يعد تصريح الشيخ أحمد كريمة الذي خرج به قبل أيام من أن الزوجة الأولى يجب أن تعين الزوج المغترب على الزواج بثانية، إذا أراد أن يعف نفسه كي لا يرتكب فاحشة، وأن استئذان الزوجة الأولى قبل الزواج بالثانية لم يرد في الشريعة الإسلامية، مثال جاء في وقته للميل المرفوض، وللتحيز في الاجتهاد الفقهي.
فكل مدة تتحرك قضية مما يخص الحياة الزوجية، فيستغلها بعضهم ويروج لأفكار اجتهادية متحيزة، كان ينبغي أن تُراجع وتبدل بدل نشرها وتعميمها.
وما فعله الشيخ خير مثال على ما أقصده؛ حيث أثيرت قضية "غياب الزوج بسفر وبقاء زوجته وحيدة"، وأصبح الزوج هو الضحية الذي يحتاج لدعم ورعاية ومراعاة لحاجاته، ولنتابع الأسلوب المستخدم لإقناع المجتمع، والضغط على المرأة لترضخ:
بدأ كريمة بمقدمة جميلة فيها قيمة كبيرة: "الإسلام يهدف لإشاعة الطهارة وعفة الإنسان، فلماذا نرفض الطهارة ويلجأ الإنسان منا للأمور المحرمة شرعاً"، وهكذا يسترخي السامعون والسامعات، ويطمئنون، فيملي عليهم ما يشاء من أفكار، وما يختار من الفتاوى والآراء فيفوت الكثيرون والكثيرات ما وراءه من الميل لصالح الرجل.
وهكذا هو الخطاب الديني الموجه للمرأة، يبدأ بعبارات مخدرة مثل الإسلام كَرَّم المرأة (وهو حق)، ثم ينتقل لنتائج معاكسة، وينحاز باستمرار لطرف، ويغبن الطرف الآخر غبناً بَيِّناً وفاحشاً، وإن تصريح الشيخ الأزهري كريمة بأن "الزواج الثاني يحمي الرجال من الوقوع في الفاحشة"، مثال حي واضح على التحيز المرفوض، والميل الواضح الصارخ لمصلحة الرجل وتقدير تعبه ومشاكله وهمومه، والمثابرة على الدفاع عن حقوقه، وبالمقابل: "ليس فقط إهمال حقوق المرأة"، وإنما: "إهمال لحاجات الإنسانية الأساسية للمرأة المذكورة فيها والتي تحتاج لإشباع مستمر، وأقصد حاجاتها: كإنسان، يحس ويشعر ويرغب ويريد ويستحي أن يطلب". فنجد الفتاوى تحصر الحاجات بالرجل: وكأنه هو فقط الذي له رغبة، وهو الذي يحتاج للعفة؟!
وكيف غفل الشيخ عن أصل المشكلة: "فالرجل هو الذي ترك زوجته وحيدة وسافر"؛ فهو المخطئ وهو الذي هجرها، فكيف يُبرر للرجل حاجته للزواج، ويدفعه له. ولا يفكر بالمرأة؟! والسؤال: لماذا لم يأخذها الزوج معه في سفره؟
قد تقولون الظروف لا تسمح!
وهذا ليس جواباً، فإذا كان الزوج لا يستطيع الحضور، ويملك المال ليتزوج بأخرى: فكيف لا تكون لديه القدرة على استقدام زوجته بشكل دائم، أو في زيارة مؤقتة؟
وحين يعف الزوج نفسه بزواج ثانٍ، ويطمئن ويرتاح ألا تعتقدون أنه سيسترخي، وينسى حاجات زوجته الأولى، فهكذا طبيعة الرجال، وإذا لم يحثهم أحد ويذكرهم، سيعتبرون الصبر من شيم المرأة وأنها تصمد وتتحمل، وليس الواقع هكذا.
وهل فكر الشيخ بفقه المآلات؟
1- فعندما ينتهي عمل الزوج بتلك البلد ويعود لوطنه، أو ينتقل عمله لدولة ثالثة، فماذا سيصنع بالزوجة الثانية، هل سيهجرها هي الأخرى؟ ويتزوج من ثالثة؟
2- وإن زواجه الثاني سيحزن الأولى ويؤلمها، ومع طول سفره فإن البعد سيؤدي لجفوة، وهذان سببان قويان لتوسيع الهوة بينهما، وقد يتحول لبغضاء ونفور، ولطلاق.
وهناك سؤال يلح كثيراً: "لماذا نضع الزوجة الضعيفة بين خيارين فقط: (1) زوجة بالحلال (2) أم عشيقة بالحرام؟".
فهناك خيار ثالث وضعه الله: وأن تصبروا خير لكم.
وكيف تنتظرون من الزوجة التي توصف بالضعف أن تصبر، وتتقبلون من الرجل الذي يوصف بالقوة وتغلب عقله على عاطفته، ألا يطيق صبراً؟
وإن الفقير يصبر على الجوع، والمريض يصبر حتى يشفى. والشاب الأعزب أُمر بالصبر ثم يقولون للرجل الذي له زوجة تعفه: اكسر قلبها وتزوج عليها، جزاءً وفاقاً لأنها حملت المسؤولية عنك، وغطت غيابك، وبقيت وفية لك.
النقطة الثانية، وإن الخطاب الذي يوجه للمرأة كثيراً ما يكون صادماً لأنه يخالف العرف السائد، ولا يناسب الزمن، وغالباً ما يكون قاسياً: حيث يُحرض الطرف القوي على الضعيف، فيزينون للزوج الأنانية، والاهتمام بحظ النفس على حساب المودة والمرحمة، فيتابع كريمة: "استئذان الزوجة الأولى بالزواج الثاني سواء أكان مقيماً أو مسافراً لم يرد به نصاً في الشريعة الإسلامية"؟!
وسؤالنا للشيخ: "وهل ورد عكسه؟!"، بل إن ما ورد في الشريعة يحث على التقارب والسكينة؟
ويتابع كريمة: "وفي هذا الباب قد يكون عدم علمها فيه مصلحة للأسرة حتى لا يحدث ما نسميه الصراع الأسرى الذي يؤدي إلى الطلاق"، يعني الشيخ يَعْلم نتائج فكرته، ولكنه يحرض الزوج، ويشجعه على الكذب (فالزوجة لا بد أن تعلم في يوم قريب). ولهذا يجب أن تتنبه النساء وتحذر؛ لأن هذه الفتاوى فيها تخبيب مباشر للزوج، وتحريض، وإفساد للبيوت الآمنة المطمئنة.
وذراً للرماد بالعيون يضيف الشيخ جملة لا قيمة لها البتة، ولا تحقق للزوجة أي فائدة: "لكن يجب مراعاة كافة حقوق الزوجة الأولى"، فكيف سيراعي الرجل "كافة" وانتبهوا "لكافة" حقوق الزوجة وهو هاجرها في بلد آخر، وهي محرومة من وجوده ومن العلاقة، ومن المسامرة وهو مُكفى جسمياً وجنسياً ومعنوياً؟!
وهل الزوجة تحتاج فقط للطعام والشراب والسكن، ألم يكونا متوفرين في بيت والدها؟!
فكيف يفتي شيخ للرجل بأن يترك زوجته على عصمته دون عفة، ويذهب هو ليعف نفسه؟ وكيف يمكن لزوج تقي أن يرتضي هذه الفتوى؟
وكان ينبغي على الشيخ وأمثاله من الوعاظ -بدل أن يحرضه على الزواج- أن يخوفه من الله ويذكره بحقوق تلك المرأة، وهذا من الميل الذي نراه في الفتاوى المعاصرة، خاصة حين يترك الزوج لها كل المسؤوليات ويسافر: فتخدم أهله والأولاد وتوصلهم للمدرسة وتدرسهم، وقد تعمل وتنفق؟! وهو يتمتع مع زوجة أخرى
فهل هذه مروءة؟ أو عدل؟ وهل هناك من آية أو حديث تشرعن لهذا؟
ومن الغبن أنهم يسوغون له الزواج تقديراً لحاجاته، ويُحَرِّمون عليها حتى أن تتصرف وحدها بالعادة وتكفي نفسها بنفسها!
وأما حكم الشرع فلم يرد أن المسافر يتزوج بأخرى، وإنما عليه أن يعود كل مدة لزوجته الأولى، حيث نص الفقهاء على لزوم رجوعه بعد ستة أشهر، مستندين لحديث عمر حين سأل حفصة ابنته كم تصبر المرأة من زوجها فقالت ستة أشهر، فصار بعد ذلك يقفل بعوثه لستة أشهر، فلا يزيد على ذلك إلا إذا تراضا الزوجان واتفقا على سنة أو اثنين أو ثلاث أو أربع.
وبالحقيقة هذه فترة طويلة جداً، ولا يمكن أن تتصبر الزوجة في هذا الزمن المليء بالمفاسد (وإن كانت مأجورة على صبرها).
ومن الفقهاء من جعل لسفر الزوج "ثلاث حالات"، وخلاصتها: إذا غلب على ظن الزوج وظن الزوجة أنها ستقع في الحرام، فحينئذٍ لا يجوز للزوج أن يتغرب. ويخير بين:
(1) البقاء معها
(2) أن يسرِّحها بإحسان
(3) أو يأخذها معه في السفر
(4) وإذا علمت أنها لن تصبر فمن حقها ألا تأذن لزوجها بالسفر. أو تطلب منه العودة.
والنقطة الثالثة وهي الأهم: تعرض كريمة للنقد والنقض، وليس هو المسؤول عن هذه الفتوى، فهو مجرد ناقل. ولو رجعتم للقرن الثاني ولتعريف الزواج في المذاهب الأربعة لوجدتم من أين بدأت القصة؛ ففي كتاب الزحيلي الذي يُدَّرس في سوريا، وانتشر في البلاد العربية، نقل قول الحنفية: النكاح عقد يفيد ملك المتعة بالأنثى قصداً، أي يفيد حل استمتاع الرجل من امرأة.
وفي كتاب "الجزيري" الذي أُلِّف بعناية وزارة الأوقاف المصرية لِيدَّرس بالمساجد، أي ليفقهه الخطباء وينتفعون منه وينقلونه للعامة: "انتفاع الزوج ببضع الزوجة وسائر بدنها من حيث التلذذ، فالرجل يملك بعقد النكاح هذا الانتفاع ويختص به"، ثم فصل الجزيري رأي الفقهاء الأربعة:
الحنفية: "اختصاص الرجل ببضع المرأة وسائر بدنها من حيث التلذذ، فالحق بالتمتع للرجل، بمعنى أنه يجبر المرأة على الاستمتاع بها بخلافها، فليس لها جبره إلا مرة واحدة بالحياة".
المالكية: "عقد على مجرد متعة التلذذ بآدمية، والانتفاع بالمرأة (والمرأة لا تنتفع بالرجل)"، وهو تعريف ابن عرفة (ت 803). ويقـول ابـن العربـي: "بـل وجـب الصـداق علـى الـزوج ليملـك بـه السـلطنة علـى بُضِع المـرأة، وينـزل معهـا منزلـة المالـك مـع المملـوك فيمـا بـذل مـن العـوض فيـه، فتكـون منفعتهـا بذلـك لـه… ولا تفـارق منزلهـا إلا بإذنـه، ويتعلـق حكمـه بمالهـا كلـه حتـى لا يكـون لهـا منـه إلا ثلثـه، فمـا ظنـك ببدنهـا".
والراجح عند الشافعية: "الرجل هو الذي ينتفع بالمرأة، وبالتالي من حقه مطالبتها بالعلاقة، ولا يحق لها مطالبته به إلا مرة واحدة بالحياة، لأنه العلاقة حقه وحده، وأضافوا: والأولى أن يحصنها (يعني هو تفضل منه وليس بواجب).. فالاسـتمتاع حـق لـه إن شـاء اسـتوفاه وإن شـاء تركـه كسـكنى الـدار المسـتأجرة؛ ولأن فـي داعيـة الطبـع مـا يغنـي عـن إيجابـه".
وهكذا قام فقه النكاح -أساساً- على الجنس والمتعة وللرجل فقط، وهذا التعريف كانت له آثار كبيرة جداً على الفتاوى الزوجية، فالحكم فرع عن التصور، فترتبت عليه أحكام شرعية كثيرة جداً:
ففي المغني (238/7): وإذا سافرت الزوجة في حاجتها لتجارة أو عمرة أو حج ولو بإذن زوجها سقطت نفقتها، ورجح ذلك لأن القَسَم للأنس والنفقة للتمكين، وقد تعذر ذلك!؟
وأصبح "سفر الرجل" من موجبات التعدد! هكذا بلا ضوابط (أقصد ولو كان هو المفرط).
– واتفقت المذاهب الأربعة أنه ليس لها علاج، لأنه يملك منفعتها فقط، وإذا مرضت تعطلت، وبالتالي لم يوجب المالكية النفقة على المريضة مرضاً شديداً، ومن في حالة النزع!؟ ولم يوجبوا النفقة على التي بها عيب يمنع الوطء إلا إذا تلذذ بها بطرق أخرى وكان عالماً بالعيب (الجزيري 567/4).
وفي المغني كتاب عِشرة النساء (من 224/7): الاستمتاع حق للزوج، ولذلك يجوز له أن يجبر المرأة على أشياء وأن يمنعها من أشياء، مثل أكل البصل والثوم (وفي قول "لا يمنعها"). وفي كشاف القناع: "وَلَهُ إجْبَارُهَا عَلَى (أَخْذِ شَعْرٍ وَظُفْرٍ تَعَافُهُ النَّفْسُ وَإِزَالَةِ وَسَخٍ) لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ كَمَالَ الِاسْتِمْتَاعِ… (وَتُمْنَعُ) الزَّوْجَةُ (مِنْ أَكْلِ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ كَبَصَلٍ أَوْ ثُومٍ وَكَرَّاتٍ) لِأَنَّهُ يَمْنَعُ كَمَالَ الِاسْتِمْتَاعِ"، فللزوج حق التمتع "بأكل البصل" و"مواقعة الزوجة"… ثم لا نجد ما يفيد مراعاة خاطر الزوجة ولا نجد ما يسوغ لها أن تمنعه.
والذي حدث فيما بعد أنهم غيروا تعريف الزواج، فأصبح "عقد يحل المتعة لكلا الطرفين"، وأكد ابن تيمية وغيره على حق الزوجة بالعلاقة، وأن عليه أن يكفيها. وبدلوا تعريف الزواج، فأصبح "عقد يحل لكل من الزوجين الاستمتاع بالآخر"، ولكنهم لم يرجعوا لتلك الأحكام التي اعتمدت على التعريف الأول، وهي كثيرة، ولم يغيروها بعد أن تغير تصورهم لأصل الزواج. وهنا القضية التي نريد ونطلب من الفقهاء العودة عليها لأن فيها ميلاً واضحاً.
والنقطة الرابعة والتي كان فيها الغبن الأكبر من كلام كريمة: "يجب على الزوجة أن تضع الشريعة الإسلامية أمام عينها في كافة مواقف حياتها، لذا يجب عليها إعانة زوجها على الزواج، وتعتبر هذا العمل قربة من الله سبحانه وتعالى"، والرجل أليس عليه أن يضع حقوق زوجته نصب عينيه؟! وأليس عليه إعانتها على العفة؟
فهذه الأفكار والاقتراحات فيها تحيز، ولعب بعواطف النساء، وصرف القضية لتبدو وكأنها فرض وواجب، والزوجة ترفض وتتملص وتراوغ، وتتطاول، وكأنها عاصية لله أو معتدية فتحرم زوجها المسكين!؟ ولا أدري لماذا يستمر الضغط على النساء بفكرة "الصبر"، و"الترغيب بالثواب" وكأن الجنة لهن وحدهن عند الخلافات؟! فالرجل ألا يرغب بالثواب؟ ألا يريد الجنة، فلماذا لا يتصبر هو، ولا يضحي هو؟!
خاصة وأن الزوج أيضاً لو صبر يُثاب، واتفق الفقهاء على أن الزوجة الواحدة أفضل له للدنيا والآخرة، وقالوا: "وإن ترك التعدد حفاظاً على مشاعرها ، فيؤجر على ذلك".
ورحم الله جدي علي الطنطاوي حيث كان يرى زوجة واحدة تكفي، وكان يخذّل عن التعدد مهما كان السبب، وكان يقول ذلك على الملأ في برامجه التلفزيونية والإذاعية، رداً على كل من يراسلونه ويستشيرونه بالأمر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.