“ما لا يقتلني يجعلني أقوى”.. هل الصدمات والأحداث القاسية تقوّينا حقاً؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/07 الساعة 09:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/07 الساعة 09:01 بتوقيت غرينتش

يقول نيتشه في حكمته: "ما لا يقتلني يجعلني أقوى". 

كثيراً ما يتم ترويج هذه العبارة بين الكتاب أو حتى روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، لكن هل فكر كل واحد منا ما إذا كانت اختبارات الحياة القاسية قد جعلتنا أقوى؟ فهل يعني ذلك أنه سيكون هناك الكثير من الأشخاص الضعفاء الذين كسرتهم الحياة؟ فغالباً ما يتعرّض الناس للمشاكل والمعاناة وتحطّمهم الصدمات، لكن القليل منهم فقط يصبح أقوى بعد الذي مروا به، ربما هم رجال خارقون في تفسير نيتشه نفسه، أم أن من يقتبسون هذه العبارة يحبّون أن يشعروا بأنهم خارقون على الأقل بالكلمات؟ فهذه العبارة لها جاذبية بديهية واضحة، وقد تم الترويج لها في العديد من المقالات والكتب والمجلات، لكنها تحمل تعقيداً أعمق مما قد يوحي به انتشارها إعلامياً، كما أن العديد من الدراسات العلمية قد تكون بها عيوب خطيرة.

نمو ما بعد الصدمة (اكتشاف المنافع)

نمو ما بعد الصدمة (Post-Traumatic Growth PTG) يُسمى أيضاً "اكتشاف المنفعة (Benefit Finding)، وهو مصطلح يعبّر عن التغيير النفسي الإيجابي الذي يحصل نتيجة التعرض لحادث صعب ومفاجئ، ويؤدي هذا التغيير إلى ارتقاء الفرد بمستوى أدائه في مختلف مجالات الحياة، وقد صاغه العالمان ريتشارد تيديشي ولورانس كالهون في منتصف التسعينيات، لكنّ معناه موجود منذ آلاف السنين في بعض التعاليم الفلسفية والدينية.

يقول Jayawickreme، أستاذ علم النفس في جامعة ويك فورست في نورث كارولينا بالولايات المتحدة: "في بعض الحالات، قد تكون هذه الرواية حول إمكانية النمو قمعية"، إنها تخلق توقعاً بأنه لا يتعين عليك فقط أن تتعافى مما حدث لك، ولكن على ما يبدو من المفترض أن تصبح أفضل من أي وقت مضى، كما يعتقد أن هذا الضغط يمكن أن يؤدي إلى نتائج صحية عقلية أسوأ لبعض الأفراد.

فمن يتعرّض للصدمة تتحطم نظرته للعالم، وتتعطل لديه معتقداته الأساسية، وهذا ما يدفعه ليحاول إعادة تجميع نظرته للعالم بعد هذا الحدث الصادم؛ ليخرج إلى جانب آخر يبدو مختلفاً بطريقة ما.

تجارب فردية مختلفة

الصدمات

لا يستجيب الأفراد جميعاً للأحداث الصادمة بالطريقة نفسها، ولا شك أن بعض الناس يمرون بتحول إيجابي بعد الصدمة، لكننا قد نبالغ أحياناً باعتقادنا أنه بعد كل صدمة يجب أن يحصل ذلك؛ إذ علينا أن نضع بالحسبان أن تجربة كل فرد هي مختلفة تماماً، ويجب أن نحكم عليها وفقاً لشروطها الخاصة، فالبعض قد يتعافى من الصدمة، لكنه قد لا يحقق التغيير والتحوّل الفعلي المطلوب في شخصيته، والآخر قد يفشل في التعايش مع الصدمة، وتبقى أعراضها ملازمة له طوال الوقت، إضافةً إلى أن معظم الناس يميلون بشكل طبيعي لإيجاد تحسينات وتغييرات إيجابية في شخصياتهم حتى وإن لم يمروا بأي صدمات.

إذن هناك عدة احتمالات ممكنة للفرد الذي مر بتجربة صادمة، إما أن يحدث له اضطراب، أو يتعافى ويصل للوضع الأساسي الطبيعي له، أو يصل إلى النمو والازدهار والتعافي المصحوب بتغيرات إيجابية في الشخصية، وهذا امتياز ليس للجميع، فإذا كان من المحتمل لأي شخص أن يمر بتجربة النمو ما بعد الصدمة فليس من الضروري لكل شخص أن يفعل ذلك.

احذروا فرض التغيير

يجب أن نكون حذرين في كيفية تقديم نظرية التعافي والحصول على القوة بعد الصدمة، حتى لا تحصل ضغوط إضافية على شخص قد مر بالفعل بوقت عصيب للغاية، فقد يكون الحديث عن النمو اللاحق للصدمة يعني أن يبدأ الآخرون في التوقع بأن الناس سيتعافون بسرعة كبيرة، وغالباً ما يرغب مجتمعنا بتحقيق الشفاء الفوري، ولذلك يخبروننا عادةً بأنَّنا يجب أن نتخطى الأمور السيئة، ونتجاهل آلامنا، وأن نقلِّل من شأن مصاعب الحياة وتحدياتها، ومن الضروري أن نتمهل ونقدِّر الصدمات وتأثيراتها.

فيجب أن تكون الأولوية لدينا هي تقديم الدعم الذي يحتاجون إليه للتكيف مع صدماتهم، سواء كانوا يعانون من اضطراب أو نمو ما بعد الصدمة "أو كليهما في نفس الوقت"،  دون فرض احتمالية تعافيهم.  

صدماتٌ تقصم الظهر

تلعب الصدمات الجماعية دوراً رئيسياً في تشكيل الهوية الجماعية، وقد قاد الغباء البشري إلى حدوث صدمات جماعية استطاعت أن تستمر لأجيال، فما تتعرّض له المجتمعات اليوم من صدمات جماعية لا تقوّيها، بل تقصم الظهر وتشتت الكيان وتمزّق الشمل، فما بين صدمات جسدية كالقتل والسجن والإخفاء القسري، وما بين صدمات معنوية كحالة الحرب والنزوح والفقر واللجوء والوباء، فكيف إذا كانت صدمات متتالية تبدأ من الموت والفقد ثم التشريد والفقر، كيف سنستوعب هذه التداعيات النفسية عندما يتّسع نطاق الصدمة؟ والتي تبقى آثارها الجماعية المستديمة الناجمة عنها في المجتمعات لسنوات، هل نستطيع طيّها في دائرة النسيان، أما أن ندوبها ستظل باقية في نسيج المجتمع ولن تندمل؟

 تلك الصدمات لن تَقتُلنا من الوهلة الأولى بل تنهي منا جزءاً بعد آخر، حتى نصل لمرحلة نكون فيها قد قتلنا تماماً، وكما يقول الرافعي: "يموت الحي شيئاً فشيئاً، وحين لا يبقى فيه ما يموت يُقال: مات".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عمر أبو دف
كاتب وباحث فلسطيني
كاتب وباحث فلسطيني
تحميل المزيد