يشهد المجتمع التونسي والدولة التونسية تحولات كبرى منذ اندلاع الثورة التونسية سنة 2011 إلى اليوم، وهي تحولات لم تشهد نهايتها بعد، ولا أعتقد أنها ستصل لحدها الأقصى قريباً؛ لأن التاريخ يكشف أن كل تحول اجتماعي يتطلب سنوات طويلة حتى يتخذ شكله النهائي المستقر، كما أنه يشهد أيضاً منعطفات وطفرات قد تبدو مهددة له أو متناقضة معه، في حين أن ذلك في الحقيقة تطور "طبيعي" في الحركة التاريخية للمجتمع.
ويعد حدث 25 يوليو/تموز 2021 أحد تلك الطفرات في الحركة التاريخية التطورية للثورة التونسية، وما تؤسس له من تحول اجتماعي جذري قد يحتاج زمناً، ولكنه سيصل لحالة الاستقرار في النهاية، مثله مثل كل الحركات الجذرية التي شهدها المجتمع البشري.
حركة المؤسسين
في ندوة وقعت في مؤسسة التميمي لفهم ما حدث يوم 25 يوليو/تموز 2021 أسسها أحد المشاركين في الحدث، وهو السيد رضا مأمون، الذي قدّم نفسه بوصفه أحد أعضاء حركة "المؤسسون" الـ40)، والتي تمثل النواة الصلبة لمشروع الرئيس قيس سعيد حول الديمقراطية المباشرة والبناء القاعدي الذي يهدف أساساً لبناء علاقة مباشرة بين الشعب وحكامه، بعيداً عن الوسطاء، وهو يحاكي العلاقة القائمة بين الله والبشر طبقاً للتصور الإسلامي، فكما أنه لا واسطة بين الله والإنسان، يجب ألا تكون هناك واسطة بين الدولة والشعب، وعلى صاحب السيادة الحقيقي أن يمارسها بشكل مباشر بعيداً عن القوى، التي نصبت نفسها وسيطاً بينه وبين مؤسسات الدولة، وهو أمر يتطلب التخلص من الأجسام الوسيطة التي يعدها المؤسسون مثل الفيروسات التي تسللت للجسم لتهدد بقاءه، ولذلك وجب التخلص منها أو تحييدها ووضعها في العزل. إنه عمل يشبه عمل جهاز المناعة في الجسم؛ فكأن المؤسسين هم جهاز المناعة الذي استعد منذ 2012 ليخلص الجسم من الفيروسات التي تهدد وجوده.
إن مشروع حركة المؤسسين، وهي حركة سرية تشكلت مباشرةً بعد تشكيل هيئة تحقيق أهداف الثورة، وزادت الحاجة إليها طبقاً لمؤسسيها بعد انتخاب المجلس التأسيسي، والبدء في مناقشة الدستور الجديد الذي رأى فيه المؤسسون انحرافاً عن أهداف الثورة، واستيلاءً على سيادة الشعب، وتحويله لمجرد ناخب نستدعيه كل 5 سنوات لنتخلى عنه طيلة السنوات الـ5 اللاحقة، وهكذا دواليك، في حين تحولت مؤسسات الدولة لخدمة طبقة سياسية جديدة حلّت محل القديمة، وورثت كل فسادها بتحالفها مع داعمي الطبقة السياسية أنفسهم، تلك التي ثار عليها الشعب؛ لقد عدت حركة المؤسسين، كما يقول نوفل سلامة، أن ما حصل في تونس ليس بثورة؛ وإنما هو محاولة للهيمنة القديمة، ومواصلة في حماية المصالح الاقتصادية والمالية، التي كانت تحكم تونس لعقودٍ من الزمن، وتعود إلى ما قبل الاستقلال، فما حصل من إزاحة للرئيس بن علي، كان في جوهره التخلص من شخص جيء به إلى الحكم لحماية المصالح الأجنبية، ولما تأكدوا أنه لم يعد قادراً على حمايتها، وأنه أصبح يشكل تهديداً لها؛ أزيح بطريقة توهم بأن الشعب قد أزاحه من خلال ثورة شعبية.
الهدف من حركة المؤسسين إنما هو هدم كل شيء، وإعادة البناء على قواعد وأسس جديدة، وبأدوات جديدة؛ لذلك لا حاجة في عملية البناء القاعدي الجديد للأجسام الوسيطة، ولا للنخب المرتبطة بها؛ لأنها أسست لديمقراطية مغشوشة، وأوهمت الشعب بأنه صاحب السيادة، في حين أن القرار السيادي للدولة التونسية مرتهن لدى السفارات الأجنبية؛ ولذلك تعد السيادة الوطنية من أهم أهداف الحركة؛ لأنه دونها لا يمكن الحديث عن كرامة وطنية ولا عن توزيع عادل للثروة التي يجب أن تعود للشعب صاحب السيادة الحقيقي، وتحقق هذا الأمر يتطلب الهدم الجذري لمؤسسات الديمقراطية الوهمية، وإعادة بنائها طبقاً لقواعد ومناهج وأدوات جديدة، تجعل من الشعب السيد الحقيقي والفعلي، ومن إرادته تنبع كل إرادة، وله القرار النهائي في تحديد من يحكم طبقاً لدستور جديد، وقانون انتخابي جديد، على أساس الفرد لا القائمة، وهو المشروع الذي انطلق فعليّاً قبل تأسيس حركة المؤسسين، وذلك من خلال مجموعة يسارية يقودها رضا شهاب المكي المشهور بـ(رضا لينين)، وسنية الشريطي اللذيْن أسسا "رابطة تونس الحرة"، التي أصَّلت فكرياً مشروع البناء القاعدي الذي يدافع عنه الرئيس، والتي قامت بالبناء النظري لفكرة الانتخابات على الأفراد، والتصعيد الانتخابي من الأسفل إلى الأعلى، وفكرة المحليات، والمجالس الجهوية، ومراجعة نظرية الديمقراطية التمثيلية، والتنظير للديمقراطية المباشرة، وفكرة سحب الوكالة عن النائب عندما يخلف وعده الانتخابي.
لقد جمعت حركة المؤسسين جماعة متنوعة أيديولوجياً؛ فمنهم اليساري والقومي والإسلامي التقدمي والمحافظ والمواطن البسيط الذي لا يفقه شيئاً في النظريات السياسية، ولذلك نجد الأستاذ الجامعي والمفكر والشاعر والمدرس والممرض والطبيب والعامل اليومي البسيط وتاجر القماش والحارس والإعلامي، وغيرهم، قد اجتمعوا ليشكلوا هذه الحركة التي تشبه الجماعة السرية القديمة، لتخطط منذ 2012، وتشتغل في هدوء وبعيدةً عن الأضواء وفي الفضاء العام الحقيقي بين الناس؛ حتى حققت هدفها في إيصال أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد لرئاسة الجمهورية حين حولته لرمز لدى الشباب التونسي للتغيير المنشود أمام طبقة سياسية مهترئة، وفاسدة، ولا تملك أي بديل للمعاناة اليومية للناس، وزادت الأمر سوءاً حين حولت المجلس النيابي لحلبة مهرجين.
السموم القاتلة
قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [الحجرات:13].
قال النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، في خطبة الوداع: "يا أيُّها الناسُ، إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ، ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى؛ إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ".
يتعرض المجتمع التونسي لمجموعة من السموم القاتلة التي تهدد وجوده وبقاءه، وتنذر بالفناء والخراب والدمار، وهي الفساد والجهوية والعنصرية التي استفحلت، وزادتها الأزمة السياسية اشتعالاً؛ لأن السياسيين من كل الطوائف السياسية (هناك طوائف وليست أحزاب)، يوظفون هذه السموم لخدمة مصالحهم دون اعتبار لمصلحة الشعب التونسي؛ ولذلك نلحظ نمواً تصاعديّاً لخطاب الكراهية والحقد الأعمى.
إن الفساد المتغلغل في مؤسسات الدولة هو السم القاتل للأوائل؛ الذي بدأ يقترب تدريجيّاً من القضاء النهائي على الجسم التونسي، خاصةً مع انشغال السياسيين جميعاً، حكماً ومعارضة، في السجال السياسي دون أن ينتبه أحد أن الدولة تنهار اقتصاديّاً واجتماعيّاً وقيميّاً؛ بسبب سريان سم الفساد في جسمها، ولعل المنتصر يوماً سيدرك حين النصر أنه يجلس على سفينة متداعية لا أمل في إنقاذها؛ لقد ساند الكثير من الناس حدث 25 يوليو/تموز 2021 على أمل الحصول على التلقيح المناسب لهذا السم القاتل، ولكن بعد شهور عديدة فقدَ الكثير من الناس الأمل في حصول ذلك، وهم يشاهدون الرئيس منشغلاً انشغالاً كاملاً في التأسيس لمشروعه، دون النظر في الجسم الذي يتداعى وبحاجة لإنقاذ سريع.
الجهوية والعنصرية شيء واحد، فلا فرق بينهما؛ فكلاهما استعلاء على الغير بسبب الانتماء لجهة معينة أو اللون، فالأبيض يتمثل نفسه أفضل من الأسود والأسمر، والجهوي أيضاً يتمثل نفسه أفضل من الجهات الأخرى، ويرى في ذاته عظمة، في حين يرى في الآخرين دونية، قد تجعلهم حسب تصوره الفاسد دون مستوى البشر؛ إن الجهوية بلاء وسم قاتل، يهدد كيان المجتمع التونسي بالفرقة والتفكك والتشتت، وهي خطر؛ إذ كانت في مؤسسات الحكم في الدولة أو المؤسسات العامة كمؤسسات الصحة والتربية والتعليم أو في غيرها من المؤسسات، وتصبح أكثر خطورة حين توجه الإعلام والأحزاب، بل تتحكم حتى في البحث العلمي الذي يصبح هدفه الانتصار لجهة على حساب بقية الجهات؛ إن الجهوية سم قاتل في تونس، كان وراء التفاوت الاقتصادي بين جهاتها، وتفقير الداخل التونسي وتهجير السكان من مناطقهم نحو مناطق عُدَّت محظوظة؛ لأنها قريبة من دوائر الحكم السابقة.
إن الجهوي والعنصري يظنان أن خلقهم متميز، وكأنّ لهم إلهاً آخر غير من خلق البشر متساوين كرامة وحرية ولا فرق بينهم إلا في التقوى؛ فلا أحد اختار مكان ولادته ولا الأسرة التي ينتمي إليها ولا لونه أو جنسه، بل هي أمور تخرج عن إرادة البشر ولا خيار لهم فيها، لقد عصى إبليس خالقه؛ لأنه ظن أنه أفضل من آدم: "قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ" [ص:75]، والعنصري والجهوي يظنان نفسيهما أفضل من خلق الله وأعلى منهم درجة لمجرد ولادتهما في مكان، وبلون لا دخل لهما فيه، بل هو من القدر، ولعل المؤسف أن بعض النخب التعليمية والثقافية تمارس مثل هذه الممارسات التي تثبت قدراً من الجهل المركب والتفاهة الفكرية التي لا يمكن أن تصدر عن عقل سويٍّ مدرك للقيمة الحقيقية للإنسان التي تقاس بمدى احترامه للإنسانية وتقديره لما تمثله الاختلافات من إثراء للهويات الإنسانية عامة، فما بالك بأهل وطن واحد مصيرهم واحد، وبقاؤهم واحد، إن العنصري والجهوي مثله كمثل "الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً" [النحل: 92].
إن الفاسد والجهوي والعنصري لا يتورعون عن أي فعل لا أخلاقي لتحقيق أهدافهم، بل لعل بعضهم يبرر فعله انطلاقاً من قواعد شرعية وقانونية تذكرنا بما تقوم به داعش من تأصيل لتبرير ذبحها لخلق الله باسم الله الذي حرم قتلهم دون حق: "مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ" [المائدة: 32].
إن هذا الثالوث يمثل خطراً جاثماً يهدد المجتمع التونسي ووحدة تونس، وينسف أسس العلاقات الاجتماعية التونسية القائمة على الأخوة، والتي تجلت في أفضل صورها في الليالي الأولى للثورة التونسية، حين توحد المجتمع لحماية نفسه من كل المخاطر التي تحدق به؛ تلك هي تونس التي نريدها حيث تكون المحبة هي العروة الوثقى بين التونسيين جميعاً، وتكون الإنسانية هي التي الربطة بيننا وإخوتنا الأفارقة وغيرهم من خلق الله، فالله خلق الكل متساوين في الكرامة والحرية، ولا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله، واحترام الذات البشرية من تقوى الله، والكبر مذموم لدى الخالق والخلق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.