خلال عام 2020 وثَّق المكتب الوطني لسجلات الجريمة في الهند أكثر من 28 ألف حالة اغتصاب، لا سيما بحق القاصرات، غير آلاف الحالات التي لا يتم الإبلاغ عنها، لكن في ظل تفشِّي هذه الظاهرة المأساوية من الاغتصاب الجماعي للنساء، وخصوصاً القاصرات، وفي ظل هذا الواقع البائس لم يجد مسؤولون في حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم في الهند غضاضةً في الإساءة للرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، ومحاولة تشويه زواجه بالسيدة عائشة، رضي الله عنها.
لاحقاً، ومع الرفض الواسع عربياً وإسلامياً لمثل هذه الإساءات، أعلن حزب الشعب الهندي تعليق عمل المتحدثة الرسمية باسمه الموقوفة "نوبور شارما"، التي أساءت للرسول خلال لقاء تلفزيوني، وأيضاً "نافين جيندال"، المسؤول في وحدة دلهي للحزب، والذي اضطر لحذف التغريدة التي اتهم فيها الرسولَ الكريم بالاغتصاب، وعن موقف الحزب الحاكم في الهند من ردود الفعل الرافضة للإساءة للرسول الكريم، عبَّر في بيانه عن احترامه لجميع الأديان، وأنه يدين بشدة إهانة أي رموز دينية لأي دين، لكن في الوقت نفسه رأى حزب بهاراتيا جاناتا أن المواقف والبيانات المنددة بالإساءة غير مبررة، ففي تصريحات صحفية استنكر المتحدث باسم الخارجية الهندية "أريندام باغشي" بيان منظمة التعاون الإسلامي الرافض للتصريحات المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، واعتبر أن البيان ضيق الأفق وناتج عن دوافع مضللة.
وفيما يتعلق بمواقف الدول وفي مقدمتها قطر والكويت؛ إذ استدعت خارجية كل من البلدين السفير الهندي لديها وسلمته مذكرة احتجاج رسمية على الإساءة للرسول، جاء رد الهند بحملة هندوسية تدعو لمقاطعة الخطوط الجوية القطرية.
ولا شك أنه في وسط هذه الموجة الجارفة من الكراهية تأتي أصوات عاقلة أيضاً في الهند تضع الأمور في نصابها، بأن المسؤول عن هذا هو حزب الشعب الهندي الحاكم، وأن من عليه أن يعتذر ليس الهند كأمة، وإنما الحزب الذي صبَّ الكراهية صباً في الشارع الهندي.
وفي ظل هذه الحملات والحملات المضادة من المهم أن نتتبع الأمر؛ كي نعرف أن هذه الإساءات هل هي إساءات عابرة أم أنها تعبير عن توجه ومشروع قومي هندوسي؟
ولكي نجيب عن هذا، نشير في هذه السطور إلى عدة منطلقات مهمة، في مقدمتها أن كثيراً من رموز الحزب الحاكم- للأسف- يؤججون في عدة ولايات الكراهية ضد المسلمين ويحرضون على استهدافهم، على سبيل المثال، ما حدث في أواخر مايو/أيار الماضي، عندما اعتدى مسؤول بحزب الشعب الهندي على مُسن بالضرب حتى الموت لمجرد الظن أنه مسلم، وكان يسأله: "هل أنت محمد؟"، أي: هل أنت مسلم؟ وتبين لاحقاً أن الضحية غير مسلم.
بل ويقود الحزب نفسه مساعي الهندوس لانتزاع مساجد المسلمين التاريخية وتحويلها إلى معابد، كما حدث مع مسجد بابري، حيث وضع رئيس الوزراء ناريندرا مودي حجر أساس المعبد الهندوسي الضخم محل مسجد بابري في الذكرى الأولى لإلغاء الحكم الذاتي لولاية جامو وكشمير ذات الأغلبية المسلمة.
ودفاعاً عن المتحدثة الإعلامية للحزب التي أساءت للرسول، يخرج أحد الزعماء الدينيين للهندوس معبراً عن النظرة الحقيقية للإسلام في أدبيات متطرفي الهندوس، وهو الكاهن المتطرف "ياتي نارسينغاناند"؛ ليعيد التطاول على الرسول الكريم والسيدة عائشة، رضي الله عنها، ويزعم أن المسلمين ما هم إلا عصابة من المجرمين لا يريدون أن يعرف العالم حقيقتهم، في معرض دفاعه عن رموز الحزب الحاكم الذين قاموا بالإساءة.
الحقيقة أن هذه النظرة المتطرفة تعبر عن أدبيات غلاة القومية الهندوسية تجاه الإسلام، ولهذه النظرة أصول تاريخية مهمة مثلت محطات أساسية في نظرة الهندوس للمسلمين في الهند، وتأصيل الكراهية تجاههم، من أهمها- بلا شك- سياسة الاحتلال الإنجليزي التي استهدفت التفريق بين الطرفين، فأعاد كتابة تاريخ الحكم الإسلامي للهند بالتركيز على سلبياته فقط وتعظيم هذه السلبيات بصورة تكفل تشويه المسلمين لدى الهندوس وصناعة وتضخيم مظالم تاريخية مزعومة للهندوس عند المسلمين.
هذه السياسة من منطلق "فرِّق تسُد" إضافة إلى مضاعفة التنكيل بالمسلمين لدورهم في الثورة ضد الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية وانتزاع أراضيهم وممتلكاتهم، مثّلت محطة مهمة في صنع هوة واسعة بين المسلمين والهندوس.
في ظل هذا الواقع آنذاك، بدأ منظرو الهندوسية البحث في كيفية جمع طبقات قوميتهم على الرغم من الفجوة الكبيرة فيما بين هذه الطبقات وعزلتهم التامة اجتماعياً؛ بل إن لكل طبقة معابدها، ويحرم على أبناء الطبقات الدنيا "الداليت" دخول معابد الطبقات العليا، بل يحرمون دخول بيوتهم، وإذا شرب أحدهم من الكوب فعليك كسره وليس غسله، ويتم حصر هؤلاء في الأعمال المتدنية كأعمال القمامة، وحتى أنه لا يُسمح لشبابها بإطلاق شواربهم، وينتشر اغتصاب فتياتها، ولا تزال التفرقة الطبقية قائمة في الهند بشكل كبير رغم إلغاء النظام الطبقي عام 1950.
هذا التشرزم بين الطبقات الهندوسية مثّل تحدياً أمام جمعهم، بل ويستحيل توحيدهم وتذويب الفروق والطبقية بينهم؛ نظراً لعدم التجانس، فكانت الحاجة من وجهة نظر المنظرين للقومية الهندوسية إلى صناعة عدو يتم تحشيد الهندوس في مواجهته باعتباره يمثل خطراً عليهم، فرأوا في الإسلام الخيار الأنسب، فبعد تشويه فترة الحكم الإسلامي للهند من قِبل الاحتلال الإنجليزي، تم البناء على ذلك بأن هؤلاء المسلمين جاؤوا من الخارج وغيروا دين بلدكم وهدموا معابدكم وبنوا مساجد بدلاً منها.
وبدأ يتم تصدير صورة المسلمين بأنهم جهلاء صحراويون يتبعون نبياً غير متعلم، ومع مرور الوقت ازداد الازدراء للإسلام ورسوله لدرجة أنه في عام 1924 ظهر كتاب بعنوان "رانجيلا رسول"، أي "النبي الملون"، امتلأ بالسب والإساءات للرسول الكريم وزوجاته، ورغم ذلك رفضت المحكمة دعاوى المسلمين المطالبة بوقف بيع هذا الكتاب.
وحديثاً اتجه القوميون إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ولهم عشرات المجموعات ومنصات يبثون فيها إساءاتهم ويشربون غوغاءهم شرباً، فيتشبع هؤلاء المغيبون بكراهية الإسلام والحط من صورة المسلم واستصغاره والجرأة على سلبه حقوقه وهدم مسجده وبيته ونهب ممتلكاته، وأغلب هذه الجرائم الطائفية يقوم بها كثير من أبناء الطبقات المنبوذة الذين تشربوا كراهية المسلمين.
في عشرات المجموعات والمنصات في شبكة الإنترنت ينشط هؤلاء الغلاة في تحشيد الهندوس وزرع كراهية المسلمين، ولديهم مشروعات لترسيخ هذه الكراهية كترجمة كتب إسلامية بغرض الإساءة للمسلمين، وتتم الدعوة صراحة لجمع التبرعات من أجل هذه المشروعات، وفي أيام قليلة يجمعون المبالغ المستهدفة، فهناك حركة نشطة في صناعة الكراهية.
من مظاهر هذه الصناعة أيضاً الحط من صورة المسلمين في الهند مع كل حادثة واستثمارها في رمي المسلمين بالاتهامات المزعومة وتصدير رواية أن المسلمين لا يستحقون الوجود، وإن كان ولا بدَّ فلا يليق بهم إلا الدرجات الدنيا في الطبقات الاجتماعية، وأن الهند ما هي إلا أمة هندوسية، وأن المسلمين والمسيحيين هم هندوس تم إجبارهم على اعتناق ديانات أخرى وعليهم العودة للهندوسية، أو كما تعرف باسم "العودة للبيت الهندوسي".
في السنوات الأخيرة، شهدت الهند اتهام المسلمين بالمسؤولية عن نشر فيروس كورونا باعتباره نوعاً من الجهاد يمارسه المسلمون ضد الهندوس، بل يُتهمون أيضاً بما يسمى "جهاد العشق"، ويعني أن المسلمين يستهدفون استمالة النساء الهندوسيات والزواج منهن لاعتناق الإسلام لتحويل المسلمين إلى أغلبية، رغم أن المسلمين نسبتهم نحو 15%، ولتحقيق التفوق العددي المزعوم يحتاجون مئات السنين شرط أن يتوقف الهندوس عن الإنجاب.
فما صدر عن الرموز الإعلامية بحزب الشعب الهندي "بهاراتيا جاناتا" الحاكم ليس من قبيل الخطأ غير المقصود، وإنما يعبر صراحة عن مشروع ممتد ونظرة تم التأصيل لها على مدى عقود، فإذا تم عزلهما أمام موجة الغضب الإسلامي، فمن يعزل أبواق الطائفية في الهند وهي تنبع من أعلى مؤسسات السلطة وتصب الكراهية صباً في عقول الغوغاء والعوام ضد المسلمين ورسول الإسلام؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.