"تدعو وزارة التربية الطلبة إلى ضرورة التركيز بالمادة العلمية، ومتابعة دراستهم، والابتعاد عن الأشخاص المخادعين، وضعاف النفوس الذين يديرون الصفحات الوهمية، ويمارسون النصب، والاحتيال، ويدّعون امتلاكهم نسخاً من الأسئلة لكسب المال الحرام من المواطنين".
كان هذا جزءاً من "رسالة طمأنة" بعثتها وزارة التربية العراقية لطلبة الامتحانات الوزارية للدراسة المتوسطة، في اليوم الأول لبدء الامتحانات، الموافق 29 مايو/أيار الماضي.
لكن مفعول تلك الرسالة لم يدُم سوى أقل من أربعة أيام فقط، فبعد انتصاف ليل الأربعاء، الأول من يونيو/حزيران الجاري، فوجئ الطلبة وعوائلهم والعراقيون عموماً بتسريب أسئلة امتحان مادة الرياضيات، التي كان مفترضاً ألّا تظهر إلا مع بدء الامتحان، في وقت مبكر من صباح اليوم التالي (الخميس).
ليس بغريب أن تحصل مثل هذه العملية المشينة في وقت تتراجع فيه الرصانة العلمية، ومجمل العملية التربوية في العراق، بشكل مضطرد؛ لكن الغريب أن الجميع قد بدا أنه يستفيق للمرة الأولى على وقع مثل هذا الحدث، رغم أن له سوابق مشابهة، سواء على مستوى وزارة التربية نفسها، أو حتى على مستوى مؤسسات الدولة الأخرى.
مع انتشار التكنولوجيا الحديثة، وتزايُد استخدام المواطنين لمواقع التواصل الاجتماعي، ولأن ثقافة الاستخدام السلبي حاضرة دوماً كأولوية في المجتمع العراقي، فقد أضيفت إلى قائمة سمات الوضع المتدهور في العراق خاصية جديدة، وهي تزايُد حالات تسريب الوثائق الرسمية، فضلاً عن تزويرها وإيقاع الرأي العام في شِراك الجدل المحتدم بشأنها.
ابتداءً بالمراسيم الجمهورية، ومخاطبات رئاسة مجلس الوزراء، مروراً ببرقيات الاستخبارات والأجهزة الأمنية (السرية للغاية)، وليس انتهاءً بالأوامر الإدارية ومخاطبات دوائر الدولة والوزارات والهيئات المختلفة، تنتشر ثقافة التسريبات في العراق كالنار في الهشيم، بل أضحت هذه الثقافة ميداناً مفضلاً للتسابق بين الجميع في تحقيق سبق هنا، أو إسقاط لخصم ما هناك.
فيما يتعلق بوزارة التربية فإن حادثة تسريب الأسئلة الوزارية الأخيرة ليست هي الخطأ الجوهري الوحيد الذي يعتري عمل الوزارة. فالتسريب الأخير كان ينبغي توقعه بحكم عدم قدرة الوزارة على القيام بدورها، والسيطرة على عملية مهمة كهذه تتكرر مرة واحدة كل عام. وبالقياس إلى أزمات البنية التحتية وشبهات الفساد التي تحوم حول التغيير المستمر للمناهج الدراسية، بشكل يكاد يكون سنوياً، ويفتح الباب أمام الطباعة المستمرة للكتب المدرسية، باعتبارها صيداً مادياً ثميناً لا يمكن التفريط فيه، فضلاً عن تهالُك العملية التربوية بمدخلاتها ومخرجاتها، وضياع الحد الأدنى من الرصانة، وغياب بيئة مناسبة للإبداع الفكري والتطبيقي، فإن ذلك يؤدي بالنتيجة إلى اعتبار حادثة التسريب بديهية وعادية في سياق ما جرى ذكره.
حتى وقت كتابة هذه السطور، فإن جهات مثل هيئة النزاهة ووزارة التربية ولجنة التربية في البرلمان العراقي ومفوضية حقوق الإنسان والأمن الوطني، جميعها قد اشتركت في عملية البحث عن المتسبب في أزمة التسريب. والنتيجة تكاد تكون محسومة من الآن: ليس هناك حل جوهري للأزمة، وبالطبع فلن تكون هناك استقالات من النوع الذي يتطلع إليه المتابعون، ولعل هناك من يعتقد أن مجمل العملية لا يتحملها سوى "أحدهم" داخل لجنة الامتحانات، ولا علاقة لأصحاب المناصب العليا في الوزارة بتحمل مثل هذا "الخطأ".
ومع أن الواقع يعرفه الجميع، وعلى رأسهم القائمون على الوزارة والقائمون عليهم أيضاً، إلا أنهم لم يستطيعوا مقاومة رغبتهم في الثورة على بيان البنك الدولي أواخر الشهر الماضي، والذي استند فيه إلى تقييم الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية عام 2012، لأكثر من 1500 طالب للصفين الثاني والثالث الابتدائي، في 54 مدرسة ضمن محافظات الأنبار، وبغداد، وكربلاء، وميسان، والنجف، وواسط، والذي كشف عن أن تسعة من كل 10 طلاب لم يتمكنوا من القراءة بوتيرة كافية تُمكنهم من فهم النص، بالإضافة إلى أن ثلث طلاب الصف الثالث لم يتمكنوا من الإجابة بشكل صحيح عن أي سؤال يتعلق بالنص الذي قرأوه. ولم يتمكن 41% من طلبة الصف الثالث من الإجابة بشكل صحيح عن مسألة طرح حسابية واحدة. واستناداً لهذا التقييم، أقر البنك الدولي مشروعاً جديداً بقيمة 10 ملايين دولار لدعم الابتكارات من أجل التعلم، في محافظات ميسان والقادسية والمثنى جنوبي العراق. ورغم ذلك اعتبرت وزارة التربية أن بيان البنك مسيء للمجتمع العراقي بأكمله، وأنه يستند إلى تقييم صادر قبل عدة سنوات.
قد لا ترغب الوزارة في رؤية الصورة الحقيقية التي ظهرت مخففة بشكل كبير في بيان البنك الدولي، الذي أشار بإيجاز إلى الآثار السلبية المترتبة على اللجوء إلى الدراسة عن بعد خلال عامي 2020 و2021، بسبب جائحة كورونا، وما ترتب عليه من صعود الطلبة إلى مراحل متقدمة، خصوصاً في الدراسة الابتدائية، دون التمتع بالأساس المعرفي والعلمي الكافيين في المرحلة السابقة.
ولكن جانباً آخر من الصورة يظهر في بيان البنك الدولي، قد لا نجد شخصاً يعبر عنه أفضل من المفكر الفرنسي الشهير غوستاف لوبون، في كتابه ذائع الصيت (سيكولوجية الجماهير). فمع أن الكتاب ظهر إلى العلن للمرة الأولى أواخر القرن التاسع عشر باللغة الفرنسية، وظهرت ترجمته العربية عام 1991، لكنه يعبر بشدة عن واقع التجربة التعليمية في العراق اليوم، بشكل يجعل قارئ الكتاب يقف طويلاً أمام قدرة الكاتب على استشراف ما يتمخض عن الحالة المشابهة التي كان يمر بها المجتمع الفرنسي حينها على المستوى التعليمي، لدى مقارنته بواقع العملية التعليمية في العراق.
المذهل أن لوبون -وبمعاونة آراء الفيلسوف الفرنسي إيبوليت تين- توصّل إلى أن التعليم القائم على الحفظ واستذكار الكتاب المدرسية من الابتدائية وحتى الدكتوراه، يجعل الطالب (يبتلع مضمون الكتب دون أن يشغل عقله أو رأيه الشخصي. فالتعليم بالنسبة له يتمثل في الحفظ والطاعة).
ويؤدي هذا النوع من التعليم -بحسب لوبون- إلى تحضير رجال المستقبل، ليس لمواجهة الحياة، بل للوظائف العامة التي لا يتطلب النجاح فيها أي جهد شخصي أو مبادرة ذاتية من قبل الطالب.
إن مطالعة السطور التالية من كتاب (سيكولوجية الجماهير) توحي بأن لوبون كان يتطلع من شرفة منزله إلى وضع التعليم ومخرجاته الحاليين في العراق، قبل أن يكتب كلماته هذه (والدولة التي تخرج بواسطة هذه الكتب المدرسية البائسة كل هؤلاء الطلاب لا تستطيع أن توظف منهم إلا عدداً صغيراً، وتترك الآخرين أعداءً لها. ومن أعلى الهرم الاجتماعي إلى أسفله نجد أن الكمية الضخمة من الخريجين تحاصر كل المهن والوظائف اليوم، ومحافظة السين وحدها تحتوي على 20 ألف معلم ومعلمة بدون عمل).
يتوجه الجميع إلى الدولة بثقة خرافية وكأنها قادرة على صنع المعجزات. وعلى الرغم من ذلك فهم يلومونها باستمرار، ويتهمون الحكومات باقتراف أخطائهم الخاصة بالذات، بينما هم عاجزون عن القيام بأية مبادرة أو مشروع بدون تدخل السلطة. هكذا يستمر لوبون في النظر إلى الواقع العراقي عام 2022، ويخط سطور كتابه الذي سبق هذا الواقع بأكثر من قرن ونيف!
"فالتعليم الذي يُقدم لشبيبة بلد ما يتيح لنا أن نستشرف قليلاً مصير هذا البلد ومستقبله. وتربية الجيل الحالي تبرر كل التوقعات والمخاوف السوداء، فمع التعليم والتربية تتحسن روح الجماهير أو تفسد، فهما مسؤولان عن ذلك جزئياً.. إن المدرسة تخرج اليوم الناقمين والفوضويين، وتهيئ للشعوب اللاتينية مزيداً من الانحطاط".
والناقمون الذين تحدث عنهم لوبون ليسوا سوى جيوش الخريجين من الدراسة الإعدادية، الذين دفعهم نظام التعليم هذا إلى رصّ أكبر قدر ممكن من نصوص الحفظ في أدمغتهم، تمهيداً لتنزيلها في ورقة الامتحان النهائي. حتى المسائل الرياضية أصبحت هي الأخرى خاضعة لقوالب الحفظ النمطية. ناهيك عن دراسته الجامعية وما بعدها، والتي لا تختلف كثيراً عن نمط الدراسة المذكور. وما عليك سوى البحث عن الأسباب التي تدفع الطلبة إلى بذل أقصى ما يمكن من جهد لحفظ النصوص العلمية والأدبية ونيل أعلى الدرجات، تمهيداً لدخول إحدى كليات المجموعة الطبية، أو المعهد الطبي لنيل فرصة التعيين المركزي المضمون في أحد تشكيلات وزارة الصحة العراقية!
يخلص الفيلسوف الفرنسي إيبوليت تين إلى القول إن المدارس في بلاده آنذاك (القرن التاسع عشر) لا توفر الثبات للحس الصائب وللإرادة وقوة الأعصاب للتلميذ. "فبدلاً من أن تجعله مؤهلاً كفؤاً فإنها تنزع منه كل أهلية وكفاءة فيما يخص مستقبله ووظيفته اللاحقة والنهائية. وبناء على ذلك فإن دخوله إلى مسرح العالم وخطواته الأولى في حقل الممارسة العملية ليس في غالب الأحيان إلا سلسلة متتابعة من السقوط المؤلم. ويظل يئن تحت وطأتها ومعترَكاً لزمن طويل بسببها. وأحياناً عاجزاً ومقعداً في البيت، ثم تجيء فترة انقشاع الأوهام بشكل مفاجئ ومطبق، فالخيبات كانت أكبر مما يجب، والمرارات أقوى مما يمكن احتماله".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.