لو أن المطربة أسمهان لم تمُت قبل الأوان، تخيلوا حجم المنافسة بينها وبين أم كلثوم على عرش الأغنية العربية. كانت أصغر من أم كلثوم بما يقارب الأربعة عشر عاماً، وتتفوق عليها في مقاييس الجمال، ولكن أم كلثوم تفوقت عليها بالذكاء وسرعة البديهة. صوتها كان ملائكياً، ولكنه كان هادراً كالرعد، تعيش في لحظات من الرهبة وأنت تستمع لها؛ لأنك تعلم أن صوتها، عاجلاً أم آجلاً، سيُدخل الروع على قلبك، ولكنك تشتهي تلك التجربة وتتوق لها وأنت تنتظر المقطع الذي يصل فيه صوتها الذروة (Crescendo)، وبعدها تتوه في عالم أثيري لا رجعة فيه. عندما أسمع أغنية الأطلال خلال قيادتي لسيارتي في شوارع عمان المكتظة، أحاول جاهدة استبدال صوت أم كلثوم بصوت أسمهان، وأسترسل في خيالاتي، وأستفيق دائماً على أصوات أبواق السيارات المصطفة خلفي عندما تلمع الإشارة الخضراء إيذاناً للسيارات بالانطلاق لوجهتها.
كلمة (Crescendo) كنا نكررها كثيراً، أنا ومجموعة من أصدقائي، والذين يصغرونني بأجيال، ويجمعنا حبنا لأغاني الزمن الجميل، كنا نتداول كثيراً هذه الكلمة عند سماعنا لأغاني أم كلثوم، واللافت للانتباه، أنني لم أتوقع أن يقوم بعضهم بتعريفي على مجموعة من أغاني كوكب الشرق، والتي قام الموسيقار العظيم رياض السنباطي بتلحينها، مثل الأطلال، والقلب يعشق كل جميل، ولسه فاكر؛ لأن استيعابي كان مقتصراً على الكلمات والألحان والأداء الصوتي الجهوري لأم كلثوم، من بداية الستينيات إلى منتصف السبعينيات من القرن الماضي؛ أي الفترة التي احتكر فيها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب والموسيقار العبقري بليغ حمدي الإمكانات الصوتية الباقية لأم كلثوم، وتناوبوا على تلحين الروائع لها، مثل حب إيه، وأنت عمري، وألف ليلة وليلة، وفكروني.
خلال سهراتنا الكلثومية، كنت أتساءل مع نفسي ومع أصدقائي الديجيتال: ماذا لو أن أم كلثوم جاءت إلى الدنيا متأخرة بثلاثين عاماً مثلاً، وسنحت الفرصة لمحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي ومحمد الموجي وكمال الطويل استغلال قدراتها الصوتية بكفاءة وفاعلية؟ تخيلوا مدى روعة الأغاني التي كانت ستغنيها بصوتها الشاب القوي، فبعد ما يقارب الخمسين سنة من وفاتها، ما زالت أغانيها تطرب الجميع بغض النظر عن الأعمار، وبالذات أغانيها التي قام بتلحينها الملحنون الشباب في عقد الستينيات من القرن العشرين، والذين كانوا القوى الدافعة وراء الموجة اللحنية الجديدة، آنذاك. ولا ننسَ أن موسيقار الأجيال نافسهم بقوة، بل كان يتفوق عليهم بالرغم من الفجوة العمرية بينهم.
والآن تخيلوا معي لو عاش العندليب الأسمر، عبد الحليم حافظ، لفترة أطول، فعند مقارنته بعمرو دياب، الذي يعتبر حالياً المطرب الأول في العالم العربي، ويبلغ من العمر 61 عاماً، وهو الآن في أوج نجاحه وشهرته، نستنتج مدى ضخامة أثر رحيله السريع.
كان عبد الحليم حافظ يصغره بعشرين عاماً عند وفاته؛ نتيجة إصابته بمرض تليف الكبد والبلهارسيا. هل كان سيستمر زخم إبداعات عبد الحليم، وهل كان ذلك سيصبح عاملاً رئيسياً في مواجهة موجة الأغاني الشعبية، والتي حمل لواءها، المغني أحمد عدوية، والتي حسب رأيي ورأي الكثيرين أدت الى تدهور مستوى الأغاني العربية، وبالتالي، استمر تأثيرها ليومنا هذا.
أهم نتائجها الكارثية، افتقاد عالم الغناء العربي للمبدعين، وخاصة في مجال التلحين، على مقياس بليغ حمدي، مثلاً، والذي كانت تتهافت عليه الجمل اللحنية بكثافة، بحيث إنه كان يضطر لتدوينها على ما يجده أمامه، أكان منديلاً ورقياً في مطعم، أو فاتورة في متجر، أو كم قميصه كما في إحدى المرات.
لنرجع للعندليب الأسمر، لو عاش لفترة أطول، هل كان أتقن غناء أغنية "من غير ليه" أكثر من ملحنها، محمد عبد الوهاب، وهل أغنية "هو اللي اختار" كانت ستصبح أوسع انتشاراً وشعبية من النسخة التي قام بغنائها المطرب هاني شاكر بعد وفاة عبد الحليم، والتي كان لحنها جاهزاً، وكان ملحنها بليغ حمدي ينتظر بفارغ الصبر رجوع عبد الحليم من رحلة علاجه الأخيرة إلى لندن، لكي يقوما بالتدريب عليها مع الفرقة الماسية، قبل غنائها في حفلة "شم النسيم". أظل أفكر، لو تمكن عبد الحليم من غناء العديد من الأغاني التي كانت شبه جاهزة قبل سفره، وكان رفاقه من الملحنين والشعراء وفرقته الموسيقية ينتظرون بلهفة رجوعه كعادته من رحلته العلاجية السنوية، ولكن الأقدار شاءت غير ذلك، هل كانت ستزيد من مخزون روائع الأغاني العربية الطربية التي نحن بأمس الحاجة لها في زمننا، لنتفادى سماع أغاني الأفلام والمهرجانات الهابطة؟
أما التساؤل الأخير الذي ظل يشغل ذهني لفترات متقطعة متكررة: لو تأخر موت الفنان والموسيقار عاصي الرحباني، هل كان سيؤدي إلى لقاء السحاب الثاني ما بين جارة القمر، المطربة فيروز والموسيقار بليغ حمدي (لقاء السحاب الأول كان ما بين أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب في أغنية أنت عمري)، لكن لماذا بليغ حمدي بالذات؟ جاءتني هذه الفكرة عند معرفتي أن من قام بتلحين أغنية "على رمش عيونها" للمطرب اللبناني الأصيل، وديع الصافي، كان بليغ حمدي.
وحصل ذلك بعد فترة طويلة من سماعي لها لأول مرة، وكانت صدمتي كبيرة ودهشتي أكبر؛ لأنه لون مختلف جداً عن أعماله الأخرى. لكن هذا الأمر ليس بغريب على ساحر الألحان، بليغ حمدي، فبالله عليكم ما العلاقة بين أغنية "حب إيه" و"تخونوه" و"على حسب وداد قلبي" و"ألف ليلة وليلة" و"قولوا لعين الشمس". جعلتني أغنية "على رمش عيونها" أقتنع بأن ذلك اللقاء كان سيصبح ضرورة حتمية لو أطال الله بعمر عاصي، ولكان صوت فيروز الملائكي وهو يتغنى بألحان بليغ المليئة بالشجن، قد وحد العرب من الشرق إلى الغرب، كما فعلت كوكب الشرق من قبلها، ولما استطاع ابنها زياد الرحباني احتكار صوت والدته، وبنفس الوقت، انشغاله عنه، وإهماله طيلة هذه السنوات، من أجل الغوص في مغامراته الغنائية الفردية التي تخدرك وتصعقك في آن واحد، من هول السخرية ومدى مشاعر اليأس والاستسلام فيها.
لسوء حظي، عندما بدأت بفهم واستيعاب معاني شعر كامل الشناوي ومحمد حمزة وأحمد شفيق كامل، والاستمتاع بألحان عبد الوهاب وبليغ والموجي والطويل، بدأت بالرحيل قافلة عمالقة الغناء والطرب العربي، واحداً تلو آخر؛ أم كلثوم ففريد الأطرش فعبد الحليم حافظ فمحمد عبد الوهاب فبليغ حمدي… إلخ. أما احتباس هطول الألحان الشجية الجذابة مستمر لأكثر من أربعين سنة، وأخشى ألا أشهد ظهور أسمهان جديدة أو حليم جديد، أو ألا يأتي بتاتاً بليغ جديد، فإنها الطامة الكبرى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.