عندما نفتتح حياتنا بأمومةٍ جديدة، تصبح العديد من الأفكار والقرارات محط دراسة واهتمام أكثر من أي وقت مضى؛ لما يترتب عليها من أمور تؤثر تباعاً على المهمة الجديدة التي أوكلت إلينا.
(الأمومة) ذاك الخليط من المشاعر والأحاسيس والوظائف التي تحتاج إلى طاقة وجهد عظيمين، تستدعي معها المرأة القدرة على اليقظة والاستمرار الدؤوب لخلق أطفال وتهيئة بيت قادر على إنتاج أفراد أسوياء. هذه المهمة العظيمة والرسالة الثقيلة لا يمكن تجاهلها والاستخفاف بها، لا سيما في ظل الدعوات المنادية بخروج المرأة للعمل، والانطلاق نحو إثبات الذات.
من واقع تجربتي الشخصية؛ بدأت بالعمل الفعلي منذ عام 2013، وكانت ابنتي شام تبلغ من العمر 7 أشهر، كنت حينها أعمل مراسلة لفضائية، كان عملي ميدانياً يقوم على تغطية الأحداث وإجراء التقارير المرئية، والذي كان يحتاج لقوة جسدية أكثر من التماسك النفسي.
عام كنت أخرج فيه مبكرة وأعود في وقت متأخر.. 365 يوماً لم أمارس أمومتي أكثر من إعداد الطعام وغسل الملابس، وأن أكون يقظة في حال إصابة طفلتي بحمّى أو مرض ما. عامٌ لم أتفقد فيه وجه طفلتي كباقي الأمهات، شعرت أنها كبرت فجأة، وأصبحت تناديني "إباء" بدل أمي، لأنها لم تعتد على ذلك. كنت أحاول أحياناً أن أمارس معها شيئاً من اللعب، ولكنني أكون منهكة متعبة، إلى الدرجة التي أغفو فيها وأنا أقرأ لها حكاية، وأحياناً وهي تحدثني عن يومها. كبرت شام، وزاد إصراري على ترك العمل في المجال الميداني.
بعدئذٍ حصلت على عمل في مركز للتدريب الإعلامي، وكان عملاً مكتبياً لا يحتاج لقوة جسدية، بل نفسية وتركيز عالٍ وقدرة على تحمل ضغط العمل، كنت أعود في وقت مبكر قياساً بالعمل السابق. ولكن لم تتغير كثيراً علاقتي بطفلتي. كنت أستغل أيام العطل لنطهو معاً ونلعب معاً. كنت أحاول جاهدة أن أمارس الأمومة كما يجب لا كما هي في الواقع.
بعد ولادة طفلي الذي يبلغ الشهرين، تركت العمل في المركز التدريبي، لظروف ألمت بي، كنت في كثير من الأحيان أتمنى أن يحدث أمر ما خارج عن إرادتي يدفعني لترك العمل، وفعلاً حصل. كلما حملت ابني "إبراهيم" بين ذراعي أردد في نفسي: لن أدعك تكبر بعيداً عن عيني كشام، أريد أن أعي كل لحظة تتحسس فيها شيئاً جديداً في هذه الحياة، أتمنى أن ألتقط معك صوراً ضخمة، عظيمة، تذكرني بك وبي، أُثني على نفسي كلما نظرت لها بأني أديت واجب أمومتي العظيم.
حديثي عن تجربتي الشخصية وعن عملي خارج البيت لـ3 سنوات بجوار الأمومة، ليس لمجرد السرد. كثيراً ما يردد المجتمع خرافة إثبات المرأة لذاتها بالعمل خارج البيت، وأنها تصبح أكثر إنتاجاً وتفاعلاً مع المجتمع بالعمل في مؤسساته وقطاعاته المختلفة. أليست المرأة في داخل بيتها تثبت ذاتها بأداء دور الأمومة! أليست محاولات قضاء الساعات مع أطفالها لعباً ولهواً وتوجيه سلوكهم هي فعلياً تنتج نتاجاً إنسانياً ضخماً يحمي المجتمع مستقبلاً من الانقراض الخلقي والذوبان؟! أليست محاولات المرأة بالحفاظ على استقرار البيت والعلاقة مع الشريك لهي إشارة لتوازن حياة ومجتمع بأكمله!
نماذج عديدة مرت عليّ، تعمل المرأة فيها خارج البيت، تُحرم من دورها كأم، فنجد فجوة بعلاقة الأم بطفلها، وكثيراً من السلوكيات التي تتفاجأ الأم بها، فهي فعلياً لا تعلم شيئاً عن طفلها الذي تربى في بيت جده أو في حضن مربية ما. كم هي المواقف والسلوكيات التي صُدمت منها الأم عند محاولاتها التعرف على طفلها الذي شغلها العمل عنه!! سواء عند حضور الضيوف إلى البيت، أو حتى اصطحابه إلى السوق! كم هي المشكلات التي لا تعلم بها هذه المرأة إلا بعد فوات الأوان، لاسيما المشكلات المتعلقة بتصرفات ابنها، كأن يكون لصاً صغيراً أو كاذباً!
النظرة المثالية التي تروج لها الكثير من النساء، بأن المرأة قادرة على أداء دور الأمومة والعمل خارج البيت، نظرة منقوصة ومجانبة للصواب عند النزول بها إلى الواقع العملي، مهما استطاعت المرأة أن تجري نوعاً من التوازن بين العمل والبيت سيكون صعباً. مهما كانت المرأة مثالية سيكون فيما بعد على حساب صحتها الجسدية والنفسية، وسيكون هناك دوماً شيء ناقص في دور الأمومة الذي تمارسه، أمر لم تناضل لأجله ولم تسعَ لبنائه بشكل صحيح، ستكون هناك فجوة تكبر دون أن تشعر بها، ستمر الأيام تلو الأيام وتقف فجأة تشعر بأن أمومتها احترقت على بوابة العمل خارج البيت، وأنها فعلياً تعيد إنتاج المجتمع، لا تنتج مجتمعاً جديداً!
العطل والإجازات لا تكفي للتعرف على الطفل أو الابن، ومحاولات التوفيق بين الأمومة والعمل، وإن نجحت في بعض جوانبها، ستكون على حساب أمور أخرى ستظهر للعيان فيما بعد. عدا عن ذلك فإن طبيعة العمل في مؤسساتنا وقطاعاتنا للأسف ليست مؤهلة للأمهات، غالبيتها تخلو من مكان لرعاية الأطفال، والتي تساعد المرأة في الاطمئنان على أطفالها والتواصل معهم في جو العمل. كما تخلو من الامتيازات الخاصة بالأمهات. هل هناك قانون عمل للمرأة الأم! هل من حقوق لهذه المرأة عن غيرها من النساء غير المتزوجات تساعدها على تحقيق أحلامها بالعمل خارج البيت مثلاً! لماذا لا يكون هناك قانون لهذه المرأة بألا يزيد عدد ساعات دوامها عن 6 ساعات بدلاً من 9 ساعات؟ لماذا لا يكون هناك قانون بأن على المؤسسات التي تحتضن نساءً أمهات عاملات بين أكنافها أن توفر لهنّ ميزات خاصة كرحلة شهرية، أو زيادة في الراتب مع إنجاب طفل جديد، وغيرها من الامتيازات التي فعلاً تساعد المرأة في محاولاتها للتوفيق بين الأمومة والعمل!
كلامي هذا لا أريد أن يُحمل نحو منع خروج المرأة للعمل، أبداً، مجرد محاولة للإضاءة على موضوع عمل المرأة خارج البيت، أنا أقدر أن الارتفاع الباهظ للحياة يدفع الكثيرات منهنّ للعمل والسعي لتوفير الرزق الحلال لأطفالهنّ، ولكن أرجوك إن كان المال يكفيك ومتوفراً، فحافظي على أبنائك بأداء دورك كأم، لا كمديرة أو سكرتيرة أو صحفية أو غير ذلك. مارسي الدور الذي مارسته أمهاتنا وجداتنا بحنان وعلم وجمال فائق، بأمومة عذبة بعيدة عن شراسة المادية، ومخالب اللهث وراء حياة مثالية.
وأخيراً.. في ظل العالم الواسع الذي خلقته شبكة الإنترنت، غدت فكرة العمل في داخل البيوت أكثر سهولة وأقل ضرراً. هناك بعض المهن تستطيع المرأة أن تمارس فيها عملها من داخل البيت، بعيداً عن فكرة المؤسسة أو الخروج مبكراً، وتتقاضى مالاً على ذلك طبعاً. وهذا يعتمد على ذكاء المرأة بإقامتها لشبكة واسعة من العلاقات، وتعزيز فرصة أدائها للمهنة، كأن تعمل مستشارة قانونية بالتواصل مع الجهات المعنية وتقديم الخدمات لها عن طريق البريد الإلكتروني، أو صحفية، أو مترجمة، أو باحثة، وغيرها… بعيداً عن الارتهان للعمل خارج المنزل، والانتماء لمؤسسة أو قطاع ما.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.