في أعقاب حادث الطلق الناري الذي شنه طالب أمريكي في مدينة أوفالدي بولاية تكساس قبل أسبوع، والذي أدى لمقتل 19 تلميذاً وبالِغَيْن بمدرسة روب الابتدائية، تساءل كثيرون عن أسباب تكرار هذا الهجوم، وخاصة في المدارس والجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذه المقالة المتواضعة محاولة لرصد الظاهرة، والكشف عن بعض أسبابها.
الحق الدستوري
تم التصديق على الدستور الأمريكي في عام 1787، أي في زمن لم يكن المواطن الأمريكي يستطيع أن يغمض له جفن دون تأمين نفسه أو أسرته بأي سلاح. ولهذا، تم تعديل الدستور للمرة الأولى في عام 1789 ثم مرة ثانية في عام 1791 ليضمن –في التعديل الثاني الشهير- للمواطن الأمريكي حق حماية نفسه بالطريقة التي تناسبه. ومن يزر أمريكا الآن يجدها في أغلبها إما مزارع مترامية الأطراف، أو غابات أو براري وصحاري لا أول لها من آخر، أو حتى مناطق سكنية على شكل ضواحٍ بين تجمعات أشجار كثيفة، فكيف كانت هذه البلاد قبل مئتي عام؟ من المؤكد أن التعديل الثاني كان صواباً في منح المواطن حق حماية نفسه، خاصة في ظل عدم قدرة السلطات الأمريكية في ذاك الوقت على فرض سيطرتها على كل هذه الأراضي الشاسعة.
ولكن، صارت الولايات المتحدة الأمريكية قوة عظمى، وباتت القبضة الأمنية بها في يد أجهزة على أعلى مستوى من التسلح والتدريب والجاهزية ومساندتها بأحدث الأجهزة من كاميرات مراقبة وبرامج تتبع إلكتروني وتلصص سيبراني.. إلخ… فهل بات من حق المواطن الأمريكي حماية نفسه بالطريقة التي تناسبه؟ لا أظن.
الحزب الجمهوري: داء عضال
يتبنى الحزب الجمهوري اليميني في الولايات المتحدة "أفكاراً متطرفة" تستطيع أن تلمحها -في رأيي- في قناة مثل "فوكس" الأمريكية التي تمثل منهجية الحزب في التخطيط والتنفيذ. ومن بين الأفكار التي يدعمها الحزب الجمهوري دائماً فكرة دعم تطوير السلاح، وإشعال المنافسة في تطويره وتوزيعه وبيعه خارج أمريكا، بل وإشعال حروب خارج أمريكا لتجريب الأسلحة الجديدة حتى تقتنع الدول الغنية التي لا تملك تكنولوجيا تطوير السلاح بضرورة شرائه بمليارات الدولارات من الشركات الأمريكية المنتجة. نتيجة هذه السياسة هي وفرة في المعروض من الأسلحة وزيادة فتك هذه الأسلحة يوماً بعد يوم. فإذا كان المواطن الأمريكي الذي كان يحوز سلاحاً قبل مئة عام في استطاعته قتل شخصين في الدقيقة الواحدة، فلديه الآن سلاح خفيف الوزن يستطيع من خلاله قتل ٣٠ شخصاً في نفس المدة الزمنية، ناهيك عن الأسلحة الرشاشة التي تقتل المئات في ثوانٍ معدودة. لكن هل من السهل الحصول على هذه الأسلحة؟
الأسلحة مثل الشوكولاتة
يمكن لأي شخص في أمريكا أن يدخل متجراً لشراء شوكولاتة، كما يمكن لأي شخص يبلغ من العمر ١٨ عاماً أن يدخل للمتجر ذاته وأن يشتري سلاحاً وطلقات نارية كيفما يشاء. وإذا أراد أن يشتري سلاحاً أو أكثر ولم يكن لديه الوقت الكافي للتسوق من متجر بجوار بيته، فهناك عروض أسلحة متعددة على متاجر أونلاين وبأسعار زهيدة بعضها لا يزيد عن ثمن موبايل أو حذاء رياضي أو جاكت جلدي. تدفع هذه السهولة في الحصول على السلاح كثيراً من الأمريكيين لشراء أسلحة متنوعة والتبديل بينها مثل تبديل الملابس.
ثقافة استخدام السلاح
في ظل هذا المناخ، لا نتعجب من أن الأطفال الذين ينشأون في أسر لديها سلاح بهذه الطرق ينشأون على عدم التخوف من استخدامه، خاصة أنهم يشاهدون ثقافة العنف هذه في معظم الأعمال السينمائية والتليفزيونية التي تُخَيِّل للمشاهد -الأمريكي وغير الأمريكي- أن استخدام الأسلحة أمر عادي وأن امتلاك سلاح للدفاع عن النفس أمر مشروع في أي مكان.
السلاح داخل المدارس والجامعات
بمقارنة الحوادث الشهيرة التي راح ضحيتها الكثير من الأرواح نجد أن أغلبها تمت إما في جامعات (مثل حادث جامعة فيرجينيا تك في عام 2007، الذي راح ضحيته 33 فرداً) أو في مدارس مثل حادث مدرسة ولاية تكساس الذي راح ضحيته 21 فرداً.. لماذا؟
المجتمع الأمريكي قائم على روح التنافس بين مواطنين وأجانب تعود أصولهم لدول وأديان ومذاهب وأعراق متنوعة، أي إنه مجتمع قائم على التنوع في الأفكار والرؤى. تدفع هذه الاختلافات إلى كثير من السلوكيات الخاطئة وأبرزها السخرية (التنمر) من الآخر لاختلافه في لون البشرة أو الديانة أو العرق.. إلخ… ورغم وجود هذه السخرية في كل الفئات العمرية، فإن متوسطي وكبار العمر يحاولون -بما اكتسبوا من حكمة وخبرة وبما افتقدوا من قدرة بدنية- أن "يبلعوا" السخرية التي قد توجه إليهم أو التمييز الذي يمارس عليهم.
أما الشباب في المدارس الثانوية والجامعات فلديه الحماسة الكافية والقوة البدنية لأن يتصرف بما يراه مناسباً؛ إما برد السخرية لفظاً أو باليد أو بالسلاح الذي قد يجده مجاناً في بيت العائلة أو بسعر زهيد في أي متجر أو أونلاين. ولا نتعجب هنا من أن هذا الشاب أو ذاك قد يكون مقتنعاً بقراره بقتل من يسخر منه -بحكم ما يسمعه عن قانونية الدفاع عن نفسه وبما يراه في الدراما. ونظراً لأن السلاح قد تطور أكثر من اللازم، وأن هذا الشاب أو ذاك لم يتدرب على إصابة هدف، فتراه يستخدم السلاح برعونة في قتل كل من يكون بجوار هدفه.
الاضطراب النفسي
كل الأسباب السابق ذكرها لا تنفصل عن انتشار الأمراض النفسية في الولايات المتحدة، خاصة بين الفئات المهمشة اجتماعياً والتي لا تقوى على تسديد فواتير العلاج النفسي الباهظة. فما الحل الذي يراه من يعاني من اضطراب نفسي يسخر منه بعض زملاء الدراسة أو العمل، وهو يرى السلاح في المتاجر بأسعار زهيدة، ويستمع لسياسيين ورجال قانون يشيعون ليلاً ونهاراً أن كل مواطن له الحق في الدفاع عن نفسه وامتلاك سلاح، في حين يشاهد أعمالاً درامية تنشر العنف ولا يخلو مشهد فيها من قتل أو ذبح، في ظل منافسة مجتمعية على الوظائف وفرص التعليم التي لا يرى في نفسه كفاءة تناسبها؟ قد يكون الحل في الانتحار أو قتل الغير أو كليهما.
قد توجد بعض هذه الأسباب في دول كثيرة، لكن وجودها مجتمعةً لا يتوفر -على حد علمي- إلا في الولايات المتحدة. ولذا، نجد إحصائيات القتل فيها مفزعة، إذ إنها هي الدولة المتقدمة الوحيدة التي تقترب فيها نسب القتل من دول يسود فيها الانفلات الأمني مثل بعض دول أمريكا اللاتينية أو دول تمر باضطرابات أمنية ناتجة عن حروب خارجية أو داخلية.
نهاية، أقول إن عرض الأسباب السابق ذكرها لا يعني أن الأمريكيين يذهبون للدراسة أو العمل أو أي نشاط آخر والسلاح في أيديهم، أو أنهم ينهون كل خلافاتهم بقتل بعضهم البعض، ولكني أنصح من يعيشون في الولايات المتحدة أو يخططون لزيارتها بما يقوله بعض الأمريكيين أنفسهم في سياق تجنب الخطر: "لا تعبث مع الأغبياء في وقت غبي أو مكان غبي" (وهذه ترجمة شبه حرفية).
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.