إن من يرى ما يشهده العالم اليوم من هيمنة غربية وسيطرة سياسية على دول "الجنوب" لا بد له أن يتساءل عن السبب في هذا الخضوع الأعمى للقوى الإمبريالية، والتطبيع الذليل مع مختلف أشكال الإمبريالية الغربية، بل استحسان التدخلات السياسية للدول الأقوى في شؤون دول أخرى، دون مراعاة لمفهوم السيادة الوطنية، إضافة إلى العقوبات المالية التي تفرضها القوى العظمى على دول فقيرة لتُبقيها في الحضيض، وتحافظ على ريادتها الاقتصادية في السوق العالمي، ليست الدول "الفقيرة" كذلك إلا بسبب الإمبريالية، وتصدير النظام الرأسمالي إليها.
ولكنها اليوم لا تزال تئِنّ تحت وطأة استغلال مصادرها الطبيعية وموادّها الأساسية، من قِبل الشركات الأجنبية التي جَلبت معها إلى الجنوب وَهْم الحرية والاستقلال الاقتصادي لتتمكن من استغلال المواطنين، وإذا بها تمتصّ كل مقومات الحياة من هذه البلدان، وتستولي على ما يعده السكان الأصليون مصادر أساسية لقوتهم اليومي.
لكن العنف الإمبريالي لا ينحصر في العدوان المسلح أو في الاستغلال الاقتصادي، بل إن هذا العنف حاضر وبشكل واضح في الأعمال الأدبية والسينمائية التي يُنتجها خُدّام القوى الإمبريالية، وفي الأفكار التي يصدّرها لنا دعاة التفوق الغربي وأنصار الاحتلال؛ كغيرها من القوات الاستعمارية الغربية سعت الولايات المتحدة الأمريكية، منذ نشأتها، لتبرير سياستها القمعية والإمبريالية تجاه دول الجنوب بشتى السبل، وقد نالت نصيب الأسد في معركة تصدير الهوية وتحديد معايير الحرية لباقي الأمم والشعوب.
حتى إنّ الثقافة الأمريكية باتت جزءاً من كل مجتمع "شرقي" بمكوناتها الليبيرالية المدعية للإنسانية، ومكوناتها المتعصبة والمحافظة على حد سواء، يمكننا القول إذن إن بداخل كل مجتمع، بخصائصه ومميزاته التي تجعله فريداً من نوعه، مجتمعاً أمريكيّاً مصغراً يقتات على الرأسمالية ومخلفات الاستعمار من قيم ليبرالية وأخرى تقليدية ومحافظة.
وبالرغم من هذا التشابه بين "العالَمين" لا يزال المواطن الأمريكي العادي يحمل صورة استشراقية ودونية تجاه المجتمعات الشرقية، ساعياً في الوقت نفسه إلى جعل هذا الكائن الشرقي الجاهل يرقى لمستوى الحضارة الغربية، تلك الحضارة التي أغرقت دول الجنوب في خراب الحروب ولعنة التبعية الاقتصادية والسياسية للغرب؛ لكن تصدير الكيان الأمريكي لهويته ليس الوسيلة الوحيدة التي يتخذها لتمويه وتبرير جرائمه بحق الشعوب المكلومة، بل يسعى إلى إضفاء صيغة العدالة والإنسانية لأفعال بعيدة كل البعد عنها.
الرسالة الحضارية للإمبريالية
يختبئ أنصار الإمبريالية الأمريكية خلف كذبة استثنائية الولايات المتحدة بوصفها منقذاً للشعوب الواقعة تحت طائلة الاضطهاد والديكتاتورية، يخفون فاشيتهم خلف شعارات تنادي بالحرية والديمقراطية وهم مقبلون على التنكيل بشعوب تهرب من ظالم لتقع في قبضة محتل، تستنجد من جلادها بقاتلها، وتعد العقوبات التي تفرضها أمريكا على مختلف الدول كسوريا وكوبا وإيران وغيرها من الدول التي رفضت الخضوع السياسي والاقتصادي وسيلة أخرى تختص بها الدول الغربية، وتستعملها كسلاح لحماية النظام؛ الذي يقوم على أساس تبعية دول الجنوب لها، حتى تضمن تفوقها على جميع المستويات.
ظلت هذه الرواية على الهامش لسنوات، إلى أن ترأس دونالد ترامب البيت الأبيض، مهشّماً بذلك القيم الليبرالية التي تمحو بها الولايات المتحدة آثار جرائمها وتحسّن سمعتها في المجتمع الدولي، فقد ولّى عصر جورج بوش المنذر والمبشر بـ"الحرية" للشعبين العراقي والأفغاني، حرية تم إرسالها على شاكلة قنابل وأسلحة فتاكة وجماعات تم تمويلها لتجهز على مدنيين أبرياء.
زعم الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في خطاب له أن الإمبراطورية الأمريكية ليست كباقي الإمبراطوريات التي تسعى إلى توسيع حكمها وسلطتها، وإنما تسعى لنشر الحرية والحضارة في جميع بقاع العالم، ما يذكرني بما قاله الكاتب والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، إذ قال: "كل إمبراطورية تقول لنفسها وللعالم إنها ليست كمثل الإمبراطوريات الأخرى، وإن هدفها هو التنوير، والتحضر، وإحلال النظام والديمقراطية، واستخدام القوة فقط كملاذ أخير"، أي أن الإمبراطورية تنهب وتسلب وتتحكم، ولكنها تغطِّي انتهاكاتها بالتحدث عن الرسالة "الحضارية" التي تحملها للعالم، وهو تماماً ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية.
الاستثنائية الأمريكية إذن هي الاعتقاد الراسخ بكون الولايات المتحدة مختلفة عن باقي الدول، وبأنها تلعب دوراً بارزاً في العالم، وهو اعتقاد دوغمائي يلغي أي مجال للانتقاد، ويبرر جرائم الاحتلال والنهب المستمر لموارد الدول المستعمرة. هذه الفكرة العنصرية تعكس التفوق الغربي الذي بموجبه توضع مصالح الدول الغربية فوق كل اعتبار، وتفضح اختلال معيار القيم في مجتمعات العالم الأول، والمركزية التي تحول دون تحقيق تنمية شاملة، وتبقي دول العالم الثالث في الحضيض.
نجد هذا الاعتقاد الواهم في مختلف الأعمال السينمائية الأمريكية الصنع، بل إن عدداً كبيراً من الشبان المقبلين على ارتياد الجامعة في الولايات المتحدة الأمريكية قد استلهموا الصورة من الأفلام الهوليوودية في اتخادهم قرار الالتحاق بالجيش الأمريكي، وخدمة المصالح الإمبريالية للدولة، فالجندي الأمريكي مهما قَتل من أبرياء وشرّد من أُسر وارتكب من جرائم حرب يتم وصفه بطلاً قوميّاً شجاعاً ومنقذاً للبشرية، في حين أن الفلسطيني المدافع عن أرضه ببسالة من عنف جيش الاحتلال وعصابات المستوطنين ترافقه تهمة الإرهاب أينما حل وارتحل، بسبب تصدّيه للإمبريالية، ودفاعه عن نفسه وأرضه ضد عدوان الرجل الأبيض.
الأدب الصهيوني والبريطاني
وإلى جانب كل ما ذكر فإن كلاً من الأدب الصهيوني والبريطاني يبين لنا أن الثقافة يمكن أن تستخدم بوصفها سلاحاً إمبريالياً يدافع به المحتل عن أحقيته في أن يسلب ويقتل ويتحكم، لا يمكننا الزعم بأن أشكالاً من الثقافة هي التي دفعت الناس ليحتلوا وينهبوا ويستعمروا، ولكن في الوقت نفسه لا يمكننا إلا أن نتساءل كيف كان بإمكان كتلة الأعمال الأدبية الغربية، التي يُحتفى بها اليوم على صعيد عالمي، أن تتعايش مع الإمبريالية وتمتنع عن معارضة الشر المطلق الذي كانت تُصدّره الإمبراطورية لمختلف بقاع العالم.
من حقنا كقراء وأدباء أن نسأل مثقفي "العالم الأول" عن مواقفهم تجاه ما تقوم به أنظمة يعيشون تحتها، ولا ينتقدونها إلا إذا مسهم شرها، فإذا كان بإمكان أدباء فرنسا أن يعارضوا النظام الملكي ويمهدوا لثورة ضد الحكم الاستبدادي الشمولي في أعمالهم الأدبية ورواياتهم الشهيرة، فإنهم كانوا على قدر كافٍ من المسؤولية لينتقدوا الممارسات الاستعمارية والاحتلال الفرنسي الوحشي لبلداننا الإفريقية؛ لكنهم اختاروا بمحض إرادتهم أن يكونوا صُماً بكماً عمياً عن مآسينا.
أما الأدب الصهيوني فقد كان يمهد لقيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين منذ بداية الاحتلال البريطاني، فقد كانت الصهيونية الأدبية سبّاقة في إرساء أولى معالم الصهيونية السياسية، إذ إن رواد الأدب الصهيوني كانوا يسعون لتسييس الدين اليهودي، وخلق رابطة قومية بين معتنقي هذا الدين، هكذا تم اختيار العبرية لتكون لساناً قومياً لأفراد يجمعهم الدين وتُفرقهم الثقافة، واللغة، والانتماء الجغرافي والحضاري والعرقي.
وقد تحدّث آحاد هعام، أحد رواد الأدب الصهيوني الحديث ومُنشئ الصهيونية الروحية عن (آخر يهودي وأول عبري)، في إحدى مقالاته، كإشارة إلى التحول الذي شهده الدين اليهودي ليتوافق مع المشروع الاستيطاني على أرض فلسطين، وكذلك عمد مختلفُ أدباء دولة الاحتلال على نسبة تاريخ شعب بني إسرائيل لهذا الشعب الجديد، علماً أن العبرانيين الذين استولى الصهاينة على تاريخهم هم شعب يتكون من عدة قبائل، هاجرت من بلاد الرافدين وعبرت نهر الأردن إلى فلسطين وتهوّدت، أي أنهم رغم انتمائهم للشرق الأوسط ليسوا أصليين في أرض فلسطين.
إذا كانت الثقافة تخدم المصالح الإمبريالية للغرب فإن الأجدر بنا أن نحصّن مجتمعاتنا من مختلف أشكال العنف الثقافي الذي يُمارَس ضدنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.