شهد عام 2021 صعوداً للنفوذ الروسي في المنطقة على حساب التراجع الفرنسي، مع محاولات تركية للتوغل في منطقتي القرن والساحل الإفريقيين، وكذلك محاولات أمريكية لاستعادة السيطرة في إفريقيا.
ومن المُلاحظ خلال العام أن الاعتبارات الجيوسياسية أضحت هي الحاكمة في تعاملات القوى الكبرى مع إفريقيا. وقد أدَّى التكالب الدولي المتزايد على استغلال الموارد الإفريقية إلى نشوب صراعات بالوكالة في جميع أنحاء المنطقة؛ حيث تتنافس الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وغيرها من القوى الكبرى التقليدية والقوى المتوسطة الصاعدة، من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية وطرق التجارة الاستراتيجية.
وقد صاحب ذلك وجود اتجاهين رئيسيين: أولهما، يتمثَّل في تمدُّد الشبكات الإرهابية العابرة للحدود في الساحل وشرق إفريقيا بالمعنى الواسع، والذي يستند على وجود وفرة من المقاتلين الأجانب المتجولين. وثانيهما، يتمثَّل في انتشار القواعد العسكرية الأجنبية وسط التوترات الجيوسياسية الصينية الأمريكية المتزايدة. وجاء عام 2022، وكانت أهم ملامحه في إفريقيا، زيادة النفوذ الروسي على حساب التراجُع الفرنسي؛ حيث كان من المُرجَّح أن تحاول روسيا استغلال الفراغ الناجم عن خفض الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، ممَّا سيؤدِّي إلى تغيير بِنية التحالفات مع الجماعات المسلحة وفيما بينها.
وقد دفعت خطة فرنسا بخفض عدد القوات الموجودة في منطقة الساحل اعتباراً من فبراير/شباط 2022 حكامَ مالي العسكريين إلى اللجوء إلى روسيا لملء هذا الفراغ الأمني.
ملامح التراجُع الفرنسي في إفريقيا
ويُمكن هنا التركيز على ملمحين رئيسين: أولهما، انهيار المنظومة الأمنية الفرنسية بالساحل؛ حيث أصبحت المنظومة الأمنية التي وضعتها فرنسا في منطقة الساحل الإفريقي 2013، تتداعى بسرعة كبيرة، بعد انتقال المظاهرات المناوئة لتواجد فرنسا في المنطقة إلى تشاد، وانسحاب مالي من مجموعة الساحل، وإعلان رئيس النيجر موت هذا التحالف. فقرابة 10 سنوات من التدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل أثبتت لشعوب المنطقة فشل باريس في جلب الاستقرار وتداول السلطة بالمنطقة، بعد أن تمدَّدت الجماعات المُسلحة إلى مناطق لم تكن تحلم بها قبل 2013.
وثانيهما، الحصار الروسي التركي لفرنسا في دول الساحل: لا يُمكن قراءة المشهد الحالي في الساحل الإفريقي بمعزلٍ عن التطورات التي تشهدها الساحة العالمية، فالصراع الغربي- الروسي لم ينتهِ عند حدود أوكرانيا، وسوريا، أو ليبيا؛ بل امتدَّ حتى منطقة الساحل الإفريقي.
فروسيا تُحيط بالنفوذ الفرنسي بتشاد من مختلف الجوانب، عبر مستشاريها العسكريين ومُرتزقة شركة فاغنر، المنتشرين في جمهورية إفريقيا الوسطى من الجنوب، وإقليم فزان الليبي من الشمال، وإقليم دارفور السوداني من الشرق، ومالي من الغرب؛ حيث لا يفصلها عن الحدود التشادية سوى النيجر. كما تعمل تركيا بقوتها القصوى من أجل وضع قدمٍ في إفريقيا ومنافسة كلٍّ من فرنسا وروسيا هناك.
روسيا وتراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا
في مُقابل التراجع الفرنسي ظهر اختراق روسي في مسعى لاسترجاع النفوذ من قِبل قوة عائدة. يتم ذلك وسط تهافت دولي مع تعزيز الوجود الصيني وتآكل وجود القوى الاستعمارية السابقة. فبينما أعلنت فرنسا قرار إنهاء عملية برخان في منطقة الساحل، وسجَّلت تراجعاً في غرب إفريقيا معقل النفوذ الفرنسي التاريخي، شهدت باماكو عاصمة مالي مظاهرات تطالب بالتدخل الروسي على منوال ما حصل في جمهورية إفريقيا الوسطى.
ويُدلِّل ذلك على أنه في سياق الصراعات بين القوى المتنافسة تبرز المفارقة بين التراجع الفرنسي والاختراق الروسي مما ينبئ باحتدام الصراع بين القوى الاستعمارية القديمة، والقوى المدافعة عن مصالحها والقوى الصاعدة. وقد اعتمد الكرملين على جمهورية إفريقيا الوسطى كبوابة للاختراق وتعميم النفوذ، ويُمكن القول إن موسكو نجحت بإضعاف فرنسا باعتبارها القوة الأجنبية المهيمنة تاريخياً هناك.
وفي غضون سنوات قليلة أصبحت هذه البلاد نموذجاً للتصدير من حيث إعطاء المُثل في السيطرة الأمنية من دون التنبه للمفاهيم الغربية حول حقوق الإنسان، وترافق هذا الإنجاز مع انتزاع مميزات الدور الفرنسي في مجالات تدريب الجيش، والحرس الرئاسي، وأمن المؤسسات، ومناجم الذهب والفضة مقابل حصة من الدخل والمنافع الاقتصادية، علماً أن الشركات الروسية مهتمة وناشطة في مناجم الألماس والذهب وغيرهما من المعادن في إفريقيا، تماماً كما فرنسا التي تعتمد كثيراً على اليورانيوم الآتي خصوصاً من النيجر.
وفي سياق التنافس الاستراتيجي- الاقتصادي يتوافق خبراء الشأن الإفريقي في بروكسل على وجود مرتزقة فاغنر في العديد من الدول الإفريقية، ومنها ليبيا، وأنغولا، وغينيا، وموزمبيق، وجنوب إفريقيا، والكونغو، ويلفت هؤلاء النظر إلى توقيع موسكو اتفاقيات تعاون مع حوالي عشرين دولة في القارة. ويتضح تأثير الاختراق الروسي على انحسار الدور الفرنسي في عدة دول إفريقية كالتالي:
تشاد: من الاختراقات الروسية الأخرى هناك شائعات عن قيام فاغنر بدعم المتمردين التشاديين في مواجهة الجيش التشادي (خلال المعارك سقط الرئيس السابق إدريس ديبي صديق الأمريكيين والفرنسيين)، مما يُخفي -حسب بعض الأوساط- قراراً لإحداث تغييرات حاسمة ضد النفوذ الفرنسي.
مالي: وهي واحدة من المستعمرات الفرنسية السابقة في منطقة الساحل الإفريقي وكانت تتمركز فيها قوات فرنسية في إطار عملية برخان التي تحارب الجماعات المتطرفة في المنطقة، والتي أعلن ماكرون مؤخراً عن إنهائها، وسط سلسلة من الانقلابات ليس فقط في مالي؛ بل في تشاد ومؤخراً غينيا أيضاً. وقد شهدت مالي مؤخراً مُطالبات بالخروج الفرنسي، مع تزايد التواجد الروسي بها لا سيما عبر مُرتزقة فاغنر.
غينيا: التي تُمثِّل حلقة أخرى من حلقات ذلك الصراع، إذ أشارت تحليلات إلى أن الانقلاب الذي قام به العقيد مامادو دومبايو وأطاح من خلاله بالرئيس ألفا كوندي جاء في إطار هذا الصراع؛ حيث كانت علاقة كوندي مع باريس قد أصبحت متوترة منذ تعديله الدستور العام الماضي وفوزه في انتخابات رئاسية أبقته في منصبه لفترة ثالثة.
وكانت فرنسا من أوائل الدول التي أدانت انقلاب غينيا قبل عشرة أيام؛ حيث أصدرت الخارجية الفرنسية بياناً جاء فيه أنها "تدين محاولة الاستيلاء على السلطة بالقوة" في غينيا، وتدعو إلى "الإفراج الفوري وغير المشروط عن الرئيس ألفا كوندي". لكن واقع الأمور يشير إلى أن الإدانة الفرنسية مجرد إجراء شكلي، إذ لم تفرض أي عقوبات على الانقلابيين في كوناكري ولم تجمد تعاونها العسكري معهم، مثلما فعلت قبل أشهر في انقلاب مالي الأخير. فالعقيد دومبايو قائد الانقلاب في غينيا خدم في الجيش الفرنسي طيلة 15 سنة، في الفوج 25 من الفيلق الأجنبي، حتى عام 2018 حين غادر لتولي قيادة القوات الخاصة في بلاده، وهو متزوج من فرنسية.
أسباب التراجُع الفرنسي في إفريقيا
وهنا يُمكن الحديث عن عدة نقاط مهمة؛ أولاها، ازدواجية الخطاب الفرنسي: ثمَّة خطاب فرنسي يتَّسم بالازدواجية، ففي الوقت الذي يتبنَّى فيه الرئيس ماكرون خطاباً رسميّاً يدعو إلى إعادة التوازن في العلاقات والشفافية وشراكة الكسب المشترك، فإن الواقع والممارسة يؤكدان استمرار المُمارسات القديمة. فمثلاً ظهرت مؤخراً رغبة باريس في نقل صناعات معينة إلى فرنسا، مع استنزاف مواهب إفريقيا من خلال خطط الهجرة الاقتصادية إلى باريس. كل ذلك في ظل طموحات الشركات الفرنسية لمواصلة بيع المنتجات المصنَّعة ذات القيمة المضافة العالية، بدءاً من الرادارات إلى القطارات، ومروراً بالطائرات والقوارب.
وثانيها، تراجُع الدبلوماسية الاقتصادية الفرنسية: في عام 2018، لم تُمثِّل إفريقيا سوى 2.4٪ من التجارة الخارجية الفرنسية مقارنةً بـنسبة 35٪ بعد الاستقلال. والمُثير للتأمل أن ألمانيا أصبحت أول دولة أوروبية مُصدِّرة إلى إفريقيا جنوب الصحراء، وهو ما يعني بروزها كمنافس قوي لفرنسا في فضائها الإقليمي السابق. وذلك على الرغم من اعتماد الرؤساء الفرنسيين منذ ساركوزي على القطاع الخاص لإعادة الاعتبار لديناميكيات العلاقة الفرنسية الإفريقية.
وثالثها، إعادة التشكيل الجيوسياسي لإفريقيا: فقد دفعت موجات الانقلابات الأخيرة في الساحل وغرب إفريقيا، التي ارتبطت بالأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيد-19، وتصاعُد المد الإرهابي في المنطقة، عدداً من الدول الإفريقية إلى إعادة التركيز على جداول أعمالها المحلية والتحوُّل إلى شركاء خارجيين قادرين على تزويدها باستجابات عملية لمشاكل عاجلة ومُلحَّة.
جسَّد ذلك بوضوح ظهور خطاب شعبوي جديد في المنطقة مناهض لفرنسا ومؤيد للوجود الروسي كما تعكسه خبرة دولة مالي.
من جهة أخرى، حدثت تصدُّعات في مناطق الفرنكفونية السابقة. كما في المنطقة المغاربية حيث اشتداد التنافس والعداء المزمن بين الجزائر والمغرب في السنوات الأخيرة، وكذلك في منطقة الساحل التي تعاني من الانقسامات الداخلية والاختراقات الخارجية، بالإضافة على الأوضاع الأمنية المُتردِّية.
ورابعها، عسكرة السياسة الفرنسية: منذ الاستقلال الزائف الممنوح للمستعمرات الفرنسية السابقة في عام 1960، لم يتم التعبير عن القوة الفرنسية إلا من خلال المنظور العسكري؛ حيث قامت فرنسا بأكثر من 70 عملية عسكرية في إفريقيا. علاوةً على ذلك، هناك اتفاقيات تعاون مع الجيوش الإفريقية لا تخضع للمساءلة أو الشفافية. هذه العسكرة خلقت في منطقة اللاوعي الإفريقي الجماعي، رفضاً لفرنسا وطريقة عملها. وتعكس كارثة التدخل الفرنسي في منطقة الساحل المأزق الذي تجد فرنسا نفسها فيه.
الخُلاصة: في الفترة الأخيرة تعالى صوت الغضب الإفريقي ضد الوجود الفرنسي، فمثلاً رأينا ذلك في تشاد مؤخراً على خلفية اتهامات بالتدخل في شؤون البلدان ودعم الأنظمة الاستبدادية. والاحتجاجات الشعبية المناوئة للوجود الفرنسي في تشاد، جاءت مُشابهة لما حدث في مالي من مظاهرات احتجاجية شارك فيها فئات شعبية مختلفة تنديداً بالحضور الفرنسي في بلادها، حتى أنه جرى حرق علم فرنسا في تلك التظاهرات. الأمر الذي يؤكد المأزق الكبير الذي وقعت فيه فرنسا في عدة بلدان إفريقية، فبالإضافة إلى مالي وتشاد تواجه فرنسا رفضاً كبيراً في بوركينا فاسو، وإفريقيا الوسطى، وليبيا، والجزائر، نظراً إلى سياستها الاستعمارية الهادفة إلى التحكُّم في قرار الدول الإفريقية السيادي ونهب ثرواتها.
وتُظهِر عدة معطيات سعي شعوب الدول الإفريقية وبعض قادتها للابتعاد عن فرنسا، والاتجاه نحو تحالفات جديدة على غرار تركيا وروسيا التي تسعى لتعزيز نفوذها ومكانتها السياسية في منطقة الساحل والصحراء لعدة أسباب، منها السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني.
وتتطلَّع بعض الدول الإفريقية التي سبق أن وقَّعت اتفاقيات دفاعية مع فرنسا، كالكاميرون، والنيجر، ونيجيريا، ومالي، وموريتانيا، إلى توقيع اتفاقيات دفاعية- أو وقَّعت فعليّاً– مع كلٍّ من روسيا وتركيا، خاصةً أن هاتين الدولتين تُعرفان بإنتاجهما لأسلحة مُتطورة بأثمان رخيصة مُقارنةً بالأسلحة الفرنسية.
وقد حقَّقت روسيا بالفعل نجاحات على المستوى العسكري والأمني في إفريقيا في مناطق النفوذ ونقاط القوة الأوروبية في القارة، وذلك بامتلاكها الكثير من خيوط اللعبة في وسط وجنوب ليبيا، وكونها أصبحت على مشارف مناطق النفوذ الفرنسي في تشاد والنيجر، فضلاً عن إرساء موسكو الأمن والاستقرار في جمهورية إفريقيا الوسطى وتوفير الدعم الأمني والسياسي لنظام رئيسها فوستين تواديرا، بالإضافة إلى دورها في مالي بعد الانسحاب الفرنسي والأوروبي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.