هزموا العرب وأخذوا أرضهم ولكن.. كيف أثّرت النكسة العربية بالسلب على المجتمع الإسرائيلي؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/06 الساعة 09:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/06 الساعة 09:35 بتوقيت غرينتش

في أول لقاءٍ وزاري عقده الرئيس المصري جمال عبد الناصر بحكومته الجديدة التي شكّلها عقب النكسة، تحدّث كثيراً عن رؤيته لكيفية الخروج بالبلد من المحنة التي تعرّضت لها عقب هزيمة يونيو/حزيران. من ضمن كلامه قال عبد الناصر: "إسرائيل بلعت لقمة كبيرة قوي، مش هتعرف تبلعها".

بالطبع لم يكن يُخيّل لعبد الناصر كم كان محقّاً في تقديره هذا، بعدما أكّدت عديد من الدراسات أن النصر الإسرائيلي الساحق على كافة الجبهات أربك تل أبيب بقدر ما زلزل دمشق والقاهرة، بعدما احتشد في الأفق العبري سؤالٌ مُحير: لقد هزمنا العرب وأخذنا أرضهم، فماذا نحن فاعلون؟

إحدى هذه الإشكاليات كشف عنها براشا سلاي (Bracha Slae) أستاذ العلوم الاجتماعية بالجامعة العبرية، في أطروحته "إعادة الإعمار بعد الحرب والمحافظة على الحي اليهودي التاريخي في القدس"، والتي كشف فيها عن خلافات جمّة جرت داخل الدولة الإسرائيلية بشأن تنفيذ بعض أعمال البناء داخل القدس.

سعت بلدية القدس لتنفيذ خطط بناء عاجلة في القدس الشرقية اعترضت عليها وزارة الداخلية وحذّرتها من تنفيذها، وهو النزاع الذي لم يحسمه أشكول رئيس الحكومة إلا بتشكيل لجنة عُليا تخضع لإشرافه مباشرة، تضمّ عدداً من الوزراء المعنيين؛ لبحث تفصيلات خُطط إعمار المدينة بشكلٍ استثنائي بحُكم وضعيتها الخاصة.

يقول سلاي: "لم يعكس هذا الصراع احتكاكاً سياسياً فحسب، وإنما عكس أسئلة أساسية حول رؤية الدولة لتراث القدس: هل يجب أن تأخذ الأولوية في عمليات إعادة بناء المدينة القيم اليهودية أم القيم العالمية؟ وما هي القيم اليهودية التي يجب تأكيدها؟ حديثة أم تقليدية، علمانية أم متشددة، صهيونية أم غير صهيونية؟".

وبحسب تعبير الباحث الإسرائيلي، كان الجدل عارماً على جميع مستويات المجتمع العبري، إلا أن هذا لم يكن التأثير السلبي الوحيد الذي نال من إسرائيل بعد انتصارها، وإنما كانت هناك تداعيات أخرى، حاولت إيضاح بعضها في هذا المقال.

القضاء على اليسار

قبل الحرب بأيامٍ معدودة بلغت الوحدة العبرية أوجها بعدما شكّلت إسرائيل أول حكومة وطنية في تاريخها من مختلف الأحزاب الرئيسية، وعقب تحقيقها نصرها الأعظم الذي ضاعف مساحتها 3 مرات، وجعلها أقرب ما تكون من عواصم أعدائها (110 كيلومترات عن القاهرة، 50 كيلومتراً عن عمّان، 60 كيلومتراً عن دمشق).

اختفت الأسئلة الوجودية المتعلّقة بحماية الدولة اليهودية من خطر عبد الناصر وحلفائه، وطفت على السطح أسئلة جدلية بشأن الأرض العربية المسروقة، هل تُقام فيها مستوطنات لليهود أم تُعاد للعرب مقابل اتفاقيات سلام؟

يقول ميخا جودمان (micah goodman)، الباحث في الدراسات اليهودية، بكتابه "اليمين واليسار… إرث حرب 1967": "بعض السياسيين حلموا بإسرائيل الكبرى على كافة الأراضي العربية، وآخرون اصطدموا مع مَن حلموا فقط بإقامة دولة تعيش في سلام مع جيرانها. هذان الفريقان مزّقا المجتمع الإسرائيلي إلى مجتمعين متنافسين، هذا التمزّق أضاع الوحدة المتينة التي ربطت بين الجميع قبل الحرب".

انعكس هذا التشتت على الوضع السياسي للمجتمع بعد أن سحبته نشوة النصر إلى التطرّف شيئاً فشيئاً، فاليساريون الذين تبنّوا أجندة أقل تصادمية مع العرب بات عليهم التراجع، وخضع تيارهم لتأثير الحرب الهائل فبات أقل علمانية وليبرالية وأكثر تديناً بمرور الوقت، وهو ما قضى على مسيرته وبات لا يخرج من كل انتخابات إلا بعدد مقاعد لا يزيد على اليد الواحدة بعد أن كان لاعباً رئيسياً في السياسة الإسرائيلية، وأبرز الأمثلة على ذلك حزب العمل.

وبحسب أطروحة الباحث السياسي دويجون روبن (Duygun Ruben)، فإنه قبل الحرب أعلن الصهاينة المتدينون أنهم يوافقون على الانسحاب من أجزاء من أرض إسرائيل (نتحدّث هنا عن المساحة المقسّمة بموجب حرب 1948م) إذا كان ذلك يخدم الدولة والسلام. لكن هذه العقلية تغيرت بعد حرب 1967. ومنذ ذلك الحين، تبنوا موقفاً متشدداً إقليمياً. فبدأوا يشيرون إلى أن الدولة ليس لها الحق في الانسحاب من المناطق، بغض النظر عما يريده قادتها وسكانها ومدى شرعية إجراءات اتخاذ القرار.

وهكذا، منح النصر الساحق حركات الصهيونية الدينية المتطرفة أرضية ممتازة للانتشاء والانتشار، بعد يقين الإسرائيليين أنهم أمة مختارة مؤيّدة من السماء وإلا ما حققوا هذا الفوز المذهل، لذا عليهم ألا يُخرجوا الدين من حساباتهم الحياتية وضمنها السياسة وإلا حلّت عليهم اللعنة الإلهية.

وحتى الأحزاب اليمينية العلمانية التي كانت ترفض السلام مع العرب، فُرض عليها أن تتخلّى عن علمانيتها شيئاً فشيئاً حتى ابتلعت حركات الصهيونية الدينية أحزاب اليمين في صفّها ووُلدت الأيديولوجية الأكثر نفوذاً في إسرائيل اليوم وهي "اليمين الديني"، وأبرز تجلياته حزب الليكود الذي يمتلك الأغلبية البرلمانية حالياً في الكنيست.  

تآكُل اليسار الإسرائيلي لم يؤثر فقط على مسار السلام في المنطقة وإنما على المجتمع العبري نفسه، عبر تراجع الأولويات التي لطالما نادَى بها اليسار مثل اشتراكية الدولة والمساواة بين الطبقات وعدم السماح للرأسمالية بالتوغّل أكثر مما ينبغي في السياسة الاقتصادية، وهي الهوة التي سقطت فيها إسرائيل نتيجة انصياعها لسياسات اليمين الرأسمالية، التي بلغت تداعيات الغضب عليها ذروتها عام 2011م، حينما خرج عشرات الآلاف في تظاهرات حاشدة يطالبون بالعدالة الاجتماعية في ظل حكومة رئيس الوزراء اليميني نتنياهو.

"اطردوا أي شرقي ولو كان يهوديّاً"

بفِعل النصر امتلك اليهود نظرة فوقية بحقِّ العرب المهزومين، وهو ما انسحب لاحقاً على اليهود الشرقيين "سفارديم" ذوي الأصول العربية، الذين تعرضوا لأشكالٍ مختلفة من التمييز داخل إسرائيل بسبب أصولهم الشرق أوسطية.

الروائي الإسرائيلي إيلي أمير (Eli Amir) وثّق هذا النهج في روايته الأولى "كبش فداء"، التي نُشرت عام 1983م، وتحدّثت عن جندي إسرائيلي ذي أصول عراقية يخوض حرب يونيو/حزيران ولا يستطيع منع نفسه من التعاطف مع العرب!

فالجندي الذي ظلَّ طوال أحداث الرواية يفتقد مياه نهر دجلة وبيته في بغداد، رصدت رحلته الدرامية كيف آمن قادة إسرائيل -وعلى رأسهم رئيس الوزراء ليفي أشكول- بأن إسرائيل انتصرت لأنها دولة غربية ومصر خسرت لأنها دولة عربية، لذا فإنه لا بديل عن يهود الشرق إلا الانسلاخ التام عن هويتهم والانصهار في البوتقة الغربية وإلا فلن يكون لهم مكان في إسرائيل.

وهو ما أكّدته شهادة المؤرخ الإسرائيلي ذي الأصل العراقي نسيم رجوان في كتابه "سنوات العظمة الزائفة في إسرائيل"، الذي أوضح فيه أنه بعد حرب يونيو/حزيران، وخلال أي احتكاك له بالمجتمع اليهودي كان يحاول إخفاء محلّ ولادته في بغداد؛ حتى لا يتعرّض لأي مضايقات.  

بهذا التقسيم العنصري، يكون النصر الإسرائيلي قد فاقَم كرة الثلج التي بدأت مع نشأة إسرائيل بعد تقسيمها إلى معسكرين كبيرين شرقي وغربي، الاعتراض على هذا التقسيم بلغ حدّه الأقصى عام 1971م، حين ازدهر نشاط حركة الفهود السوداء اليهودية خلال الاحتجاجات التي دبّرها اليهود المشرقيون على تدنّي أحوالهم المعيشية، وتبنّت الحركة نهجاً متطرفاً لمواجهة إصرار حكومات تل أبيب المتعاقبة على تهميش السفارديم.

ظهور النضال الفلسطيني

سمح انهيار الجيوش الإسرائيلية للفلسطينيين بتملُّك زمام قضيتهم بأنفسهم للمرة الأولى، فبعد عقودٍ من آمال الاعتماد على الجيوش العربية لتحرير الأرض فشلت هذه المساعي مرتين في 1948م و1967م.

بدأ الفلسطينيون في تنظيم أنفسهم عسكريّاً لخلق كيانات عسكرية مستقلة ستكون النواة التي ستخرج منها أغلب حركات المقاومة لاحقاً، وعلى رأسها حركة فتح وقائدها ياسر عرفات، الذي اعترف به العرب ممثلاً للقضية الفلسطينية في فبراير/شباط عام 1969م.

يقول الباحث في التاريخ الإسلامي بلال شلش في أطروحته: "هزيمة يونيو وإسهامها في إعادة بعث القوى السياسية المقاومة في الضفة الغربية"، إن أجهزة الأمن الأردنية شنّت حملات عسكرية متتالية ضد كافة الفصائل الفلسطينية طوال فترة حُكمها لقطاع غزة "دمّرت معظم الهياكل الفلسطينية للقوى السياسية في الضفة".

أعلنت المملكة الأردنية حل جيش الجهاد المقدّس أبرز التنظيمات الفلسطينية خلال حرب 1948م، وأكثرها خبرة بالقتال، بعدما استولت على مقر قيادته وصادرت أسلحته.

كما دخلت في اشتباكات مع حركة فتح بلغت إلى حد تصفية بعض قادتها مثلما جرى مع أحمد موسى إبراهيم وعبد الحميد القدسي وغيرهما من كوادر فتح الأوائل الذين لاحقتهم القوى الأمنية الأردنية في مساعيها لبسط سيطرة حديدية على الضفة.

هذا الحرث الأردني لتربة المقاومة المسلحة سهّل من مهمة إسرائيل في الاستيلاء على الضفة بعدما استلمتها أرضاً مجرّدة من أي بنية تنظيمية تستطيع مقاومة الاحتلال، لكنه لاحقاً كان باعثاً رئيسيّاً على إعادة تلك التنظيمات إلى العمل لاحقاً، وعلى تسوية حالة التوتّر الدائمة بين الملك حسين ومنظمة فتح، بعدما أُطلق سراح معتقلي فتح صبيحة الخامس من يونيو، وطُلب منهم حمل السلاح والمساهمة في القتال!

بطبيعة الحال، لم يكن ممكناً للمعتقلين التعاون مع الأردن في إنقاذ الضفة، لأنها كانت قد سقطت بالفعل، لكن هذا لم يمنع من تعاون لاحق، فبعدما نجحت حركة فتح في إعادة تنظيم صفوفها، فرضت نفسها على المشهد عبر النصر الذي حققته القوات الفتحاوية الأردنية المشتركة على إسرائيل في معركة الكرامة عام 1968م، والتي حقّق فيها العرب نصراً على الإسرائيليين، ربما لأول مرة في تاريخهم، وأعلن ميلاد لاعب جديد في القضية الفلسطينية، وهي المقاومة الفلسطينية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد متاريك
باحث في التاريخ وعلوم اللغة
باحث في التاريخ وعلوم اللغة، صحفي مصري، عمل محرراً في عدد من دور النشر.
تحميل المزيد