لا عجب أن تلمح عينك صحراوياً يبحث باستماتة عن فرصة تمكنه من الحصول على وثائق رسمية تعفيه من التضييق الأمني والترحيل، وفي حالات كثيرة من المعاملات المسيئة جراء إيقافه لعدم توفر مستندات تعريفية تثبت هويته في القارة الأوروبية.
ويرجع السبب الرئيس لحالة النكران الفجة لاستقبال صحراويي تندوف، لتبرم دولة الاستقبال لتسوية أوضاعهم القانونية كلاجئين على أرضهم، أو في الحد الأدنى السماح لمفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين بإحصائهم وتحديد هوياتهم وأسباب نزوحهم عن مناطق سكناهم المعتادة، سواء تعلق الأمر بهروب من توتر أو تهجير قسري من قبل شباب مغامرين ارتأوا شن حملة ترهيب ضد ساكنة آمنة قصد مساومة طرف نصرة للآخر.
أقامت هذه المجموعة الشابة مخيمات في صحراء الجزائر لتحقيق أهداف سياسية، كانت في رأيهم ممكنة التحقق، بدعم سخي ومساندة سياسية من دولة الاحتضان، غير أنه سقط سهواً من أذهانهم أن وضع أهاليهم وأبناء عمومتهم وكل من هجروه قسرياً من البلدات الحدودية بكل من جنوب المغرب وشمال موريتانيا ومالي، وكل من أغروه بجزيل العطاء من جنوب الجزائر؛ يحتاج إلى موقف قوي يحدد مركزهم القانوني في سياق اللاقانون.
فمنذ الحرب العالمية الثانية، وما خلفته من دمار ومن كلفة إنسانية وقتل وتشريد، اهتدت الإنسانية إلى خلق هيئات يتحدد اختصاصها في حصر وتقييد كل الذين قطعت الحروب والنزاعات وسياقات اللااستقرار أوصالهم، وأصبحوا عرضة للضياع، في عزلة من أي حماية دولية تضمن كرامتهم في الحد الأدنى، وعلى هذا المنوال، تولت المفوضية السامية لغوث اللاجئين عمليات إحصاء واسعة النطاق لأشخاص فقدوا كل شيء جراء الحروب والاقتتال بين الفاعلين الدوليين وغيرهم، وذلك بغية حمايتهم والاعتناء بهم والاستجابة لحاجياتهم الأساسية بشكل أدق.
وغير بعيد عن هذا السياق، تهافتت الدول والمنظمات الدولية على منح أقصى الحماية والرعاية للاجئين الأوكرانيين، وخضعوا لعمليات إحصاء وتدقيق هويات بدعم من دول الاستقبال لمعرفة ما ينقصهم وفيما يرغبون وتحديد ضرورياتهم واختيار مكان اللجوء ومراعاة شؤون تعليمهم وصحتهم وتوفير فرص العمل لهم، وهذا لعمري لا يدخل في خانة حسدهم على سرعة الاستجابة لتطلعاتهم وإنقاذهم من براثن الحرب المستعرة بين روسيا وأوكرانيا، بل لمحاولة فهم سياقات وظروف إهمال الآلاف من الصحراويين في صحراء قاحلة، حتى العقارب لا تتحمل العيش فيها!
إن ترك الصحراويين لوحدهم في صحراء الجزائر، سجناء لواقع قبلوه عن طيب خاطر منذ اللحظات الأولى لإنشاء تلك الغيتوهات، التي تضم الأشخاص الذين تم جلبهم بالقوة، أو من هجروا بالقوة، أو المختطفين من مناطق كثيرة بدول الجوار، مأساة بجميع المقاييس.
فالأمر يحتم علينا طرح أسئلة حول سبب عدم إحصاء الصحراويات والصحراويين الذين وصلوا لأرض الجزائر، منذ فتح أرضها لإيواء هؤلاء الأشخاص بذريعة حمايتهم، ما كان المانع؟ هل نرجح فرضية تقاعس المفوضية السامية لغوث اللاجئين عن القيام بدورها وفتح مكاتب لإحصاء القادمين إلى منطقة تندوف؟ أم أن السلطات الجزائرية اتخذت موقفاً حازماً من مسألة إحصاء الصحراويين، لكيلا تترك اليد الطولى للأمم المتحدة على شؤون المخيمات وقاطنيها، وبالمحصلة النفاد إلى الشأن الجزائري وتعقيداته بما يشمل فساد وتجبر قادته والمتحكمين فيه.
إن الترويج لفكرة مكة الثوار، لا يستقيم مع وجود آلاف من الصحراويين عديمي الجنسية في قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، متروكين لمصيرهم تحت قبضة زمرة من قطاع الطرق، لم يتوانوا في بسط سلطة زائلة على من يشتركون معهم اللحم والدم والتنكيل بهم ومحوهم عن وجه الدنيا، فقط لإظهار قدرتهم على ممارسة السلطة والتحكم بما في حوزتهم من محتجزين للحليف.
وقد برهنت تلك القبضة الحديدية لمخيمات تندوف، على أن القهر والترويج لأطروحات زائفة، وخلق عدو داخلي وهمي للتأسيس لمسلمات يحرم تجاوزها، غيب الوعي الجمعي عن سبق إصرار وترصد عن مناقشة مصائر ساكني المخيمات ووضعيتهم القانونية، وأوحى إليهم أنهم ينعمون فعلاً بحماية الحليف، وأن بيانات منظمات محدودة الأثر وعويل جمعيات مساندة النهب الصحراوي، كفيل بضمان حقوق أناس لم ينعموا بها حتى في وضع لجوء ملتبس وبائس.
فلا غرابة أن تصادف صحراويين بغيتوهات تندوف أو بدول المهجر يهتفون بحياة قادة الجزائر، ويعبرون عن جبروت قواتهم الأمنية وعن رعبهم من بطشهم، غير أنهم لا يقدرون على طرح أسئلة حول وضعهم القانوني بمكان لا يخضع لأية رقابة أممية أو وطنية تذكر !
وقد بينت إحصائيات رسمية لمفوضية شؤون اللاجئين أن دولة الجزائر استقبلت 9866 لاجئاً أو طالب لجوء في 2020 من 41 جنسية، عكفت السلطات العمومية على تسوية أوضاعهم القانونية وفق ما يقتضيه التزامها باتفاقية وضع اللاجئين لعام 1951، في حين ظل صحراويو تندوف في منأى عن اي إرادة جزائرية لمواجهة هذا الفراغ القانوني الذي يرهن حياة آلاف من الأشخاص الصحراويين، ويقتل أحلامهم وتطلعاتهم، ويصور احتجازهم غير الطوعي نضالاً ضد عدو، لا يوجد سوى في مخيلة عسكر قصر المرادية الذين شكلت لهم المملكة المغربية عقدة يصعب فكها بديناميتها وإرادة حاكميها في الانتقال ديموقراطياً، وتصفية تركة ماضي الانتهاكات الجسيمة، وتنمية كافة مظاهر الحياة لتشمل أقاليم الجنوب التي أصبحت تضاهي عواصم دول كثيرة من حيث ارتفاع مؤشرات التنمية البشرية وجودة الحياة والسلم الاجتماعي.
إن ربط منح اللجوء للصحراويين باعتبارات جيوسياسية، في إطار منافسة المغرب على الريادة الإقليمية، أمر مخجل للغاية؛ لأنه يمس بالقيم الإنسانية السامية التي على أساسها نناضل ونترافع؛ كي تتحقق لضمان حماية للبشرية جمعاء.
فلا غرابة، أن دفاع بعض النشطاء الصحراويين بتندوف، ليس نابعاً من إيمانهم بعدالة موقف الجزائر إزاء وضعية أسرهم القانونية في صحراء سِمتها لفظ أي شرط لاستنبات الحياة، بل من خوفهم الشديد على حياتهم وعوائلهم لما تواتر من قمع شديد لأجهزة أمن الجزائر لكل من سولت له نفسه طرح أسئلة وجودية حول مصير محتجزي غيتوهات تندوف، وإلى متى سيرهن مستقبلهم في غياب أي إمكانية للتعبير عن رأيهم، أو التواصل مع العالم الخارجي حول منحهم حماية دولية مشروطة بإجراء قبلي لإحصاء عبر تقنية الحوار الفردي لتحديد من هو الصحراوي الذي يحق له التمتع بحماية دولية في تندوف، ولكن قبل كل ذلك، يلزم العمل في اتجاه إقناع حكام الجزائر بأن الصحراويين محتجزون في غيتوهات طاردة لهم، وسط إغلاق محكم وحجر صحي صارم منذ 47 سنة، في غياب أي حل لوضعهم وخارج نطاق أي حماية دولية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.