جاءت مشاهد قصة إبراهيم -عليه السّلام- موزعة على عدد كبير من السور المكية والمدنية، وهذا التوزيع لم يأتِ عبثاً وإنما جاء عن حكمة وعن قصد، نذكر منها ثلاث حكم:
1- كل مشهد من مشاهد قصة إبراهيم يصلح أن يكون قصة وحده، ويعطي العبرة المناسبة له، ولهذا جاءت مشاهد قصة إبراهيم موزّعة في ثنايا القرآن الكريم بهذه الصورة، بينما نجد مشاهد قصة يوسف -عليه السّلام- مجموعة في سورة واحدة؛ لأن هذه المشاهد مترابطة، ولا يمكن فصلها عن بعضها حفاظاً على الوحدة الموضوعية للسورة.
2- كل مشهد من مشاهد قصة إبراهيم -عليه السّلام- جاء في مكان وزمان نزولها، فمثلاً في السور المكيّة نجد المشاهد لها علاقة قوية بواقع الحركة الإسلامية، مثل حوار إبراهيم مع أبيه وقومه لإثبات بطلان عبادة الأصنام، وإثبات بطلان عبادة الكواكب والنجوم، وإثبات أن التوحيد هو دين الأنبياء جميعاً، وهذا يعني أن دين محمد (صلّى الله عليه وسلّم) هو نفسه دين إبراهيم -عليه السّلام- وهذا ردٌّ على العرب في مكة الذين كانوا يزعمون أنهم على دين إبراهيم، وهم يعبدون آلهة أخرى من دون الله، كالأصنام والكواكب والنجوم، وفي الوقت نفسه هم يحاربون دين محمد (صلّى الله عليه وسلّم).
نجد أيضاً في السور المدنيّة أن المشاهد لها علاقة بالواقع الجديد مثل تنازع أصحاب الديانات على ورثة إبراهيم، وبناء البيت، والأذان بالحج لإثبات أنّ الوراثة لإبراهيم وراثة إيمانية، وليست وراثة قرابة ودم، فإبراهيم تبرأ من أقرب الناس إليه، تبرأ من والده آزر، عندما تيقّن من كفره {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]، وعلى هذا فإن إبراهيم -عليه السّلام- بريء من كل الأدعياء المنتسبين له كاليهود والنصارى والمشركين {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67].
3- تناثر مشاهد قصة إبراهيم في ثنايا القرآن الكريم، يشير إلى أن إبراهيم -عليه السّلام- رمزٌ من رموز دعوة التوحيد وإفراد الله بالعبادة، ومعلَمٌ من معالم الطريق الحقّ، فينبغي أن يبقى هذا الرمز الداعي إلى التوحيد وإلى عبادة الله ومحاربة الشرك والكفر حاضراً في الذهن، لا ينساه المسلم أبداً؛ لأنه قدوته ومثله الأعلى، وهذا المعنى قصده القرآن الكريم حين قال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:41]، فهذا يشير إلى أن المعلومات الصحيحة المؤكدة عن إبراهيم هي الواردة في القرآن الكريم.
ولا شكّ كذلك فيما صحّ عن نبينا محمد (صلّى الله عليه وسلّم) من أحاديث صحيحة، بيّنت جوانب مشرقة من قصة إبراهيم عليه السلام.
إنَّ لإبراهيم -عليه السّلام- مكانة مميزة عند أهل الكتاب، سواء كانوا نصارى أو يهوداً، والذين كان لهم وجود في الجزيرة العربية بأشكال متعددة ومختلفة، سواء عبر وجودهم وإمكاناتهم المادية التجارية المختلفة كاليهود، أو عبر وجود كيانات ودول كبرى تدين بالنصرانية، وتجاور الجزيرة "الروم- الحبشة"، فاختيار إبراهيم كان يمنح حلقة وصل عميقة الجذور، لا بالعربي فحسب، بل بالعلاقات بين الأمم، وبالذات أمم أهل الكتاب التي كانت تعدّ نفسها أرقى من بقية الشعوب الأمية، والتي كان العرب من ضمنها.
ولا ننسى أنَّ العرب ينسبون أنفسهم إلى إبراهيم -عليه السّلام- عبر ابنه إسماعيل -عليه السّلام- الذي شارك أباه في بناء الكعبة، مَحجّ العرب عبر التاريخ والنسب عند العرب بالغ الأهمية، حتى إنهم كانوا يعدون من لا نسب له ليس عربياً، لذلك كان الخطاب القرآني مهتماً بسيرة جدّهم الأكبر إبراهيم -عليه السّلام- لتوصيل مفهوم التوحيد وإفراد العبادة لله عزّ وجل، ودعوتهم إلى الإسلام العظيم.
إنَّ قصة إبراهيم -عليه السّلام- في القرآن الكريم أصلية ولا وجود لها في التوراة أو في الكتابات الإنجيلية، من حيث الدقة والصواب والحقيقة الكاملة البعيدة عن التحريف والتزييف، ما زادها صفاءً ورسوخاً وعمقاً ضمن نسيج الخطاب القرآني المتميز، فهو كتاب الله العزيز {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}.
وبذلك، حاز إبراهيم الخليل -عليه السّلام- في الخطاب القرآني مكانة مميزة، فهو الذي قال فيه الله عزّ وجل، (البدارين، 1996، ص57).
– {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120].
– {وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51].
– {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4].
– {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124].
– {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130].
– {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:95].
إنَّ إبراهيم -عليه السّلام- هو خليل الله، وأبو الأنبياء وباني الكعبة الشريفة وتميز بصفات عظيمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.