يمكن للجمال -كما للقبح- أن يكون سجناً، ولكن في شكل قفص حديدي مزين وجميل، ولكنه يظل في النهاية مجرد قفص يحبس من بداخله. على مدار سنوات عديدة مر علی السينما المصرية مئات الآلاف من الوجوه، النجوم والنجمات، والأشخاص العاديين في أدوار ثانوية ونجوم صف ثانٍ وثالث، ولكن من يعلقون في الذاكرة ليسوا بنفس العدد، ولا يقتربون من نصف هذا الرقم أو ربعه، بل إنهم قد لا يتجاوزون أصابع اليد لدى البعض.
لكن هناك وجوه تعلق في الذاكرة وتلتصق بها، ليس لقدراتها التمثيلية العالية فقط أو لأن الحظ لم يحالفها، ولكن أيضاً لجمالها الفاتن الذي يُسعد العين. ومن أولئك يمكننا ذكر اسم مديحة كامل لتقفز في أذهاننا صورة الحسناء التي لا تشيب في الذاكرة، وكأنها باعتزالها فجأة وبلا مقدمات ضمنت انطباع صورتها في ذهن كل الأجيال على أحسن صورة، وعلی مدار عشرات السنوات كحسناء جميلة تشبه امرأة كاملة في عيون كل الشباب والرجال في أحلام يقظتهم.
ولكن الوجه الخفي لقصة الفنانة مديحة كامل التي رفض القدر أن يكون على نفس مستوى حسنها تستحق الذكر كامرأة مثابرة، كفنانة حقيقية حاولت أن تقدم نفسها مراتٍ عديدة كطاقة تمثيلية شديدة الموهبة، وليس كما أرادوا حصرها.
طفولة أم
بدت النجومية تدق أبواب مديحة كامل وهي طفلة، وفي مسقط رأسها في مدينة الإسكندرية، قبل أن تتملكها الرغبة في السعي نحو الطريق المرهق الذي يمتلئ بالصعاب.
ولدت مديحة كامل في 13 أغسطس/آب عام 1946 وعرفت النجومية في الإعدادية والثانوية عن طريق المسرح والرياضة اللذين كانا ملجأها ومصدر شعورها بالتفرد والاختلاف. كان الجميع يلتفون حولها كنجمٍ ساطع لا يخفت ضوؤه.

في كتاب "مديحة كامل.. سنوات الظهور والاختفاء" تحرّی الكاتب الصحفي محمد سرساوي الدقة والحدس ليكتب برهافة عن فنانة حقيقية كثرت حولها الشائعات أكثر مما التفت أدوار النجومية التي كانت ستجعلها في مكانة تستحقها. مستعيناً بالأرشيف الصحفي الضخم للمؤسسات الصحفية العديدة بحث عن كل خبر، وكل حوار تتحدث فيه مديحة عن أحلامها وطموحاتها وهي طفلة، وهي نجمة، وهي أم تحمل ابنتها في أغلب مواقع التصوير حتی لا تتخاذل في مهمتها التي كانت تعرف أنها مهمة سامية، فالأمومة لم تكن تُعطلها رغم أنها كانت أماً وهي على أعتاب العشرينيات من عمرها. وحلم البطولة المطلقة لم يكن يفارقها مع كل المعوقات والعراقيل التي وقفت أمامها.
ومن البيت الذي عارض قرار الطفلة التي ما زالت في المدرسة الثانوية قررت مديحة أن تتحرر بأي طريقة، حتى لو كان السبيل الوحيد إلی هذا التحرر هو الزواج من رجل يكبرها بسنواتٍ عديدة. تزوجت مديحة من رجل الأعمال "محمود الريس" صديق والدها، في سبيل أن تتجه للسينما بعدما كان والدها يعارض رغبتها بضراوة بالرغم من موافقتهما علی عملها في مجال الدعاية وعروض الأزياء. وفي اتفاق رسمي ومعلن وافقت مديحة على الزواج لتنفيذ رغبتها في أن تكون نجمة سينمائية تُزين صور أفلامها الشوارع والميادين وواجهات السينما. ورغم ذلك لم يبتسم الحظ، ولم يقبل القدر المقابل الثمين الذي دفعته مديحة كامل للحصول على حقها في اختيار مصيرها.
عثرات في طريق النجومية
كانت مشكلة مديحة الأولى هي إخلال زوجها اتفاقه معها ومعارضته لرغبتها في أن تكون فنانة، وزاد من شدة الأمر حمل مديحة وولادتها لابنتها الوحيدة ميرهان، الفتاة التي ستُطلق مديحة اسمها على شركة الإنتاج الخاصة بها.
لم يكن حظ مديحة في بدايات حياتها كما يجب أن يكون، فبعد طلاقها تزوجت مرة أخرى من "شريف حمودة" مساعد الإخراج وتطلقت تقريباً لنفس السبب. لتعيش واحدة من أجمل نساء السينما العربية وحيدة، بلا حب، وبلا رفقة، وبلا حظ أو أمور قدرية تساهم في وجودها في مكانة تحلم بها. بالرغم من أنها سافرت للعديد من البلدان مثل بولندا ويوغسلافيا وإيران في عروض لأفلام كانت تتواجد فيها بصورة لفتت كل الأنظار، وخطفت الأضواء بملابسها التي أصرت أن تكون كأي امرأة مصرية.
عاشت فيما بعد مديحة قصة حب جميلة مع "جلال الديب"، الرجل الذي لم تتزوج بعده مديحة. وتعذب قلبها لاضطراره للرحيل عن مصر بعد خلافه مع أجهزة بالدولة واضطرارها هي اختيار الفن والحياة في مصر بجانب ابنتها عن الرحيل مع الرجل الذي أحبته بصدق.
مديحة كامل.. ما بين الإغراء والفن
من البدايات كانت تحاول مديحة كامل توجيه مشوارها الفني نحو الطريق الذي تريده. لم ترغب في النجومية الساطعة ولا الأجر الأكثر قيمة، ولكنها حرصت على توصيل رسائل جيدة من خلال أعمالها وتقديم فن هادف للجمهور، فن حقيقي يُجسد شخصياتهم بصور واضحة على الشاشة بلا رتوش أو تزيين مصطنع. أرادت أن تُقدم للجميع ما يؤكد لهم احترامها لهم ولعقولهم لأنها في المقابل كانت تجد ردود أفعال جيدة من الناس تجاه أدوارها هي بشكل شخصي، وكانت كلما ظهرت على الشاشة حتى ولو في دور ثانوي انطبعت صورتها كحسناء وكفنانة قديرة في مخيلة الجميع.
ما لم تتمكن من التعاطي معه بشكل كامل هو محاولات وضعها في قالب معين، محاولات تسليعها كامرأة يمكنها القيام بأدوار الإغراء فقط، المرأة اللعوب التي تغوي الرجل وتُسقطه في شباكها؛ ما دفعها في النهاية لافتتاح شركة إنتاج خاصة بها فقط لإنتاج ما تراه مناسباً، ولإيمانها بأن دور الفنان الحقيقي هو الاجتهاد والسعي للحصول على أفضل نتيجة ممكنة.
سنوات الظهور والاختفاء!

من خلال تتبع سيرة مديحة كامل الفنية نجد فجوات عميقة في تاريخها الفني بلا أي منتج أو ظهور، بلا أي خبر عن الفنانة التي لم يساعدها الزمن لتخطي ما لا تقدر عليه. نجد سنوات الأمومة الأولى ونجد أوقات الإخفاق في الحب، نجد سنوات بلا عمل واحد بالرغم من تصريحاتها أنها تريد العودة للظهور على الشاشة- ما قبل الاعتزال- ونجد سنوات ما بعد عام 1992 حينما أعلنت مديحة بهدوء تام اعتزالها الفن نهائياً. ومن خلال مسيرة بدأت من أول لقطات الظهور في عام 1964 وحتى عام 1992 لا يمكن أن نتذكر مديحة كامل إلا كامرأة بديعة أو حسناء، بلا تمحيص أو مراجعة لذاكرة التاريخ السينمائي والمسرحي بالرغم من تركها فيهما أثراً غير قليل ولقطات لا تُمحی. تتلخص قصة حياة مديحة في اللقطات الجميلة التي التقطتها الكاميرات لعينيها الجميلتين وملامحها الهادئة، تبدو العينان تحديداً أحد أبرز المداخل لقراءة مديحة كامل ككتاب أو كفنانة، العينان الواسعتان غير المحايدتين التي يمكنهما أن تحملا في بعض الأحيان نظرة فاتنة وفي البعض الآخر نظرة حزينة، وفي أوقات أخرى نظرة هادئة، ينتقل الشعور على حسب موقع الناظر، وفي كل الأحيان لا يمكن لأحد أن يختلف على أن مديحة فنانة جميلة لم تمنحها الحياة الحظ الكافي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.