلى أن المجتمع الغربي عامة والأمريكي خاصة عوض أن يدخل مرحلة من السلم الروحاني والصفاء الذهني، مستفيداً من مخرجات الحداثة، وجد نفسه أمام أعطاب وتحديات لا نهاية لها، منها الأمراض الذهنية والانتحار.
"… ومعرفتنا أن أكثر من نصف أسرَّة المشافي في الولايات المتحدة تستخدم من أجل المرضى الذهنيين الذين ننفق عليهم سنوياً مبلغاً يزيد على مليار دولار… إلا أن بعض الأرقام الأخرى أكثر دلالة على حدوث أشد للاضطرابات الذهنية خطورة. فإذا كان الـ17.7٪ من الذين تم رفض اكتتابهم في الخدمة العسكرية كانوا مرفوضين لأسباب مرضية ذهنية… ولا ريب أن مشكلة الانتحار مشلكة أكثر تعقيداً… أرى أنه من المأمون الافتراض أن النسبة العالية من الانتحار في سكان مجتمع تعبر عن الافتقار إلى الاستقرار الذهني والصحة الذهنية… والرخاء المادي المتزايد قد صحبه عدد متزايد من حوادث الانتحار" (إريك فروم مجتمع سوي، ص 107).
هذا في جانب، وفي جانب آخر، وصل المجتمع الغربي إلى نتائج كارثية بسبب الانحلال والتطبيع مع الظواهر الشاذة، ففي معظم الدول الأوروبية تنتشر "صناديق الأطفال" المتخلى عنهم التي باتت حديث المجتمعات الأوروبية، خاصة أنها ظاهرة ترتبط بالقرون الوسطى، وعودتها مؤشر على أن الحضارة الغربية تتقهقر. وتتجول سيارات تمكن الناس من معرفة آبائهم الحقيقيين! إنها فوضى الحرية.
واليوم تعيش أمريكا أصعب أيامها، فحوادث إطلاق النار لا تتوقف، وآخرها حادثة المدرسة الأليمة التي راح ضحيتها أطفالاً صغاراً لا ذنب لهم إلا أنهم يعيشون في مجتمع الحرية اللانهائية.
لقد أفضت الحرية المفرطة إلى أن أضحى من حق الناس أن تبرر الجرائم بالحالة النفسية والمادية للمجرم، أو بتاريخه الأسري، وبما أن المجتمع الأمريكي متفسخ ويعيش فيه الإنسان حالة من اللاغاية والاغتراب، فلا أرى أن الوضع سيتحسن، بل أعتقد أن حالات كهذه لن تتوقف وستتضاعف وإلى الحد الذي يمسي العيش في أمريكا مستحيلاً، قد لا يكون هذا بعد سنة أو سنتين، لكن هذا واقع لا محالة.
وليس إخراج القوانين لمنع السلاح كفيلة بإيقاف ذلك فلا نفع هنا للقوانين، فالحالة العامة للمجتمع قد اضطربت وتسممت بسُم زعاف لا ترياق له، ولقد فتكت العنصرية بهذا المجتمع، ولا أقول العنصرية بين البيض والسود، بل بين الطبقات الاجتماعية، بين الأغنياء والفقراء، بين أولئك الذين يمتلكون كل شيء وتلك.. الفئة التي تعيش البؤس والتفكك في أعظم بلد في العالم وأعظم اقتصاد في العالم، بين من يعيش الحلم الأمريكي وبين من يدفع ثمن تحقيقه، فلا شفاء لهذا المجتمع.
أو ربما له حل، لكنه قد يبدو مثالياً وربما غير واقعي لدى البعض، لكني أؤمن به إيماناً شديداً، ودعماً لرأيي أستحضر قول رجل أمريكي عرف المجتمع وعلله وقرر ما قلته، هذا الرجل هو مالكوم إكس أو الحاج مالك شباز، وهو رجل غني عن التعريف، يقول مالكوم: "عزيزتي باتي: ربَّما لن تصدقي ما سأكتبه لك في هذه الرسالة، فأنا الآن في مكة أصلي بجانب رجل أبيض خلف رجل أسود، وآكل من نفس الطبق الذي يأكل منه رجل بعينين زرقاوين، وأشرب من نفس الكأس التي شرب منها شيخ عربيٌ ببشرة فاتحة، لقد أدركت الآن وأنا في رحاب هذه المدينة المقدسة أن جميع مشاكل أمريكا العنصرية لا يمكن لها أن تحل إلا بتعاليم الإسلام العظيم".
قبل كل شيء عندما تسمع الإسلام فلا يذهب عقلك مباشرة للحركات التكفيرية، فالإسلام أوسع من أن يؤطر في فكر واحد منغلق على نفسه.
سيقول القائل: "كيف سينقذ الإسلام أمريكا وهو لم ينقذ العالم الإسلامي؟".
وهذا اعتراض جيد، ولكني أنصح هذا السائل الكريم بأن يزور العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه، فإن وجد أن هناك مجتمعاً واحداً يطبق تعاليم الإسلام كما هي، وكما أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم فليأتِني به، وله عليَّ ألا أكتب بعدها حرفاً واحداً.
كلنا مسلمون، ولا يمكن أن ننفي عن أحد ذلك مهما ارتكب من الآثام والمعاصي، ومن هذا الذي لا معصية له وذنب ارتكبه أو سيرتكبه، ولكن علينا أن نميز بين أن نكون مسلمين وبين أن نعيش الإسلام ونطبقه في بيعنا وشرائنا وحياتنا كلها؛ وذكرت البيع والشراء فهو بالنسبة لي خير مثال على أننا لا نطبق الإسلام- إلا من رحم ربي- وانظر لارتفاع الأسعار هذه الأيام وكيف يفعل التجار بإخوانهم المسلمين، إنها بلاد مسلمة بلا إسلام حقيقي، فطبيعي أن نرى هذه النتيجة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.