تطور العلاقات بين الجزائر وتركيا.. كيف يمكن أن ينعكس على المشهد التونسي؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/02 الساعة 12:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/06/02 الساعة 12:25 بتوقيت غرينتش

من دون الخوض في البعد الاقتصادي، الذي نال نصيبه وأكثر في التقارير الإعلامية، والذي استفضنا فيه كذلك في الجزء الأول من هذا المقال، سنحاول من خلال هذا الجزء الثاني أن نتناول إضاءات حول فضاءات التعاون الجيواستراتيجي الممكن بين الجزائر وتركيا، وآفاق تطوره وانعكاساته الممكنة على المشهد التونسي، التي يمكن تقسيمها كالتالي لثلاثة فضاءات كبرى:

1- تحولات شرق المتوسط 

 لطالما مثَّلت الجزائر قلعةً بحرية إسلامية، أو لعل في الأمر استدعاء لذاكرة المنظومة البحرية الإسلامية التي سبقت لقرون طويلة معركة نافارين (التي شاركت فيها البحرية المصرية للتاريخ)، وحتى دون الاستغراق في رومانسية عناصر التاريخ أو حتميات الجغرافيا، فإن الجزائر الجديدة مهتمة بترسيم حدودها البحرية مع إيطاليا وإسبانيا، وهي ذات تطلُّع للعب أدوار تتماشى مع المتغيرات في المتوسط، بإدراك ما أمكن من فُرصِه، وتفادي ما أمكن من تكاليفه أو مخاطره، وهي ليست الوحيدة في ذلك، فموضوع إعادة ترسيم الحدود البحرية والجروف القارية يأخذ مساحات في الجدل السياسي بكل دول الحوض تقريباً (إلا تونس)؛ بل إن جلسات البرلمان الإيطالي قد تداولت مقترح حزب حاكم بضرورة إعادى ترسيم الحدود الإيطالية (من ضمنها حدودها مع تونس)، بما يتماشى مع أدوارها التاريخية، حسب أقوالهم.

من ناحية أخرى، فإن تركيا تسعى فعلاً، منذ سنوات، لتنزيل استراتيجيتها البحرية الجديدة المسماة "الوطن الأزرق" (Mavi Vatan)، والقائلة: "أقوياء في وطننا الأزرق، آمنون في وطننا الأم". إن ما يعبِّر عنه هذا الشعار، من شعور المؤسسة العسكرية التركية، بأن الأمن الوجودي لشعبها يقتضي منها تواجداً قوياً خارج حدودها، وبالذات في شرق المتوسط، تتقاطع تقريباً مع نفس القناعة المستخلصة من عشرية الربيع العربي لدى العقل الاستراتيجي الجزائري، الذي أضحى على قناعة تامة بأن ضمان أمنه الوطني أصبح يحتاج منه تجاوز الاقتصار على حماية حدوده إلى الخروج للمساهمة في تشكيل منظومة استقرار إقليمي. 

ويعد هذا التغيير الأهم الذي طرأ على العقيدة الدفاعية للجزائر الجديدة، والذي وقع تثبيته من خلال التغيير الدستوري الشهير، والذي أقر ولأول مرة للقوات المسلحة الجزائرية، منذ تأسيس الجمهورية، الحق في إجراء عمليات خارج الحدود. إذاً فالبلدان يشتركان في قناعتهما بأهمية ما يمكن تسميته في الجغرافيا العسكرية خطوط الدفاع المتقدمة، كتوجُّه استراتيجي ذاتي لكل منهما، وأمامهما مساحات تأثير إقليمي متقاطعة جغرافياً، بما يفتح أمامهما فرص تعاون استراتيجي في تلك المناطق، وعلى رأسها شرق المتوسط. 

في الأخير، يبقى البناء والتقدم في هذا الاتجاه وغيره رهين السياقات ومدى النجاح في تنزيل الاتفاقيات الأخرى، ولكن لكل من البلدين أرصدته وأدواته ومساحة تأثيره، ولكل منهما ما يقدمه للآخر.    

2- التدافع نحو إفريقيا

 إن ما يسمى "الهرولة أو التدافع العالمي الجديد نحو إفريقيا" (The new Scramble for Africa) ليس ببعيد عن مصالح ومطامح وأدوار كلا البلدين، وهذا ما يفتح في أفقه فرصَ ومساحاتِ تعاون استراتيجي. ولكن هنا يجب أن ننبه إلى الحساسية الخاصة التي توليها الجزائر لأي تنامٍ زائد عن العادة لأي نفوذ خارجي في دول طوَّقها المغاربي خاصة، فهي في هذا السياق مثلاً تتبنى بقوة قرار إخراج القوى الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، بل هي تقود اللجنة الأمنية المكلفة بمرافقة تنزيل هذا القرار ضمن منظومة دول الجوار الإفريقي، وهو قرار يتضارب مع المصالح التركية في شطرَيه؛ إذ إن للأتراك قوات نظامية وعتاداً ومستشارين، ولكنهم قاموا كذلك بتجنيد مرتزقة تحت غطاء شركة أمنية خاصة على غرار شركة فاغنر وفيغاس الروسيتين أو بلاك ووتر الأمريكية وغيرها.. إلخ.

وقد عبَّرت الدولة التركية، في أكثر من مرة، عن رفضها لمجرد الخوض في نقاشات خروج قواتها قبل إتمام مهمتها باستتباب الاستقرار في ليبيا أو بطلب من سلطة طرابلس الغرب، وهذا توجُّه مفهوم بعد كل ما ضخَّته تركيا من استثمارات متعددة الأبعاد في ليبيا، وخاصة مشروعها الخاص بتحويل ليبيا للمركز اللوجيستي الرئيسي للأتراك في إفريقيا.

 وهذا ما يفتح الباب لفهم تضارب أكبر بين استراتيجيات البلدين حيال إفريقيا؛ إذ إن فهمي لمشروع "الجزائر الجديدة صانعة الاستقرار" في الإقليمين، أو القوة "الإقليمية الضاربة" كما سمَّتها مجلة الجيش في أحد أعدادها الأخيرة، لا ترى نفسها في علاقة بالمتوافدين نحو القارة ونحو الساحل والغرب الإفريقي بالخصوص، إلا كالدولة المفتاحية الأولى لدخول القارة والمعبر الرئيسي لدخول إفريقيا.

الجزائر وتركيا
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الجزائري عبد المجيد تبون في أنقرة / الأناضول

 بكل اختصار، فإن الجزائر تطمح إلى أن تكون البوابة الشمالية الرئيسية للقارة وميناء الصحراء الأول. والجزائر في الحقيقة تملك كل المقومات الصلبة؛ بل والبنى التحتية الجاهزة وأدوات التأثير النافذة، والخطط الموضوعة، دون الحديث عن الكوامن المعطلة لقوة ناعمة ضاربة: فهي تملك شبكات الزوايا للحركات الصوفية، وعلى رأسها الحركة الجيلانية ذات الامتداد الواسع في الصحراء والساحل وحتى غرب إفريقيا، وعلى نحو شبيه تنتشر قبائل الأمازيغ والطوارق ذات البنى العشائرية المتوزعة على مساحة الصحراء، والصحراء كالبحر، كما يقول ابن خلدون؛ إذ إنها بغياب التضاريس الطوبوغرافية فيها تتشابه مع البحر، فكلاهما يسهل انسياب المجموعات البشرية واندفاعها، وبذلك فإن الصحراء كلمة مفتاحية لمساحة جغرافية تمتد من القرن إلى الساحل، ومن ثَم فإن الغرب الإفريقي على أقل تقدير، حيث توجد كتل ديموغرافية استهلاكية حبيسة عن البحر وثروات باطنية كثيرة تبحث عن مسالك التوزيع.

 الجزائر تملك كذلك أجهزة سيادية فاعلة في المنظومة الأمنية في إفريقيا عموماً وذات تأثير فاعل في فضائها الجيوسياسي الحيوي بأقدار مختلفة، حتى إن عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة ورقلة بالجزائر، أ.د. قوي بوحينة، قد وصف الجزائر في إحدى الورقات البحثية بـ"محج سياسي وأمني دولي ومتعدد الأطراف". 

من جهة أخرى، فإن للجزائر مشروع الطريق السيار العملاق الذي من المفترض أن يشق إفريقيا وصولاً إلى العاصمة النيجيرية، كما أنه يربطها في أحد تفرُّعاته بتونس، وهي في نفس المنطقة تنافس المملكة المغربية على استجلاب أنبوب الغاز النيجيري للعبور من أراضيها.

أما في الجانب التركي، فقد نجحت تركيا في تحصيل بعض نقاط الارتكاز في إفريقيا، عبر التواجد الاقتصادي والخيري والثقافي ودبلوماسية المساجد وأدوات ناعمة أخرى كثيرة، وحتى بعض المرتكزات الصلبة، مثل: التواجد العسكري والأمني في ليبيا أو في الصومال، ولكنها ورغم كل جهودها المبدعة في إفريقيا، فإن العقل الاستراتيجي التركي يعي جيداً أن توغله الحقيقي في إفريقيا يمر عبر فتح جسر على الأقل من ضفة المتوسط الجنوبية أو البحر الأحمر وبدرجة أقل في غرب إفريقيا. ولكن تركيا وبعد كل جهودها التي تعثرت في اتجاه تونس وما زالت دون المستوى المأمول مع مصر، وذات آفاق محدودة مع المغرب، وصاحبة مرتكزات هشة في ليبيا، لا تجد أمامها أفضل من الجزائر كشريك استراتيجي موثوق نحو إفريقيا. 

3- الفضاء العربي

منذ صعوده لسُدة الحكم في 2002، اتسمت سياسات العدالة والتنمية تجاه المنطقة العربية بسياسة "الصفر مشاكل" لصاحبها داوود أوغلو إلى حدود اندلاع الربيع العربي، الذي قذف بتركيا إلى أمواج صراعه. وبعد أن استقال "كيسنجر تركيا" اعتراضاً على ما اعتبره إرباكاً استراتيجياً في مخططات تركيا، فقد بدأت القيادة السياسية التركية منذ 2016 بالاقتناع علناً، على الأقل، بضرورة السعي لتخفيض العداوات وتقليل عدد الأعداء من ناحية، والإكثار في منسوب الصداقات وعددها من ناحية أخرى. وتلك هي الجهود التي انطلقت حينها لتتهيأ لها الظروف بعدها، حتى تؤتي أُكلها بدايةً من قمة العلا في بداية السنة الماضية. 

لقد أدركت تركيا جيداً خلال السنوات الأخيرة التكلفة ومخاطر أن تكون معزولة في محيطها، خاصة في تجربة شرق المتوسط. كما أن عوامل أخرى كثيرة قد تظافرت مثل:

1-  التضخم المالي والانكماش الاقتصادي، زاد دوافع التطلع نحو كل أفق لفرص اقتصادية ممكنة، فقد أصبح الاقتصاد أهم مفاتيح التعاون بين دول، والتي لا تغلق حتى بانسداد العلاقات السياسية والدبلوماسية أو حتى انقطاعها.

2- حالة "توازن الضعف" التي وصلت لها المحاور الثلاثة المتصارعة في المنطقة، فكل منها قد استيقن بعد عشر سنوات من أنه أضعف من أن يزيح الآخرين، وأقوى من أن يُزاح عن الوجود.

3- حالة "عدم اليقين" المتفشية في النظام الدولي، والمقترنة بتحولات أخيرة هزت منسوب ثقة حلفاء واشنطن فيها تبعاً للخروج المخزي من أفغانستان، والمرتبطة كذلك بانسحاب أمريكا من المنطقة عموماً، بما أخذ بدفع مراكز القوى الإقليمية نحو محاولة فتح قنوات التواصل والعلاقات في كل اتجاهات بيئتها الإقليمية، حتى تملك حداً أدنى من طمأنينة الأمن الوجودي.

4-  وصول معادلات الصراع في المنصات الجغرافية المختلفة للربيع العربي إلى خطوط عامة من التوازن ولو الهش في بعض الأحيان، مع الإنهاك الذي أصاب كل الأطراف المتصارعة، قد عجَّلا بطي صفحة الصراع الرئيسي القائم منذ عشر سنوات، حول الموجتين الأولى الثانية للثورات الديمقراطية للشعوب العربية.

5-  قناعة تركيا بأن النجاح في إرساء منظومة إقليمية مستقرة تحت إجماع توافقي على ضرورة أن يحل الإقليم مشاكله بنفسه، سيكون على المدى المتوسط والبعيد ذا مردودية عالية على تركيا، رغم ما قد يبدو باهظاً في تكلفته المباشرة؛ إذ إن تركيا من خلال عناصر القوى المتراكمة اقتصادياً وعسكرياً متقدمة على جميع جيرانها تقريباً، وذلك ما سيفرض نفسه واقعاً مع الوقت في المستقبل.

لقد تقاطعت إذاً كل العوامل المذكورة، لتذهب تركيا في اتجاه إعادة ترتيب علاقاتها العربية، ورغم ما يبدو أنها قد حققته من نجاحات تجاه الإمارات أولاً ومن ثم السعودية، فإن تذويب الجليد مع القاهرة قد ظل بطيئاً ومتعثراً، وإعادة ترتيب العلاقات مع نظام الأسد في سوريا ما زال متأخراً، رغم أنه من زاوية الملفات الضاغطة والمرتبطة به مثل ملف اللاجئين والمنطقة الآمنة، يكتسي أولويةً خاصة.

ومن هنا، فإنه وباعتبار ما سبق، وأن ذكرناه حول سياسة الجزائر تجاه الفضاء العربي، ووضعها لأهم رهاناتها على احتضان وإنجاح المصالحة الكبرى للعرب، فإن التوجهات الاستراتيجية لكلا البلدين تكاد تكون متطابقة، وتفتح  إمكانيات تعاون قد تظهر ثمارها خلال الأشهر القادمة، في اتجاه النظام السوري، أو بالتنسيق في الملف الليبي، والتعاون في مرافقة المأزق التونسي بشكل أو بآخر، الذي قد يترتب عليهما إرسال رسائل مشتركة نحو القاهرة بتعبيرٍ ما، للمساعدة في الوصول لمساحات اتفاق معها.

إذاً لم يبق لنا إلا أن نتساءل حول التصورات المشتركة التي تتبناها كل من تركيا والجزائر حيال ما يمكن تسميته صفقة الاستقرار المنشود في المنطقة، أو فلنطرح السؤال بشكل أدق حتى نختصر المسافات: أين تقع الديمقراطية بدرجة أولى من هذه التصورات؟ وأين تقع الحركات الإسلامية منها؟

– بداية يجب أن نذكر أن كلتا الدولتين كبقية دول العالم، في حقيقة الأمر، لم تستخدم في شخص رئيسها توصيف الانقلاب، في تعاملها مع ما حدث في 25 يوليو/تموز الفارط في تونس أبداً. وكل منهما يدير في بلده نظاماً يحتوي تعددية حزبية وتمثيليات برلمانية وحريات رأي وصحافة متفاوتة في حدودها بين البلدين، إلا أن كليهما يتميز بمركزية مفرطة للسلطة في رئاسة الجمهورية. وبذلك فإن سقف ما يجب أن يكون مقبولاً في الحد الأدنى، مما قد يطرأ من متغيرات على المنظومة السياسية في تونس يبدو واضحاً، بل ومتقاطعاً بأقدار ما مع ما يسعى رئيس السلطة القائمة في تونس تجاه تحقيقه كنتيجة.

–  إن لكلا البلدين تشابهاً مع الآخر في طبيعة العلاقات العسكرية المدنية المؤسسة لدولة الاستقلال، وحتى في منحى التطور الذي عرفته تلك العلاقات منذ ذلك الحين، وإن كانت تركيا متقدمة بأشواط في هذا المضمار، لكن رغم أن الجيش التركي أكثر ابتعاداً عن السياسة بمعناها المباشر، فإن القوات المسلحة التركية تلعب إلى الآن أدواراً رئيسية في تصميم السياسات الخارجية الكبرى، وآخرها سياسة "الوطن الأزرق" التي أنتجها الأدميرال "جيم غوردينيز" من البحرية التركية. وأما في الجزائر فموقع الجيش من السلطة معلوم. إذاً فإن كلتا الدولتين تشترك في منطلق الولادة: جيش له دولة، لا دولة لها جيش، مثل السياق الذي عاشته تونس. وبذلك يمكن توقع تصورات البلدين حيال سؤال الجيش والسياسة عموماً، والتي قد لا تطابق مع الهواجس المتذبذبة والمبالغ فيها أحياناً كثيرة لبعض النخب التونسية حول مقولات عسكرة الحياة السياسية.

علماً أن العلاقات التاريخية الوثيقة بين المؤسستين العسكريتين في تونس والجزائر قد تبلغ في تشابكها المؤسساتي مستوى الهياكل الوسطى أو حتى الدنيا؛ إذ إن البلدين يديران على امتداد الحدود بينهما ثلاث منظومات أمنية مشتركة بخلاف ما يجمعهما من تواجد مشترك في جملة من الهياكل والمنظمات الإقليمية، على غرار جهاز "الأفريبول"، ومجلس وزراء الداخلية العرب.

وهو ما يجعل الترحاب الجزائري بإمكانية لعب المؤسسة العسكرية التونسية لأدوار أوسع في تدعيم استقرار البلاد وسيرورة عمليتها السياسية جدّ وارد، وذاك ما قد يمثل أحد أبعاد الحل للمأزق التاريخي الذي تعايشه تونس فعلاً، ويستدعي من النخب تناوله دون حساسيات العالم الثالث، بل بالنظر إليه بهدوء بعدسات التجارب الغربية المقارنة، وفهم طبيعة ما يحدث في الديمقراطيات العريقة، من أجل إعادة استثمار الطاقات البشرية عالية التأهيل لكوادر الجيش ومتقاعديه، بإدماجهم في الدورة الإنتاجية عبر ترؤس الشركات الخاصة أو بالعمل ضمن البيروقراطية المدنية للدولة والإدارات السياسية على رأسها. كما أن الجيوش تلعب أدواراً متقدمة في مجالات البحث العلمي والصناعات والتخطيط الاستراتيجي والتنمية، وأدواراً أخرى عديدة رأينا بعضها في بدايات كورونا.

–  أما بخصوص مقاربة كلا البلدين لأدوار الحركات الإسلامية في فضائهما العام، فإن هناك مساحات تقاطع محترمة بين البلدين، رغم ما قد يبدو للوهلة الأولى من اختلاف بينهما، إذ إن كلا النظامين العلمانيين يدمج من موقع أو من آخر مكونات وأحزاباً سياسية ذات خلفية إسلامية. 

كما أن كلتا المقاربتين في الإدماج متشابهتان، فإحداهما تجعل فرعاً من حركة إسلامية ينفتح على خط قومي وآخر ليبرالي ليؤسس معهم رافعة سياسية مشتركة توصلهم للحكم، ويكون هو على رأسها في الفترة الأولى على الأقل، كما يحدث في تركيا. وأما الجزائر فيمكن اعتبار انفتاحها على الحركة الإسلامية تاريخياً قد مر من محطتين رئيسيتين؛ أولاهما مع مخاض تأسيس دولة الاستقلال، والتي أدمجت شقاً من جمعية العلماء المسلمين التي أسسها المرحوم بن باديس، ومن ثم من خلال القرار الاستراتيجي للمغفور له الشيخ محفوظ النحناح في مقتبل العشرية السوداء، والذي أفضى مع جهود الشيخ بن جاب الله إلى إدماج كلتا الحركتين الإسلاميتين في المنظومة السياسية، من خلال تواجدهما في الانتخابات المحلية والجهوية والبرلمانية والمجتمع المدني، وقد أفضت عملية الإدماج إلى تفرع أكثر من مكون من الحركتين الأصليتين ليناهز عددها اليوم 5 أحزاب، وأكبرها حركة حمس التي طالما مثلت كتلة برلمانية وازنة من موقعي الحكم والمعارضة. إذاً فإن كلا النظامين لا يرى بسيناريوهات الاستئصال، بل يتبنى مقاربات اندماجية. ولكنهما يطالبان من خلال مسارات الإدماج بانفتاح الحركات الإسلامية بشكل أو بآخر على قوى المجتمع وبيروقراطية الدولة، لتكون معهم جزءاً من كل، سواء كان ذلك في مركز الكل، وعلى رأسهم في الحالة التركية، أو في أطراف الكل وعلى هوامشهم في النموذج المعاكس في الجزائر. 

إذ إن حزب العدالة والتنمية التركي، على غير ما يفهمه أغلب الإسلاميين والعلمانيين في تونس على حد سواء، ليس حزباً إخوانياً في شيء، بل إن خلطة "العثمانيين الجدد" قد تأسست على أربع ركائز أو تيارات رئيسية هم: الإسلاميون، والليبراليون، والقوميون، وأكاديميون من أصحاب الأهواء المحافظة. وصحيح أن الخط الإسلامي قد حافظ طيلة العقدين الفارطين على رئاسة الحزب بقيادة أردوغان، إلا أن هذه التوازنات قد لا تتواصل طويلاً في المستقبل، أضف إلى ذلك أن هناك قناعة مشتركة، قد بدأت بعد انقضاء عشرية على الربيع العربي، بالانتشار بين أنظمة المنطقة الداعمة أو القابلة في حد أدنى بتواجد الحركات الإسلامية، في أن الإسلاميين غير مؤهلين أو قادرين على إدارة العملية السياسية من مركزها، مثلما عبّر عن ذلك صراحة رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم مؤخراً، ونفس المعنى متداول كذلك بكثافة وبنبرات وأنساق مختلفة في الحقل الأكاديمي في المنطقة منذ مدة.

إن كل هذه السياقات تجعلنا نتوقع أنه وفي سبيل الوصول بالمنطقة نحو تحقيق المصالحة الكبرى التي تتخذ طابع الهدف الاستراتيجي لدى تركيا والجزائر، فإنهما سترحبان بدفع الأدوار السياسية للحركات الإسلامية كقربان للتسوية نحو التحجيم أو التراجع وفقاً لمقاربة الإدماج التي ستنتج لهم، أو أن تسبق الحركة الإسلامية بإعادة التشكل الذاتي، وفق ما قد يكون مقبولاً من كل من النخب وبيروقراطية الدولة والرأي العام، وبالدرجة اللازمة التي تجعلها حاملة لمقومات نجاح الحزب السياسي الشعبي في صناعة الوثبة التنموية في البلاد. إذاً فالحركة الإسلامية في تونس ما زالت مخيَّرة بين أن تقدم تصورها الخاص لأنجع مقاربات الاندماج كعرض سياسي، أو أن تنتظر مقاربة الاندماج القسري التي ستُفرض عليها.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أيمن عبيد
كاتب وناشط سياسي تونسي
كاتب وناشط سياسي تونسي
تحميل المزيد