“الكلام إليك يا جارة”.. كيف دمّر الإنفاق العسكري المهول والتخطيط الاقتصادي المريع الاتحاد السوفييتي؟

عدد القراءات
684
عربي بوست
تم النشر: 2022/06/06 الساعة 08:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/06 الساعة 11:41 بتوقيت غرينتش

في الأشهر الثلاثة الأخيرة، جلست مستمعاً لكثير من المجادلات المصرية بامتياز، وسط أصدقاء محترمين، غالبيتهم من المثقفين والعاملين بالمجالات الأدبية والصحفية. غالباً ما ابدأ الجلسة صامتاً ومنتبهاً أيَّما انتباه، لا أكون أول من يستدرج حديث الحرب الروسية الأوكرانية إلى الجلسة التي تفضي إلى معضلة "المستبد العادل".
أختلف مع غالبية مثقفينا وبالتأكيد مع الجماهير الغفيرة المؤمنة بأننا، عرباً ومصريين، لا يمكننا التقدم إلا برعاية "مستبد عادل" أو "دكر من ضهر دكر" في القول المصري، بأجهزته الأمنية شديدة الصرامة، وبقلبه الحنون الذي يخرج المظاليم من السجون متى وصلت أنَّاتهم لما بعد عنان السماء، لأنه باعتقاد غالبية جمهور العلماء والسواد الأعظم من الجمهور أن ذلك ثمن الارتقاء إلى المجد، ولا يكون إلا بمثل هذا الإمام والقائد.

بالعودة لحديث الحرب الروسية على أوكرانيا، يقر في يقين كثير من مثقفينا أن الغرب البائس المتوحش يحيك المؤامرات لإسقاط الدول الحضارية العظيمة مثل روسيا، وطبعاً بالامتداد على الخط نفسه العراق ومصر!

لا يتبادر إلى ذهن المتجادلين أن الديكتاتورية كانت أشد التابعين والمروجين لشرور الغرب ومخططاته، وأن الديكتاتوريات نفذت بالتحديد ما لم يحلم به الغرب لتدمير دول الحضارات "الديكتاتوريات" العظيمة!

إحدى أعظم تلك النظريات أن الاتحاد السوفييتي كان قوة أخلاقية "سوبر"، تَسبب تسللُ الخونة أو عملاء الغرب مثل غورباتشوف، إلى قمة الهرم السياسي، في انهيارها!

سأسوق عدة أسئلة وإشارات؛ لتفنيد نظرية الحضارات العظيمة تلك.

أولاً: كيف تكون دولة عظيمة، تعداد شعبها أكثر من 280 مليون مواطن، ولا تستطيع أن تجد من يحل محل ليونيد بريجنيف سكرتير الحزب الشيوعي لمدة 20 سنة حتى بعدما أقعده المرض عن الكلام والحركة لمدة سنتين؟

ثانياً: كيف يخلف أندروبوف، مدير الاستخبارات الـ"كي جي بي"، بريجنيف ويموت بعدها بشهرين؟

وثالثاً: كيف لا يجد الاتحاد السوفييتي بديلاً لأندروبوف إلا تشيرنينكو العجوز الذي سيتوفى بعد 16 شهراً!

ثلاثة رؤساء للدولة في ظرف أقل من عامين؟

هل كان الحزب الشيوعي الروسي أو السوفييتي بالهشاشة والضعف اللذين يسمحان باختراقه بواسطة المخابرات الأمريكية المركزية وأجهزة المخابرات الأخرى، ليتولى رئاسة الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، بل يكون عمدة موسكو وسكرتير الحزب الشيوعي بها بوريس يلتسين الذي قام بأدوار أكبر في تدمير الاتحاد السوفييتي، بل في تدمير روسيا المستقلة فيما بعد 1991؟

على هامش الحرب الروسية الأوكرانية التي يُمنع وصفها بأنها حرب في روسيا وإلا تعرضت للسجن، إذا كانت روسيا وأوكرانيا معا هماً أكبر مصدّر للقمح والغلال الزيتية في العالم، فلماذا كان الاتحاد السوفييتي أكبر مستورد للقمح سنة 1972؟ ألا يدل ذلك على خراب بالنظام الإداري والاقتصادي؟

سألقي هنا قنبلتي اليدوية الأخيرة، انهار الاتحاد السوفييتي من الداخل؛ لأنه اضطر إلى إنفاق 15% من ناتجه المحلي لينفق نصف ما تخرجه الولايات المتحدة من ميزانيتها لوزارة الدفاع. وسأطلق رصاصة الرحمة الأخيرة، بأن الاتحاد السوفييتي سعى للسيطرة على أفغانستان بلا داعي أو منطق بدعم انقلاب شيوعي في أفغانستان سنة 1978، وسقط الاتحاد السوفييتي في حرب استنزاف صارت بعد انسحابه منها أكبر خطر على الجمهوريات السوفييتية الإسلامية، بل على كل النظم السياسية لدول الجوار الإسلامية إلى الآن، حتى بعد عشرين عاماً من التدخل الأمريكي الكارثي!

تزامنت فترة الوفاق السوفييتي الغربي بتوقيع معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية عام 1972، باستخدام الولايات المتحدة للصين الشعبية كمخلب قط في ظهر الاتحاد السوفييتي، فكأن صين ماو تسي تونغ شريكة كبرى في إسقاط الاتحاد السوفييتي!

بل إن سياسة دس السم في العسل أدت إلى إغراق الاتحاد السوفييتي وتوابعه في سياسات استدانة للبنوك الغربية أدت فيما بعد إلى انكماش الرفاه الداخلي للمواطنين في دول حلف وارسو، بالذات رومانيا وبلغاريا وبولندا أكثر الدول استدانة، بل عانت ألمانيا الشرقية والمجر وتشيكوسلوفاكيا من الانجراف السياسي والنقدي المالي للغرب، حتى دولة مثل يوغسلافيا غرقت في الديون الغربية.

ماذا يهمنا من هذا السرد للتاريخ؟

التوجهات السياسية المعادية للغرب إما بسبب ثقافي أو سياسي لمناقضة الليبرالية والديمقراطية، قد تلهب حماسة المثقفين والجمهور، ولكن النظام الديكتاتوري غالباً ما يصنع أزمته العسكرية، ويزاوج معها التورط المالي والاقتصادي بالقروض فينتهي النظام السياسي "المتحفز" بالفشل والهزيمة، سواء كان على رأسه بوتين أو صدام حسين أو خلفاؤهما من دعاة الخصوصية الثقافية والحقوقية.

الرسم البياني أدناه يشرح تنامي واردات الاتحاد السوفييتي من  الغلال في الفترة من 1970-1990، ويتزامن ذلك التصاعد مع تعاظم ديون دول حلف وارسو للبنوك الغربية، ومن ثم أجد الترابط بين تلك العوامل: الاستدانة، الفشل الاقتصادي، الإنفاق العسكري والمغامرات الخارجية؛ وكلها من صنع النظم السياسية ومبادراتها، هي أسباب سقوط الاتحاد السوفييتي دون غيرها، نافياً أن تكون الأماني الطيبة لميخائيل غورباتشوف بإعادة البناء أو المكاشفة والإفصاح هما أسباب السقوط.

المصدر: البنك الدولي

باختصار شديد جداً، الدولة السوفييتية رغم كل شعاراتها وتضحيات شعوبها كانت فاشلة حتى النخاع! حتى مع افتراض أن غورباتشوف ويلتسين كانا من الملائكة البلاشفة وليسا زرعاً شيطانياً للـ"سي آي إيه"!

والكلام إليكِ يا جارة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

شريف العصفوري
روائي وكاتب مستقل
تحميل المزيد