تشكّل "مسيرة الأعلام" في القدس المحتلة العنوان الملح لمفهوم "السيادة" لدى سلطات الاحتلال، فعلى الرغم من مضيِّ 55 عاماً على احتـلال الشطر الشرقي من القدس، ونحو 74 على احتلال شطرها الغربي، ما زالت "إسرائيل" تحاول السيطرة على القدس عبر مسيرات لمستوطنيها، ورفع حجم الاعتداء على الأقصى في مناسبة وطنية تدعي أنها التي سمحت لها أن توحد "عاصمتها الأبدية" في إشارة إلى القدس المحتلة.
ومع اقتراب ذكرى "توحيد القدس" بالتقويم العبري في 29/5/2022، صعّدت أذرع الاحتلال الأمنية استعداداتها لحماية مقتحمي المسجد الأقصى والمشاركين في "مسيرة الأعلام"، فقد قامت بنشر آلاف عناصر الشرطة الإسرائيلية في شطري القدس المحتلة، وأعلن جيش الاحتلال أنه استنفر وحداته الأمنية، إلى جانب تفعيل القبة الحديدية خشية من تدخل المقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة على مسرح الأحداث، خاصة أن المقاومة حذرت الاحتلال من إتمام المسيرة.
ونتناول في هذا المقال، خلفيات إصرار الاحتلال على المضي في "مسيرة الأعلام"، وأنها ستمر عبر مسارها من الشطر الغربي للقدس وصولاً إلى ساحة باب العامود، ومن ثم إلى حائط البراق مروراً بالحي الإسلامي، مع تقديم بعض المحطات القريبة للمسيرة وما رافقها من تجييش واعتداء.
ما هي المسيرة وكيف بدأت؟
تُعد "مسيرة الأعلام" محطة سنوية لدى الاحتلال وأذرعه المختلفة، وعلى الرغم من أنها ليست المسيرة الوحيدة التي يتم تنظيمها في القدس المحتلة، إلا أنها المسيرة المركزية، سواء من حيث عدد المشاركين فيها، أو المسار الذي تمر فيه، ما بين شطري القدس المحتلة. وتنظم هذه المسيرة في ذكرى "توحيد القدس" بالتقويم العبري، وهو اليوم الذي احتلت فيه قوات الاحتلال الشطر الشرقي من القدس المحتلة، على إثر حرب حزيران/يونيو 1967.
ويصل عدد المشاركين فيها في بعض السنوات إلى نحو 30 ألف مستوطن، ما يعني أنها من أكبر التجمعات الاستيطانية غير الدينية التي تجري في القدس المحتلة، وإلى جانب شتم العرب والمسلمين، والتصرفات الاستفزازية، تعد "رقصة الأعلام" في باب العامود أبرز مظاهر المسيرة. وعلى الرغم من أن المسيرة كانت تنتهي في سنوات ماضية في ساحة باب العامود، إلا أن مسار المسيرة امتد من باب العامود إلى ساحة البراق مروراً بالحي الإسلامي، ما يرفع من إمكانية استفزاز الفلسطينيين بشكلٍ أكبر وفي تماسٍ مباشر.
المسيرة واحدةٌ من شرارات معركة سيف القدس
كانت "مسيرة الأعلام" في عام 2019 آخر مسيرة نظمها المستوطنون، ففي عام 2020 لم تنظم المسيرة بفعل تداعيات جائحة كورونا، أما في عام 2021 فقد أربك تدخل المقاومة الفلسطينية المسلحة على خط الأحداث في القدس المحتلة مستويات الاحتلال الأمنية، فقد حذرت فصائل المقاومة من استمرار الاعتداء على المسجد وحي الشيخ جراح وإقامة "مسيرة الأعلام"، وقال أبو عبيدة، الناطق باسم كتائب "عز الدين القسام"، في 10/5/2021 عبر قناته في "تليغرام": "قيادة المقاومة في الغرفة المشتركة تمنح الاحتلال مهلةً حتى الساعة السادسة من مساء اليوم لسحب جنوده ومغتصبيه من المسجد الأقصى المبارك وحي الشيخ جراح". وعلى إثر انتهاء مهلة المقاومة وعدم تراجع الاحتلال، قصفت المقاومة القدس المحتلة والمستوطنات في غلاف غزة برشقات صاروخية، ما أدى إلى إلغاء المسيرة.
وعلى إثر منع الاحتلال إقامة المسيرة في 10/5/2021 بالتزامن مع "يوم القدس"، أعلنت "منظمات المعبد" في 4/6/2021 أنها ستعيد تنظيم المسيرة يوم الخميس في 10/6/2021، وأعلنت أن مسارها سيكون بالقرب من أبواب العامود والساهرة والأسباط، على أن تتوجه أخيراً إلى حائط البراق. وعلى إثر الإعلان بدأت أذرع الاحتلال بمناقشة أثر المسيرة على الصعد الأمنية، فقد ألغتها شرطة الاحتلال تحسباً من أن تتحول إلى شرارة تصعيد للهبة الفلسطينية، ونتيجة مطالبات اليمين المتطرف بتمريرها، قرر المجلس الوزاري المصغر "الكبينت" تأجيلها إلى يوم الثلاثاء في 15/6/2021.
وفي محاولة لاستشراف مآلات الحدث في حال تنفيذ مسيرة استيطانية في القدس المحتلة، ففي 9/6/2021 نظم مستوطنون مسيرة استفزازية شارك فيها عشرات المستوطنين، جابت طرقات البلدة القديمة، بحماية مشددة من قوات الاحتلال، التي أجبرت التجار المقدسيين على إغلاق محالهم التجارية، على الرغم من أن أعداد المشاركين فيها كانت قليلة جداً. وعلى أثر تأجيل المسيرة مرتين والنقاشات الأمنية والسياسية، شددت قوات الاحتلال انتشارها في شوارع القدس وأزقتها في 15/6/2021، وحولت البلدة القديمة إلى ثكنة عسكرية، مغلقة عدداً من الشوارع بالحواجز المعدنية، ومنعت الفلسطينيين من الدخول إلى هذه الشوارع، واعتدت على المقدسيين الذين عملوا على عرقلة المسيرة، واعتقلت قوات الاحتلال عدداً منهم، وأشارت معطيات مقدسية أن عدد المشاركين في المسيرة قليلٌ جداً في المقارنة مع المسيرات التي جرب خلال الأعوام الماضية، وأن أكثر من 2500 عنصر أمني شاركوا في تأمين الحماية للمشاركين في المسيرة، وقد استطاع المقدسيون حينها إشعال عددٍ كبير من نقاط المواجهة داخل شوارع القدس المحتلة، ما أجبر الاحتلال على أن تكون المسيرة مقتضبة، وألا تستمر أكثر من ساعة واحدة.
لماذا تصر حكومة بينيت على المسيرة ومسارها؟
تشكل ذكرى "يوم القدس" بالتقويم العبري في 29/5/2022 محطة بالغة التصعيد في القدس المحتلة، خاصة أن المقاومة الفلسطينية منعت المستوطنين من إتمام المسيرة في العام الماضي، ما دفع المنظمات اليمينية لممارسة المزيد من الضغط على حكومة الاحتلال لإقرار المسيرة. ففي 18/5/2022 أعلن وزير الأمن الداخلي في حكومة الاحتلال عومير بارليف، أن "مسيرة الأعلام" ستتم ضمن مسارها الاعتيادي، على أن تصل إلى باب العامود، ومن ثم إلى حائط البراق المحتل مروراً بالحي الإسلامي. وعلى إثر قرار سلطات الاحتلال، ذكرت مصادر فلسطينية أن فصائل المقاومة نقلت عبر وسطاء رسائل تحذيرية إلى الاحتلال، بأن إقامة "مسيرة الأعلام" سيكون لها عواقب وخيمة.
ويشير متابعون إلى أن إصرار سلطات الاحتلال على المضيّ في المسيرة على الرغم من رسائل المقاومة، ومن التدخل الأمريكي الذي طلب تغيير مسار المسيرة، ما هو إلا محاولة للالتفاف على قواعد الاشتباك التي فرضتها المقاومة على أثر معركة "سيف القدس"، وإرضاء لليمين المتمثل بـ"منظمات المعبد". ولا يمكن فهم الإصرار على المسيرة من دون المرور بالظروف التي مرت على دولة الاحتلال في العامين الماضيين، خاصة التشظي السياسي الكبير وإمكانية انهيار حكومة الاحتلال الحالية، وإلى جانب هذا العامل، يمكن إعادة الإصرار الإسرائيلي على المسيرة إلى مجموعة من العوامل المتشابكة، أبرزها:
– التضعضع الحكومي الحالي، فالائتلاف الحاكم في دولة الاحتلال يمكن أن ينهار في أي وقت، وكان من الممكن أن ينفرط عقده عدة مرات في الأشهر القليلة الماضية، وآخرها استقالة عضو "الكنيست" غيداء الزعبي ثم عودتها عن الاستقالة.
– كسر قواعد الاشتباك التي فرضتها المقاومة الفلسطينية على أثر معركة "سيف القدس"، التي كرست تحول القدس وقضاياها المختلفة إلى عنوان أساسي على أجندة المقاومة المسلحة، ما فتح المجال أمام الأخيرة لتكون قادرة على التدخل في تفاصيل مجريات الأحداث في القدس المحتلة، وهو ما تريد سلطات الاحتلال إنهائه والعودة إلى المربع السابق، بألا يكون للمقاومة أي تدخل مباشر فيما يجري في المدينة المحتلة، وينحصر اهتمامها في قطاع غزة فقط..
– التراجع المتكرر للحكومة، إذ اضطرت حكومة الاحتلال أن تتراجع في عدد من القضايا المتعلقة بالقدس المحتلة، إن في قضية مسيرة الأعلام في شهر رمضان، أو في قضية قرار محكمة الصلح الإسرائيلية حول تشريع السجود الملحمي -ولو كان التراجع صورياً- ما أثار غضب اليمين المتطرف، الذي يريد من هذه الحكومة أن تنفذ أجنداته الكاملة.
– الفشل الأمني الكبير الذي منيت به الأذرع الأمنية الإسرائيلية، منذ معركة سيف القدس، وهو فشل عمقته العمليات النوعية التي تصاعدت في الأشهر الأولى من عام 2022، ما يعني أن هذه الأذرع ستحاول أن تعيد فرض سيطرتها وقدرتها على إدارة مشهد المواجهة مع الفلسطينيين، وتحقيق انتصار ولو مؤقت، على الرغم من تدخل المقاومة المباشر على خط الأحداث. وقد أشار متخصصون في الشأن الإسرائيلي إلى جانب شخصي لدى المستوى الأمني، متمثل في رئيس الأركان الإسرائيلي الحالي موكاخي، الذي يريد إنهاء مسيرته في رئاسة الأركان بنصر يبدد الإخفاقات المتتالية التي مُني بها.
– تصاعد اليمين الإسرائيلي وحضوره في قضايا الشأن العام داخل دولة الاحتلال، وتحولهم إلى تكتل ضغط، يخطب السياسيون الإسرائيليون ودهم، وهو ما يدفع الحكومة الحالية للتماهي بشكل أكبر مع هذه المنظمات والجماعات.
– فرض السيطرة الإسرائيلية على القدس، وعلى الرغم من العنوان الفضفاض، الذي يحمل في ذاته فشل الاحتلال في كثير من التفاصيل، إلا أن "السيادة" الإسرائيلية تصبح محمومة في قضيتي المسجد الأقصى والعلم الفلسطيني.
أخيراً، ما يجري من استعدادات لدى الاحتلال، يرقى لأن يكون نذر حرب قادمة، تؤكد أن أي مواجهة مع الاحتلال، ستدفع إلى المزيد من تعقيد المشهد، خاصة أن الحالة العربية المترهلة والتطبيع العربي مع الاحتلال يستمران بشكل مؤسف، إضافةً إلى أن المسار الذي تقوده السلطة الفلسطينية ما زال متأزماً وغير قادرٍ على أي فعل مباشر في وجه الاحتلال، ما يفتح المجال أمام اللاعبين الأكثر تأثيراً في المشهد حالياً، الجماهير الفلسطينية وما يمكن أن يُحدث تفجيرها لهبة شعبية ضخمة، والمقاومة الفلسطينية المسلحة التي كرست القدس والأقصى عناوين مواجهة واشتباك، لن تتراجع عنهما أمام صلف الاحتلال وعنجهيته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.