أراه يتقافز على السور المحيط ببيتنا أحياناً، ويمشي في أحيان أخرى تحت شجرة القشطة والأسكدنيا مشياً، على النقيض من عادة الطيور صغيرة الحجم.. في بعض المواسم يلفت انتباهي شدوه الجذاب، وفي مواسم أخرى أسمعه يُطلق نعيقاً مزعجاً.. لونه بُني داكن يداخله رمادي يصبغ أطراف الجسد ورأسه الأسود، بساقين وقدمين صفراوين ومنقار يحمل اللون ذاته يتصل بحلقة لوزية الشكل تحيط بعينيه، يوشِّي طرف جناحيه من الخارج شريط أبيض.. أعداده كبيرة وتتزايد بشكل لافت من عام لآخر. لم يكن في قاموسي طائر اسمه المينا حين شرعت أشاهده في الشارع وبين أشجار الحديقة قبل ما يزيد على ستة أعوام، وألمحه يرفرف في المحيط.. فتارة يلتقط فتات الخبز وتارة أخرى يهاجم عصافير الدوري والشحرور الأسود في حديقتي.. دار في خلدي أن يكون هذا الطائر من الطيور المهاجرة التي تعبر فلسطين لبعض الوقت مهاجرة إلى مناطق أخرى.. إذن ما من مشكلة!
سألت ذات مرة: ما هذا الطائر الغريب؟ هل تعرفونه؟ وكنت آنذاك برفقة مجموعة من أصحاب الحقول الزراعية والمزارعين، قال لي أحدهم وهو مزارع من كفر قدوم: "نسميه في قريتنا "بلبل هندي"، طائر شديد الشراسة يهاجم طيور الحمام في مزرعتي رغم أنه أصغر حجماً منها، فيكسر بيوضها ويلتهم فراخها بوقاحة عجيبة، أسارع لطرده وإبعاده عن برج الحمام، ولكنه يعاجل بالعودة ما إن ابتعد.. هو ليس من طيور فلسطين أصلاً! بدأنا نراه في قريتنا بعد حريق جبل الكرمل في نهاية عام 2010 حين شاهدنا بأعيننا أسراباً منه تفرُّ من مناطق الشمال ناحيتنا أخذت تنتشر وتفرِّخ وتهاجم الأنواع الأخرى من الطيور!
مضيت أجري بحثاً سريعاً عنه، خاصة أن الحياة البرية في فلسطين تحوز على اهتمامي.. فكيف لطائر بات يحضر بقوة ها هنا، دون أن أعرف هويته ونشاطه؟ إنه لأمر غريب حقاً!
الطيور البرية في فلسطين
بالرغم من صِغر مساحة فلسطين مقارنة بمناطق أخرى من العالم (27027كم)، فإن سماءها تزخر بأنواع شتى من الطيور، بعضها يحلِّق على ارتفاعات شاهقة، وبعضها يتطاير قريباً من الأرض وفوق الأشجار ويكاد ينتشر في كل مكان ويتوزع على هذه المساحة الضيقة شديدة التنوع في التضاريس والمناخ والتربة، ويعود ذلك إلى وقوع فلسطين جغرافياً بين قارات العالم الثلاث: آسيا وإفريقيا وأوروبا، ووقوفها بمحاذاة البحر المتوسط، إضافة إلى وجود وادي الأردن في جهتها الشرقية، ما جعلها من المناطق شديدة الأهمية لهجرة الطيور من موائلها في الكرة الأرضية شمالاً، إلى أماكن هجرتها المؤقتة جنوباً عندما يشتد الطقس قسوة وبرودة.
ولكل موسم من العام في فلسطين طيوره وشقشقته التي تميزه عن غيره، رغم أن الفترة الواقعة بين أشهر فبراير/شباط ومايو/أيار هي أكثر فترات العام ثراء بالطيور ونشاطها، ويُلاحظ فيها وبشكل جلي طقوس التزاوج والتكاثر.
وبحسب المركز الفلسطيني للمعلومات، فإنه يوجد في فلسطين ما يقارب 500 نوع من الطيور يُصنفها خبراء الأحياء بأنها تنتمي لنحو 206 أجناس، وما يزيد على 65 عائلة، ونحو 21 رتبة.
وتُصنف طيور فلسطين لعدة أنواع، منها:
الطيور المقيمة (وهي التي تتكاثر وتربي صغارها، وتمضي فترة حياتها في هذه البلاد، وعددها يقارب المئة طائر).
ومن بينها الزائرة الشتوية (وهي التي تصل إلى البلاد ما بين شهري أيلول- كانون، قادمةً من أوروبا، وتغادر ما بين شهري فبراير/شباط – مارس/آذار، وهذه الطيور تضع بيوضها في أوروبا وتربي صغارها هناك، ولكنها تزور فلسطين شتاءً هرباً من شتاء أوروبا القاسي، ثم تعود إلى مواطنها الأصلية مع بدء حلول الربيع، ويوجد منها 100 نوع تقريباً).
ومنها الزائرة الصيفية (ويبدأ وصولها إلى البلاد ما بين شهري فبراير/شباط – سبتمبر/أيلول، ويأتي غالبيتها من إفريقيا، وبعضها من الهند، حيث تصل هذه الطيور فلسطين يافعة ولكنها تعود إلى مواطنها الأصلية لتتكاثر بعد أن تكمل مرحلة البلوغ، ومنها 72 نوعاً تقريباً).
وهناك أيضاً الطيور المهاجرة الحقيقية (وتعبر البلاد مرتين سنوياً في طريقها من أوروبا إلى إفريقيا ذهاباً وإياباً في مسار محدد، لتمكث أياماً أو أسابيع للاستراحة ثم تتابع الرحيل، ويتراوح عددها ما بين 100- 120 نوعاً).
أضف إلى ذلك مرور طيور عشوائية (والتي تزور البلاد في فترات غير منتظمة، وبلا مسار أو توقيت محدد، كما يكون ظهورها مفاجئاً واختفاؤها كذلك، وهي تتراوح ما بين 100 – 130 نوعاً).
طائر المينا وسلوك التغذية والتكاثر
نمط تغذية طيور المينا هو ما يحدد أماكن عيشه عادة، وهو ما يدفعه للعيش في المناطق السكنية والمزارع، حيث يشرع في التزاوج والتكاثر. يتغذى طائر المينا على الحشرات، والزواحف، والعناكب، والقشريات، والثدييات الصغيرة، والحبوب، والفاكهة، وبقايا الطعام والخبر التي يلقيها البشر.
طائر المينا يتمتع بقدرة عالياً على التكاثر، فكل زوج منه ينتج دورتين من الفراخ في الموسم، ويستمر موسم تكاثره من مارس/آذار إلى سبتمبر/أيلول، يعشش في الحدائق داخل تجاويف الأشجار والجدران، وفي الشوارع داخل فجوات أعمدة الإنارة وإشارات المرور ومكيفات الهواء.
يتعاون الأبوان في بناء العش من الأعشاب الجافة والأغصان والأوراق ومخلفات الإنسان، ويحدث في أحيان كثيرة أن يحتل زوجان من المينا عش زوجين آخرين، الأمر الذي يؤدي إلى اندلاع معارك عنيفة، يصبح العش بعدها ملكاً للزوج المنتصر. تضع الأنثى ما بين 4-6 بيضات لونها أزرق سماوي داخل العش، يحتضنها الوالدان لمدة تتراوح بين 13-14 يوماً، تفقس بعدها ويتولَ الوالدان رعاية الصغار وإطعامها، حيث بيَّنت الدراسات أن الوالدين يزوران الفراخ في العش بمعدل 22 زيارة في الساعة الواحدة لإطعامها.
وتصل الفراخ لسن الطيران بعد 18-25 يوماً تقريباً، ولكنها تبقى مع والديها لشهر آخر تتعلم منهما مهارات العيش.
طائر المينا، هل هو فلسطيني الهوية؟ وكيف استطاع الاستيطان في فلسطين؟ وكيف يؤثر في التوازن البيئي؟
ينتمي المينا لعائلة الزرزور.. وهي طيور نشيطة، اجتماعية، ودودة، ذكية، سريعة التأقلم في البيئات الجديدة. يسميه بعض مربي الطيور بالببغاء الرمادي. تتم تربيتها في أقفاص حول العالم لجمال تغريده وقدرته على تقليد الأصوات، حيث يمكن تدريبها على التحدث مع البشر، وتقليد أصواتهم، لدرجة أنه يمكنها أن تتعلم استعمال 100 كلمة بذكاء، ولذلك يختلف عن الببغاء الذي يقلد الأصوات فقط دون أن يستطيع تمييز معناها أو وقت استعمالها الصحيح؛ لذا يجأ البشر إلى تربيته والاستمتاع به. يوجد منه أنواع عدَّة لكل منها له سمات خاصة به، رغم وجود سمات عامة تجمع فيما بينها. يصعُب التفريق بين الذكر والأنثى لتشابههما في شكل الجسد، ويتواجدان معاً باستمرار. ويرمز طائر المينا للحب الخالد في بعض مناطق العالم مثل الهند؛ لأن علاقة الأزواج تدوم مدى حياة الطائر التي تتراوح ما بين 12-25 سنة.
له ساقان قويتان، وجسد جسور قادر على الهجرة لملايين الأميال بحثاً عن الغذاء..
موطنه الأصلي كان في دول العالم القديم: قارة إفريقيا ودول شمال شرق آسيا، رغم وجود أنواع منه استوطنت لاحقاً قارة أمريكا وقارة أستراليا، أما الآن، فينتشر في جميع دول العالم تقريباً؛ نتيجة هجرته الدائمة من مكان إلى آخر واستقراره في أي مكان يوفر له احتياجاته ويشعر فيه بالراحة، وبحثه الدؤوب عن الطعام؛ وبذلك تراه يختلف عن الطيور التي تهاجر من مكان إلى آخر في العالم نتيجة تغير الأحوال الجوية الموسمية في مواطنها، فتلجأ إلى الهجرة المؤقتة، ولكنها ما تلبث وتعود مرة أخرى بعد زوال هذه الأسباب.
يُعتقد أن كلمة "مينا" آتية من الكلمة الهندوسية (maina)، ومن الكلمة السنسكريتية مادانا (madana)، وتعني "مبهج ومحب للمرح".
يعتبر المهتمون بعالم الطيور البرية طائر المينا من الآفات، رغم أنه أحد أكثر أنواع الطيور انتشاراً في العالم، ووصل الحال بمنظمة البيئة العالمية أن صنفته من ضمن أكثر ثلاثة طيور إضراراً بالنظام البيئي.
تم نقله وإدخاله إلى مَواطن جديدة بقصد المكافحة البيولوجية، وذلك سعياً وراء مكافحة الحشرات التي نجح الطائر فيها نجاحاً باهراً، ولكنه في الوقت ذاته أخذ يهاجم الطيور المحلية الأصغر حجماً، واستطاع تهجير كثير منها واستنزف إمداداتها الغذائية! وهو ما لفت إلى حجم الخطر الذي أخذ يشكِّله على التوازن البيئي في المناطق الجديدة التي أخذ يستوطنها.
ويقفز إلى الأذهان السؤال: كيف وصل هذا الطائر الغازي إلى فلسطين؟
وبعد الرجوع إلى الأستاذ عماد الأطرش رئيس جمعية الحياة البرية في فلسطين وسؤاله عن هوية طائر المينا وكيف وصل فلسطين واستوطن فيها، تبين أنه بدأ إحضار المينا إلى فلسطين منذ ثلاثينيات القرن الماضي مع المهاجرين اليهود، داخل أقفاص للتربية في البيوت بسبب صوته الجميل وقدرته على تقليد الأصوات، ولكن بسبب سرعته في التكاثر، لم تعد الأقفاص البيتية تكفي الأعداد الضخمة التي أخذت تتضاعف بسرعة؛ لذا أخذوا يرسلون الأعداد الفائضة منه إلى حديقة سفاري رمات غان بعد أن تم إنشاؤها على أنقاض قرية الخيارية الفلسطينية، ومن هناك تسرب إلى البيئة وأخذ يعشش ويتكاثر.. وقد لوحظت بدايات وجوده في مدينة قلقيلية الواقعة على الخط الأخضر، ومنها تسرب إلى بقية مناطق الضفة الغربية.
وأجرى معهد العلوم التطبيقية في دولة الاحتلال- حيفا (التخنيون) دراسة كان من نتائجها أن عدد الطيور المحلية في البلاد في انخفاض حاد مقابل ارتفاع في عدد الطيور الوافدة من أقطار أخرى مثل تلك التي استقدمتها دولة الاحتلال من الشرق الأقصى (طيور المينا)، ويعود ذلك إلى تحويل مناطق طبيعية كثيرة لمناطق سكنية أو زراعية، وهو ما يلحق ضرراً بالعصافير الفلسطينية التاريخية مثل الدوري والبلبل والهدهد. وتشير الدراسة إلى وضوح التنافس بين الطيور المحلية الطيور الوافدة على الموارد المحدودة والتي ظهرت فيها الغلبة للصنف الثاني كونها أقرب للطيور الجارحة. وحذَّر الباحث من تبعات ذلك على جودة البيئة.
يتضح لنا في نهاية هذا المقال أن طائر المينا الذي سلطنا الضوء عليه هنا، لم يكن طائراً فلسطينياً ذات يوم، كما لم يكن من الطيور التي تعبرها زائرة أو مهاجرة أو حتى عشوائية.. بل طائر وافد.. تحصَّن في بلادنا وشرع يغير على الطيور المقيمة فيها ويفتك بها.. فإلى متى؟ ألا يجب علينا اتخاذ إجراءات عاجلة لعلاج الوضع المتردي وإنقاذ ما تبقى من طيور برية قبل فوات الأوان؟ ولم يتوقف الأمر عند طائر المينا بل تعداه إلى طيور أخرى أُحضرت بالطريقة ذاتها وباتت تُشكِّل خطراً على التوازن البيئي في فلسطين مثل ببغاء الدرة الهندية، والحباك الهندي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.