بعد عملية ضم النمسا إلى ألمانيا في عام 1938 أصبح اسم ألمانيا المتداول هو "رايخ ألمانيا الكبرى" خلال عامين فقط (1943 – 1945) من الحكم النازي.
الرايخ الألماني هو الاسم الرسمي لألمانيا في الفترة من 1871 إلى 1945، وهو امتداد لتسمية الإمبراطورية الرومانية المقدسة من "911-1806" التي كانت تسمى "ويتش رايخ".
والحقيقة أن اسم ألمانيا "الرايخ" له رابط ذهني يتغير بالحروب لاسيما منها الحربان العالميتان الأولى والثانية، ففي الحرب العالمية الأولى التي انهزمت فيها ألمانيا وأجبرت على الاستسلام والتوقيع على معاهدة فرساي وسقوط نظام القيصر واستبداله بنظام ديمقراطي سُميت ألمانيا آنذاك "جمهورية فايمار" نسبة إلى مدينة فايمار التي قامت فيها هذه الجمهورية الوليدة، غير أنه لما وصل أدولف هتلر والحزب النازي للحكم وسيطرت النازية على كل المؤسسات وتشكلت ألمانيا النازية، عاد اسم الرايخ في عام 1933.
وبعد هزيمة ألمانيا النازية من طرف الدول الحلفاء وأجبرت على الاستسلام في 1945 قسمت ألمانيا بعد ذلك إلى دولتين شرقية وغربية، وهذا الانقسام نتيجة تصدع المجتمع الدولي وانقسامه إلى كتلتين، حيث نشب صراع بين القطب الشرقي بقيادة الاتحاد الروسي والغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
انعكس ذلك الانقسام أيضاً على انضمام ألمانيا الاتحادية إلى حلف الناتو في أكتوبر 1954 وكرد الفعل سريعاً، من طرف الاتحاد السوفييتي بإنشاء حلف وارسو في مايو 1955 والتي كانت ألمانيا الشرقية أحد أعضائه، غير أن طبيعة أنظمة الحكم المتناقضة (رأسمالية واشتراكية) في كلا الجمهوريتين دفع بفرار أكثر من مليون شخص من جمهورية ألمانيا الديمقراطية باتجاه ألمانيا الغربية، وكانت مدينة برلين نقطة ساخنة بين القوى الدولية، قبل سقوط جدار برلين وتوحيد ألمانيا..
لكن ما هو ثمن توحيد ألمانيا؟
بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية 1945 عملت قوات الحلفاء المنتصرين على نزع سلاح ألمانيا ومنعها من تصنيع السلاح، لكن بعد انضمام ألمانيا الغربية الى حلف الناتو سمح لها بإعادة تسليح نفسها وتأسيس جيشها، بعد أن وقعت ألمانيا الغربية مع الناتو الاتفاقية الخاصة بوجود القوات الأجنبية على أراضي جمهوريتها.
ويرجع السبب التواجد العسكري الأجنبي في ألمانيا في بدايته إلى منع سيطرة القوة العسكرية الألمانية على البلاد من جديد، غير أن بروز الحرب الباردة أجبرت دول التحالف على تغيير تعريفها للعدو فلم تعد النازية، بل الاتحاد السوفييتي.
وفي هذا الإطار تتوزع القوات الأمريكية في ألمانيا على 21 قاعدة عسكرية في بنحو 50000 أمريكي بين عسكريين وموظفين مدنيين في القواعد العسكرية الأمريكية على الأراضي الألمانية بالإضافة إلى القوات الفرنسية والبريطانية. كما أن توحيد ألمانيا وإعادة بناء جيشها الذي تزامن مع بداية نهاية الحرب الباردة فرض عليها عدة نقاط:
– تقليص عدد أفراد الجيش الألماني الموحد إلى 370 ألف فرد ثم إلى 20.000 فقط.
– حل جيش ألمانيا الشرقية وضم 5 آلاف من أفراده إلى الجيش الألماني الموحد.
– تدمير وتفكيك الطائرات المقاتلة والمركبات العسكرية المختلفة.
– تدمير القوات البحرية وتحويل العديد من السفن إلى خردة.
الملاحظ في الاستراتيجية الألمانية المعتمدة في إعادة بناء قدرات الدولة أنها اعتمدت على التوازنات ضمن المجموعة الأوروبية والناتو، وركزت على البعد المدني وتطوير اقتصادها ومؤسساتها إذ أضحت رابع اقتصاد عالمي، وحافظت على مشاركتها في عمليات حفظ السلام في جميع أنحاء العالم، وأبقت نفسها قوة مساعدة تابعة لحلف الناتو وفق منطق التدرج، وقد شاركت في التدخل العسكري في أفغانستان عام 2002.
يرجع الظهور الفعلي لألمانيا على الساحة العالمية من خلال جهود المستشار الألماني السابق "غيرهارد شرودر"، وهو الذي مهّد الطريق لزيادة الاعتماد على الطاقة الروسية من خلال إنشاء خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 1″، وتبعته في ذلك المستشارة ميركل، من أجازت خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" والذي أوصل الاعتماد الألماني على الغاز الروسي إلى حوالي 60 % من الاستهلاك الألماني، وهي بذلك أكبر الدول الأوروبية المستوردة له وبأسعار تفضيلية.
هذا الاعتماد بحد ذاته عامل مهم في إصدار قرارات متعلقة بالقدرات الألمانية العسكرية وعلاقتها بحلفائها في الناتو، وهو ربما يبعث التاريخ من جديد لإعادة قراءته.
وهو ما ظهر جلياً في خطاب المستشار الألماني شولتز في فبراير 2022 في جلسة خاصة للبرلمان الألماني حيث قال: "مع غزو أوكرانيا أصبحنا في حقبة جديدة.. إدراج بند الاستثمار في تعزيز قدرات الجيش الألماني في دستور البلاد.. وعزم برلين على إعادة هيكلة سياستها الأمنية."
وكشف عن تخصيص مبلغ 100 مليار يورو للجيش الألماني لمرةٍ واحدة، كاستثمار إضافي، وعزمها زيادة إسهاماتها في حلف الناتو، وزيادة الإنفاق العسكري بأكثر من 2% من إجمالي الناتج المحلي. وذلك مؤشر على تحول في السياسة الألمانية التي باتت تنظر للحرب الأوكرانية الروسية كمحطة مهمة لإعادة تموضعها الجيو-استراتيجي عبر العالم.
بهاته الخطوات فكت ألمانيا عقوداً من القيود المفروضة على السياسة الخارجية والدفاعية الألمانية، وهذا ما يمكن وصفه ببداية التحول الاستراتيجي الذي يمتد إلى علاقة ألمانيا بالدول الأوروبية وحتى حلف الشمال الأطلسي.
ولذلك نلاحظ النظرة الألمانية تجاه الحرب الروسية الأوكرانية تختلف عن باقي الدول الغربية فهي تتسم بالحذر وتحاول أن تؤدي الدور المتزن الذي يتماشى مع قوتها الاقتصادية واحتياجاتها من الغاز والسياسة داخل حلف الناتو وأيضاً الاستثمار في وجود مساحة من التقدم في مجال النفوذ العسكري.
هذا الدور لم يكن مقبولاً لدى الحكومة الأوكرانية الأمر الذي ظهر من خلال إلغاء الرئيس زيلنسكي زيارة المستشار الألماني، وهو موقف جاء نتيجة عدم مساعدة ألمانيا لأوكرانيا بالأسلحة الثقيلة في المعركة ضد روسيا مثل الدبابات القتالية والمدفعية وأنظمة الدفاع الجوي. غير أنه تم استدراك ذلك لاحقاً بدعوة المستشار الألماني لزيارة كييف والتي يبدو أنها لولا محاولة ألمانيا لعب دور الوساطة بين الطرفين لكانت تسبب أزمة يطول مداها، وخاصة أن هناك خلفية أن ألمانيا عبر المستشارة ميركل رفضت من قبل انضمام أوكرانيا إلى منظمة حلف الناتو في عام 2008، وهو موقف لا يزال تنظر إليه الحكومة الأوكرانية على أنه يصبُّ في صالح استراتيجية روسيا.
والجدير بالذكر أن محاولات ألمانيا عبر مستشارها الأسبق لإجراء وساطة بين روسيا وأوكرانيا والتي تراه فرنسا المنافس الأكبر الأوروبي تحول يهدد مصالحها والذي لم تخفِهِ ألمانيا وخاصة نظرتها نحو القارة الإفريقية عقب الغزو الروسي على جزيرة القرم 2014، حيث صرح وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير في 2014: "بأنه لا يمكن ترك أمن إفريقيا لفرنسا وحدها.. وأن ألمانيا أكبر من مجرد التعليق على أحداث السياسة العالمية.. لم تفقد الولايات المتحدة اهتمامها بأوروبا والعالم، لكنها لا تقدر على الوجود في كل مكان، وشئنا أم أبينا فهذا يحمِّلنا المزيد من المسؤولية عن أمن أوروبا".
العلاقات الألمانية الصينية
كما أنه من زاوية أخرى فإن العلاقة الصينية الألمانية في تنامٍ بمجالات متعددة، حيث استفادت ألمانيا بشكل كبير من اندماج الصين في النظام الاقتصادي العالمي وقد وصل حجم التجارة الصينية – الألمانية إلى حوالي 200 مليار يورو كما يعد الصين أكبر شريك تجاري لألمانيا وأن إبرام اتفاق شامل بين الصين والاتحاد الأوروبي والذي لعبت فيه ألمانيا الدور البارز حينما كانت بقيادة المستشارة ميركل.
هاته العلاقة هي أيضاً محدد مهم تجاه السياسية الخارجية الألمانية، خصوصاً أن الصين حليف استراتيجي لروسيا، ما يجعل من اتخاذ أي خطوة لابد من مراجعة العديد من العلاقات، وربما هاته الحسابات ستلقي بظلالها على الحديد من التحالفات مستقبلاً وأنه على ألمانيا حتى تبقى على التفوق الاقتصادي أن تبذل جهوداً نحو زيادة قوتها العسكرية.
ومن خلال ما تقدم يمكن أن نتساءل: ما حظوظ ألمانيا في التحول إلى قوة عسكرية إلى جانب قوتها الاقتصادية؟ وهل فعلاً تم تغيير واقع ألمانيا من دولة مقيدة، وانتقالها إلى موقع الدولة المحررة؟
ربما الإجابة عن هذه التساؤلات توجد ضمن أجندة "حزب البديل الألماني"، وهو الحزب اليميني المتطرف والذي يعتبر امتداداً للحزب الاشتراكي الوطني الذي قاده هتلر في زمن الرايخ الألماني الثالث، هذا الحزب الذي يجد الديمقراطية بيئة لعودته (13% من مقاعد البرلمان الحالي) والتحولات الحاصلة على مستوى العلاقات الدولية وتغير مراكز القوة والنفوذ يجد له مبررات التمدد في المانيا مستقبلاً في تقديري، ويدفع بالتفكير إلى مستقبل ألمانيا وتحولها عسكرياً وأمنياً في أوروبا، بعد ذلك تفتح نوافذ على الرايخ الألماني الرابع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.