في الأيام الصعبة التي نعيشها معاً باختلاف الطبقات الاجتماعية التي ننتمي إليها، ولعدة أسباب، تختلف في تأثيراتها علی الجميع، لا يعرف الإنسان كيف يهرب من الدولار المسعور الذي بات يأكل كل ما في جيوبنا. تتعرض جيوب المواطن المصري للإفلاس لأكثر من مرة في الشهر الواحد. وكل شخص منا بات عليه أن يقتصد بصورة أكثر حزماً أكثر من أي وقتٍ مضی، تحسباً لأي ارتفاع مفاجئ في سعر أي شيء، بغض النظر عن أن كل السلع ترتفع أسعارها في الكثير من الأحيان بلا أي سبب!
في زمن الدولار وعصر الحرب الروسية الأوكرانية التي تشبه صورة مصغرة من الحرب العالمية الثالثة التي نبدو مقدمين عليها، في عالمنا المجنون الذي لا يجد الناس فيه أي وقت للتعافي كُلياً حتی يشعلوا الحروب بينهم لأي سبب، أصبح الإنسان العادي الهادئ البسيط أكثر عرضة للأضرار أكثر من أطراف الحرب أنفسهم، بسبب العولمة ومفاهيم ما بعد بداية الألفية الثالثة، التي أسهمت في جعل العالم قرية صغيرة أصبح تأثير الحرب في النصف الثاني من العالم يتسبب في إفلاس المجتمعات الموجودة في النصف الأول منه.
- طب هو مفيش حاجة هترخص؟
- حاجات كتير هترخص هتبقى بسعر التراب، أنا وإنت والأستاذ وحضراتكم أجمعين!
"من فيلم الإرهاب والكباب- 1992"
- زمن غير الزمن!
في أيامنا الحالية يتعرض الجميع لمصطلحات متقعرة غير واضحة المعالم، تصطدم في كل فترة بوجود خصم جديد في حياتك. في الوقت الحالي يمنح الجميع تهمة إفساد الحياة العامة والغلاء في المعيشة للدولار الأمريكي، الذي يساوي 20 جنيهاً مصرياً. كلما زاد سعر أي شيء في السوق أسأل عن السبب، بالرغم من أن الإجابة مُعلبة وجاهزة للاستخدام: الدولار هو السبب. وبالرغم من أن زيادة أسعار أساسيات الحياة من طعام وشراب وأغذية ومستلزمات، وصولاً للبنزين والسولار والشاي والقهوة تنبع جزئياً من اضطراب صرف سعر الدولار بالجنيه المصري، لكن المنتفعين من كافة الجهات يقومون بزيادة الضغط واستخدام أسوأ الحيِل للخروج من أي أزمة بأقصی استفادة.
بالإضافة لوجود عقلية استهلاكية نشأت بالتوازي مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بيننا، رسخت في أذهان الجميع وجود نمط حياتي واحد ثابت ومثالي، يشمل توثيق أجمل اللحظات بأنقی صورة في أفضل مكان، ونحن نحصل علی أكثر الخدمات جودة، فإننا نقع جميعاً تحت نفس الضغط الاجتماعي الذي يُشكل عبئاً إضافياً علی إمكانياتنا المادية، والذي يدفع الجميع بجنون لمحاولات الخروج عن الطبقة الاجتماعية الحالية للوصول لأخری أعلی، مهما كانت الطرق ومهما كانت النتائج المترتبة علی هذا.
في سنوات العشرينيات التي أحياها أنا وجيلي حالياً يعيش كل شخص منا بعد انتهاء سنوات الدراسة غير المفيدة لنا باختلاف الشهادات، نتيجة تعرض أسواق العمل والمال لمعايير عملية مختلفة عن تلك النظريات التي درسناها وحفظناها في المدارس والجامعات. أعمل يوميا لأكثر من 12 ساعة، أحاول تعلم لغة جديدة ومهارة تقنية مختلفة للمساهمة في فتح باب عمل آخر لي لزيادة دخلي. في البداية كنت أظن أنني وحدي من يفعل هذا لإدراكي ضرورة مواصلة التعلم ومواكبة العصر التكنولوجي الحالي، ولكني أدركت فجأة بالتواصل مع عدة زملاء وأصدقاء أن كلنا نفعل نفس الأمر، كلنا نحاول زيادة دخلنا بصور مختلفة، وكل شخص منا يدرك مدی صعوبة الأيام القادمة في ظل الركود الاقتصادي العالمي الذي نعيش فيه.
حينما كان والدي في نفس عمري كان رجلاً متزوجاً ولديه طفلة، يمتلك وظيفة براتب جيد وبيت وزوجة وطفلة، أما أنا في نفس المرحلة العمرية فإنني أركض يومياً بلا راحة للحصول علی ما يغطي مصاريفي الخاصة، وتكاليف شراء كتب جديدة، وتجديد باقة الإنترنت التي يتم استهلاكها في البحث عن طرق جديدة لمواجهة تحديات العصر الحالي.
حينما أتحدث مع أشخاص يملكون ضعف عمري وتجاربي الحياتية يقولون لي الزمن غير الزمن، والدنيا صارت غير الدنيا التي عشنا فيها يوماً ما، زمنكم صعب.
لا تبدو جملة فيلم "الإرهاب والكباب" بعيدة جداً عن زمننا الحالي رغم مرور 30 عاماً تقريباً علی كتابتها وتصويرها في الفيلم، تبدو كل الأشياء في العصر الحالي غالية الثمن، بينما قيمة الإنسان تتناقص بسبب محاولاته في بناء ثروة علی أنقاض الإنسان الأكثر فقراً منه، من خلال الفوز بعدة جنيهات نتيجة احتكار سلعة ما لبيعها بضعف الثمن.
"نحن نعيش في عصر التفاهة، حيث حفل الزفاف أهم من الحُب، ومراسم الدفن أهم من الميت، والمعبد أهم من الله".
- الكاتب الأوروغوايني إدواردو غاليانو، الحياة في عصر المبالغة
يمكننا تأويل مقولة غاليانو بأكثر من صورة لتناسب الوقت الحالي الذي نعيش فيه، فالبرغم من كل ما نعانيه في ظل الأزمات الاقتصادية الحالية فإن مجتمعنا مازال متمسكاً بكل مظهر مبالغ فيه، يعتمد علی البذخ والإسراف بلا تعقُّل، فقط من أجل الحفاظ على العادات والتقاليد.
مازلنا ننفق مئات الآلاف في تحضيرات الزواج للحصول علی إشادة من يزورون بيوت العروسين، بلا أي اهتمام حقيقي بمدی توافقهم مع بعضهم البعض، ومازلنا نصرف آلاف الجنيهات في تكاليف الجنازات، ونجلب أفخم المتعهدين في ترتيب مظاهر العزاء، بلا أي نظرة حقيقية لمدی فائدة الأمر للميت، مازلنا نحاول التقاط أفضل صورة لحياة باهتة شديدة البؤس، فقط لنقوم بوضعها علی مواقع التواصل الاجتماعي، وكتابة جملة مقتبسة من كتاب أو فيلم جميل لنُظهر للآخرين أننا نعيش مثلهم، بالرغم من أننا يجب أن نعيش كما نريد نحن فقط، مازالت العادة تأسرنا وتضعنا داخل معضلة الفيل في الغرفة التي تجعلنا نحاول تجنب أكبر معاركنا ومشاكلنا، في سبيل الحصول علی أشياء ظاهرية شديدة السطحية، متجنبين حقيقة أزمة وجود فيل عملاق في غرفة ضيقة، يُشكل الفيل هنا أزماتنا نحن الحقيقية، مشاكلنا المادية والنفسية التي نتجاهلها يومياً، فقط لتمضية اليوم الشاق في عمل لا نحبه في سبيل الحصول علی أشياء لا نريدها، لإرضاء أشخاص لا نهتم بهم من الأساس.
في الوقت العصيب الذي لا نتمكن من تجاوزه إلا ونجد أنفسنا داخل وقت أكثر صعوبة منه يجب علی كل شخص ترتيب أولوياته، ومعرفة ما القيمة الحقيقية لكل شيء يريد الحصول عليه، ما الفائدة التي ستعود عليه من شراء هذه السلعة أو زيارة هذا المكان أو استخدام هذه الوسيلة، يجب إعادة النظر في كل نمط حياتي اعتدنا عليه، وكل عادة تحكمنا تتسبب في الإثقال على اكتافنا المتعبة في الأساس من الأعباء الضرورية.
ربما يجب علينا خلق تعريفات جديدة للإنسان العصري أو إنسان عصر الآلة، ليشمل التعريف وجود عبارة أن الإنسان العصري هو من يعرف ما يريده بوجه الدقة، فيبذل ما في وسعه للحصول عليه، ويعرف ما لا يحتاج إليه بشكل ضروري فيتخلی عنه، ويعرف أن الآلة ليست هي الوسيلة الوحيدة التي قد تساعده، فيُعيد تهيئة نفسه وزيادة مهاراته ليصبح أكثر فاعلية من الآلة نفسها. يجب علی من يعيش في عصرنا الحالي داخل العالم الثالث المليء بالمشكلات أن يدرك أن نجاحه في محاولة ترتيب الأولويات هو أهم نجاح له، وأن قيمته وفائدته لن تزيد بالصورة الذهنية المأخوذة عنه من خلال الصور العديدة عالية الجودة، بل من قيمته في حياته الواقعية، من محاولاته الدائمة في الارتقاء بنفسه في محيط عمله ومحيط دائرته الاجتماعية، بالبحث الدائم عما يجعله أكثر دعماً لمن حوله.
لأن الإنسان ليس نتاج عاداته السيئة أو عادات مجتمعه البالية الموروثة شعبياً نتيجة الجهل أو عدم إدراك القيمة الحقيقية، بل إنه نتاج إعمال عقله هو فقط وما ينتجه هذا العقل من قرارات تنقذ صاحبه من أزمات عالمية في عصر الغلاء وحروب البترول والدولار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.