مرَّر مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية مشروع قرار ضد إيران، يدعوها إلى المزيد من التعاون، والكشف عن مصدر ذرّات اليورانيوم التي اكتُشفت في ثلاثة مواقع غير معلنة من قِبل إيران. مشروع القرار طُرح من قِبل كل من الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، وصوَّت عليه بالقبول 30 دولة، فيما عارضته كل من الصين وروسيا، وامتنعت كل من الهند وليبيا وباكستان عن التصويت.
تأتي هذه التطورات في الوقت الذي تشهد فيه مفاوضات فيينا بين إيران والقوى الكبرى حالة من السُّبات الصيفي، بدأت منذ مارس/آذار الماضي، وذلك لعدم توصل الأطراف إلى حلول وسط بشأن بعض القضايا العالقة، كرفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب الأمريكية، وعدم رغبة أو عدم قدرة الولايات المتحدة على تقديم ضمانات اقتصادية لإيران.
تفاصيل قرار الإدانة
يتألف القرار من ثلاثة محاور مهمة كالتالي:
المحور الأول: التأكيد على "حياد" و"جهود" الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومديرها رفائيل غروسي في تطبيق وتعزيز معاهدة "منع انتشار الأسلحة النووية". في الواقع من الناحية النظرية يجب أن تتمتع الوكالة بالحياد في ممارسة عملها، وذلك لحفظ الوكالة من التدخلات السياسية، وتوجيه عملها في مراقبة الأنشطة النووية للدول، وهذا مذكور بشكل صريح في دستور الوكالة.
ولكن مدير الوكالة قبل بضعة أيام وضع سمعة الوكالة والإدارات المتعلقة بها على المحك. إذ توجّه الأخير إلى إسرائيل في زيارة معلنة، والتقى هناك برئيس الوزراء الإسرائيلي "نفتالي بينيت"، وذلك لبحث الملف النووي الإيراني مع القادة الإسرائيليين. ويجادل المسؤولون الإيرانيون بأنّ هذه الزيارة هي دليل قاطع على أن عمل الوكالة هو عمل سياسي محض، وذلك لأن إسرائيل غير موقّعة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، كما أنها تمتلك بحسب أقل التقديرات 90 رأساً نووياً (هناك روايات أخرى تفيد بامتلاك إسرائيل أكثر من 200 قنبلة نووية). كما أن إسرائيل تنتهج سياسة "الإبهام النووي"، ولا تمارس الوكالة الدولية على البرنامج النووي الإسرائيلي أي رقابة تُذكر.
المحور الثاني: يشير القرار إلى قلق عميق ينتاب مدير الوكالة الدولية، حول بعض الأماكن التي تم كشف بعض ذرات اليورانيوم فيها، ولم تُقدّم طهران الإجابات المناسبة حول هذه المواقع.
إن مشكلة المواقع غير المعلنة ليست مشكلة قديمة؛ إذ إن تقرير الوكالة في عام 2011 يشير إلى العثور على ذرات من اليورانيوم المعدل إنسانياً، في مواقع لم تَكشِف عنها طهران آنذاك. وتؤكد المادة 14 من خطة العمل المشتركة المعروفة بالاتفاق النووي، على أن ملف هذه المواقع سيتم إغلاقها من خلال تقرير لمدير الوكالة، وهذا بالفعل ما حصل.
المواقع الجديدة التي تتحدث عنها الوكالة هي مواقع صرحت بها "إسرائيل"، وأكثر هذه المواقع جدلية هو موقع "تورقوزآباد". تقول إيران عبر رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، محمد إسلامي، في لقاء مع الجزيرة، إنّ إيران قدّمت توضيحات بشأن موقعٍ من هذه المواقع الثلاثة (تورقوزآباد، ورامين، ومريوان)، كما أن الوكالة لم تطلب المزيد من التوضيحات حول هذه المواقع. ويُبدي إسلامي استغرابه من فتح ملف هذه المواقع مرة أخرى.
لا يمكن تجاهل حقيقة أن الذرات المكتشفة في هذه المواقع هي ذات تخصيب منخفض وغير خطيرة، كما أن بعض المسؤولين في إيران يشككون حول منشأ هذه الذرات، ويُشيرون بأصابع الاتهام نحو إسرائيل. ويعتقد بعض المسؤولين في إيران أنّ إسرائيل هي من رتّبت هذا المشهد، وذلك لممارسة ضغوط أكبر على إيران، ولوضع العصا في عجلة المفاوضات وعرقلتها.
المحور الثالث: يشير القرار في بعض أجزائه إلى أن لدى الوكالة شكاً حقيقياً حول سلمية البرنامج النووي الإيراني، وأنّ هذه الشكوك لا يمكن تبديدها إلّا بأن تُبادر إيران بتقديم توضيحات حول المواد المكتشفة في المواقع الثلاثة سالفة الذكر.
لا بد من الوقوف مليّاً عند هذه النقطة؛ إذ إن الوكالة أكدت أكثر من مرة على سلمية البرنامج النووي الإيراني، كما أن -بحسب رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية- حصة طهران من الأنشطة النووية تشكل ما يقرب 2 إلى 4% في العالم، ولكن الوكالة تمارس رقابة بنسبة تصل إلى 25% على البرنامج النووي.
إيران هي أكثر دولة في العالم يمارس المفتشون الدوليون رقابتهم فيها، كما أنّ لديهم صلاحيات واسعة فيما يتعلق بعمليات المراقبة.
مسارات نحو مجلس الأمن
يُعتبر قرار مجلس المحافظين قراراً غير مُلزم، كما أنّ المشروع بالصيغة الحالية لا يحمل أي لهجة تصعيدية ضد طهران، كما لم تتم الإشارة إلى مجلس الأمن أبداً، يمكن النظر إلى هذا القرار على أنه عملية ضغط ضد إيران، لتُظهر مرونة أكبر في المفاوضات غير المباشرة، والتي تجري عبر الوسطاء.
ولكن ردة الفعل الإيرانية حول تمرير هذا المشروع جاءت حادة؛ إذ حذّر وزير خارجيتها من أن تمرير مثل هذا القرار سيكون له عواقب بصورة حتمية. وبالفعل اتخذت طهران الخطوة التصعيدية الأولى للرد على تمرير قرار ضدها، وذلك من خلال إيقاف عمل كاميرات المراقبة في إحدى المنشآت النووية، وذكر بيان صادر عن منظمة الطاقة الذرية الإيرانية أنّ الكاميرات التي صدرت الأوامر بإيقاف عملها لا تدخل ضمن تعهد طهران في اتفاق الضمانات الشاملة الموقّع مع الوكالة الدولية في السابق. ويشير المسؤولون في إيران إلى أن هناك خطوات أخرى ستُقدم عليها طهران، تتناسب مع قرار مجلس محافظي الوكالة.
من جهة أخرى، يرجّح هذا القرار كفة المتشددين المخالفين للمفاوضات النووية. في هذا السياق نصحت صحيفة "كيهان"، ذات التوجه الأصولي، بأن الحل الأمثل لإيران هو الانسحاب بشكل نهائي من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وهذا إن حدث ستكون له عواقب وخيمة، حيث سيمنع الوكالة الدولية للطاقة الذرية من ممارسة أي نشاط رقابي ضد طهران، وستقوم طهران بطرد مفتشي الوكالة.
من وجهة نظري بصفتي مراقباً، لا أتوقع أن تنفذ طهران هذه الخطوة التصعيدية، إذ إن قرار محافظي الوكالة غير إلزامي، ولا يتعدى مرحلة التوبيخ أو الحض على مزيد من التعاون. كما أن طهران تحتفظ بهذه الخطوة في حال تطورت الأوضاع إلى أكثر من ذلك، أو في حال تم نقل ملفها إلى مجلس الأمن.
في هذه المرحلة، تفاصيل المشهد لا توحي بتصعيد خطير يدفع نحو إعادة ملف إيران إلى قبة مجلس الأمن الدولي، أو احتمالية إعادة فرض العقوبات الأممية على طهران، ولكن الأشهر الثلاثة القادمة تعتبر مصيرية لمنقطة الشرق الأوسط والعالم بأسره، إذ إن استمرار تعثر المفاوضات بالصورة الحالية سوف يدفع الولايات المتحدة والأطراف الغربية إلى محاولة دفع ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن.
هناك مساران لطرح الملف النووي الإيراني في مجلس الأمن، الأول عبر الطرق التقليدية، حيث تقوم إحدى هذه الدول بطرح الموضوع في مجلس الأمن بالاستناد إلى تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ويُعتقد أن يفشل هذا المسار التقليدي نظراً لإمكانية أن تستخدم كل من روسيا والصين حق النقض الفيتو ضد مشروع قرار كهذا. وهناك مسار ثانٍ هو مسار آلية الزناد، وهي آلية فض النزاع فيما يتعلق بالاتفاق النووي، حيث يمكن لأي دولة مشاركة في هذا الاتفاق أن تفعل هذه الآلية ضمن إطار زمني لا يتجاوز 60 يوماً، ومن ثم تعود العقوبات الأممية المفروضة على طهران بشكل تلقائي.
كردة فعل، من جهتها قد تقوم طهران برفع نسب التخصيب إلى 90%، وهذه النسبة الكافية للحصول على قنبلة نووية ذات قدرات تفجيرية تقليدية، أو أنها قد ترغب في الوصول إلى العتبة النووية وهي نقطة اللاعودة.
الحل الأمثل
لطالما شددنا منذ بداية المفاوضات بين إيران والقوى الكبرى على أن ماهية الاتفاق المحتمل في فيينا هي ماهية مؤقتة. محاولة إحياء الاتفاق النووي (الذي لم يتبقَّ من صلاحيته إلا سنتان ونيّف) هي إسراف في الوقت وحسب (مع وجود إمكانية للتوصل إلى اتفاق بشأنه).
إن الاتفاق المؤقت يوفر للأطراف فرصة الانخراط في مفاوضات أوسع وأشمل، ويجنب المنطقة والعالم خطر مواجهة مباشرة لن تبقى إسرائيل في مأمن منها. وما ستقدمه الولايات المتحدة لإيران بموجبه هو ضمان تدفق النفط الإيراني بصورة رسمية، دون التعرض للعقوبات، وتحرير أموالها المجمدة، ولجم إسرائيل للعمليات التخريبية وعمليات الاغتيال الممنهجة. وما ستقدمه إيران هو صلاحيات أكبر لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتخفيض إيران لنسب تخصيب اليورانيوم، وإبطاء عملية تطوير أجهزة الطرد المركزي الحديثة، لحين التوصل إلى اتفاق أشمل وأقوى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.