قبل وفاته يؤكد الدون فيتو في فلم "العراب" لابنه وخليفته مايكل بأن "رجال الدون بازيني سيطلبون عقد اجتماع، وفي هذا الاجتماع سيتم اغتيالك".
في لحظة دهشة من الابن يعلمه الأب بأنهم سيطلبون وساطة أحد شركائنا، وهذا الشريك خائن. وبالضبط يحدث ما توقعه الدون، وفي هذا المشهد يُصعق الخائن "تيسيو" باكتشاف أمره، ويحاول كسب تعاطف محامي العائلة "توم".
تيسيو في نهاية المشهد يحاول إقرار أن "المسألة مسألة عمل وليس مسألة شخصية".
لطالما تأملت في هذه الجملة التي تتكرر كثيراً وتتناقلها ألسن رؤساء المافيا، ففي عالم المافيا ليس هناك مجال لروابط الصداقة المتينة كما نعرفها، رغم أنها أحد أسس بناء المافيا، إذ إن خيانة أحد أصدقائك واردة للغاية ومتوقعة، وحين نتأمل الأمر نجده ليس مسألة شخصية!
هنا أقف، ما معنى هذا؟ أيعني أن المصلحة تتجاوز الصداقة؟
في عالم المافيا تتداخل عوالم وأحداث تجعل الخيانة فعلاً مبرراً، خاصة إن كان مبررها حفظ العائلة من التشتت، وبالتالي يبقى الحب والصداقة هما المصدر الأساسي للخيانة، ولا تصبح الخيانة كرها ولا حقداً؛ بل جزءاً من اللعبة يجب تقبله والموافقة عليه قبل دخول اللعبة، وهكذا رأى تيسيو الموقف.
في عالمنا الواقعي تحدث خيانات لا تعد ولا تحصى، لا يمكننا قبولها مهما كان، فلن يستطيع الخائن القول إنها "مسألة أعمال"، فهناك أخلاقيات تضبطنا، ولو أن البعض تجاوزها فإن ذلك لا ينفي وجودها وأهميتها للفرد والمجتمع.
هل خان مبابي الريال؟
في عالم كرة القدم اضطربت جماهير ريال مدريد، ودخلت في حالة من الصدمة، بعد إعلان خبر تجديد كليان مبابي عقده مع فريق باريس سان جيرمان.
اللاعب الفرنسي كما صرَّح فضّل البقاء في فرنسا لأسباب شخصية، فسّرها البعض بتدخل الرئيس الفرنسي ماكرون، الذي أقنع مبابي بالاستمرار مع فريق العاصمة، وهو ما راج قبل الإعلان حتى، ولا أشك في دور الرياضة ونجومها في إشعاع الدول والمدن، فمن هذا الذي ينفي أن فريق برشلونة هو أساس شهرة المدينة الإسبانية، ولهذا رأى الفرنسيون في رحيل اللاعب خسارة، لا للفريق فقط، بل للدولة، وفي المقابل مكسب لمدريد وإسبانيا.
جماهير الريال لم تتقبل الأمر، واعتبرته خيانة عظمى يستحق صاحبها اللعن، وهكذا الصحف المدريدية، من قولها إنه لاعب واعد إلى لاعب لا يجيد سوى الركض، ومن أهم القطع التي تنقص المنظومة إلى "لدينا رودريغو" وهلم جراً.
كذلك المشجعون وعبر وسائل التواصل الاجتماعي غيروا نبرتهم ونظرتهم للاعب، فأضحى بين ليلة وضحاها من محبوب تتغنى به القصائد إلى منبوذ تطارده اللعنات، ولعل أغرب ما قرأته هو قول أحدهم إن "مدريد لم يرده، بل هو الذي أراد القدوم!".
من صغره ومبابي يحلم باللعب في الريال، لكن الريال كذلك يحتاج اللاعب، وكان متحمساً للتوقيع معه، ومتفائلاً بشأن الصفقة، وهذا ما فسّر ردة فعل الجماهير والإعلام وحتى رئيس النادي، الذي تحدث عن أن حلم كليان مبابي باللعب لصفوف النادي لن يتحقق بعد الآن، حيث اعتبر تمديد عقد اللاعب مع فريقه إهانة للنادي وتاريخه، وكذلك لشخص بيريز.
لكن مبابي لا يرى -على قول المافيا- في الأمر "مسألة شخصية" بقدر ما هي قضية عمل، فالتمديد هو في النهاية عقد عمل، والفتى يحق له تمديده إن وجد أن العقد يفي بشروطه، وهذا ما كان؛ ولهذا أرى أن بكاء جماهير ريال مدريد صبياني، وغير عقلاني، أما تهمة الخيانة التي أُلصقت باللاعب فهزلية، وخاصة أنها أتت من بعض اللاعبين أيضاً ككريم بنزيما، الذي نشر ما يوحي بخيانة مبابي للريال!
يرى البعض أن مبابي قد قضى على حلمه باللعب بصفوف النادي الملكي، بينما يرى هو وغيره أن سنه الصغيرة وعقده الذي ينتهي في 2025 يمكنانه من حجز مكان له ضمن أساطير النادي في سن لن تتجاوز 26، وأعتقد أن السن لعبت دورها في عدم انتقال اللاعب، ناهيك عن أن تصريح رئيس الريال بشأن عدم السماح لمبابي بالانتقال مستقبلاً متسرع، وهو نتاج عدم تقبل الموقف، وحين تهدأ الأجواء فلا بد وأن يعود الرئيس لصوابه، وبالتالي النادي سيكون دائماً المكان الذي يرحب بمبابي، خاصة أن الصفقة مجانية.
هل يقتلنا الشغف؟
كثيرون تحدثوا عن أن شغف كيليان مبابي هو اللعب في مدريد، وبهذا أضحى بعد تجديد عقده "الفتى الذي لم يتّبع شغفه"، وكأن الشغف مسألة حياة أو موت، لهؤلاء سأسرد نماذج للاعبين اتّبعوا شغفهم وحبهم لكرة القدم ولم ينجحوا.
أبدون بورتي: لاعب منتخب أوروغواي الذي بزغ نجمه مطلع القرن العشرين مع فريق ناسيونال، ومثل منتخب بلاده كان أحد أهم لاعبي الدفاع بقميصه رقم 4، اشتهر المدافع بصلابته وخفته وقدرته على التسجيل أيضاً.
كانت كل الأمور جيدة إلى أن أصيب اللاعب في ركبته، فتراجع مستواه بشكل ملحوظ حتى بدأت الجماهير تهزأ به وتطالب برحيله، وها هو بعد أن كان شعلة من النشاط يتحول كما وصفته الجماهير إلى سلحفاة، وبعد كل الشهرة والمجد يجد نفسه منبوذاً، فلم يتحمل الرجل ذلك، وخاصة بعد أن أخبره رئيس النادي بالاستغناء عنه.بعد آخر مباراة في الدوري، وبينما يحتفل الكل عاد بورتي إلى الملعب، واسترجع ذكرياته، وفي لحظة تشتت أمسك المسدس وأطلق النار على نفسه.
في الغد وجدوه ملقى على وجهه وبجانبه رسالة كتب فيها:
"سيد خوزيه ماريا دلجادو، أسألك أنت وأعضاء النادي أن تعتنوا بعائلتي وأمي كما كنت أعتني بهم دوماً، وداعاً يا صديقي العزيز. صديقك بورتي".
مازالت ذكراه قائمة في البلاد، لأن مأساته أكبر من أن تُمحى، فهو الفتى الذي قتله شغف كرة القدم.
نيمار
أحد أهم مواهب كرة القدم التي راهن عليها الجميع، بسبب سرعته ومهارته في التحكم بالكرة، كان الفتى البرازيلي مطلوباً من أعظم أندية أوروبا.
في سنة 2013 كان بين ريال مدريد واللاعب اتفاق شبه رسمي، إلا أن العملية تعطلت لأسباب شخصية، وهكذا لعب الحظ لعبته في مسيرة الفتى الذي سينتقل إلى كبير إسبانيا نادي برشلونة، في صفقة مدوية، وصلت قيمتها الإجمالية إلى 90 مليون يورو.
استطاع اللاعب البروز بشكل لافت مع النادي، خاصة أنه يضم أهم لاعب في تاريخ كرة القدم؛ ليونيل ميسي، وكذا المهاجم الأورغوياني لويس سواريز، الذي سيصل بعد كأس العالم 2014، بالتالي لم يجد نيمار أي صعوبة في الاندماج في الفريق، وكوّن ثلاثية مرعبة MSN، توجت بدوري الأبطال في عام 2015.
في لقاء الإياب، على ملعب "كامب نو"، كان برشلونة يواجه فريق نيمار الحالي باريس سان جيرمان وهو متخلف بنتيجة أربعة مقابل لا شيء، وعليه تحقيق معجزة للعودة والمرور نحو الدور نصف النهائي، ومع بداية المباراة سجل سواريز هدفاً مباغتاً أحيا أمل الفريق الإسباني، ثم ضاعف إنيستا النتيجة، والباقي تعرفونه.
في هذا اليوم قدّم نيمار واحدة من أعظم مبارياته، لقد فعل كل شيء، سجّل هدفاً من ضربة حرة مستحيلة، ومرّر هدف الخلاص إلى سيرجو روبيرتو بطريقة ساحرة،
لكن الجماهير كانت تهتف باسم ميسي، هذا الأمر الذي أحزن نيمار كثيراً، فهو يرى أن الجماهير لم تقدره ولم تقدر أداءه، وفهم جيداً أن البقاء في برشلونة يعني البقاء تحت ظل ميسي، فقرر أسوأ قرار في حياته، قرر الرحيل.
كان بإمكان نيمار التوقيع لريال مدريد والحصول على أموال أكثر، ولكنه فضل اتباع شغفه في اللعب للبرسا، فقتله رياضياً شغفه، وها هو اليوم تحول من لاعب محبوب إلى لاعب مكروه، ومن لاعب يصنع المجد إلى لاعب تُحمّله الجماهير انتكاسات الفريق.
وحتى بعيداً عن كرة القدم لا يجب أن نتبع شغفنا وقلوبنا دائماً، بل أن ننظر إلى الأمور بمنطق عقلي قبل كل شيء، فليس الحكم حكم العاطفة، بل العقل والمنطق.
رسالة إلى جماهير الريال
في عالم كرة القدم من الجميل اتباع شغفك وحبك لفريق ما، ولكن عليك أن تفهم جيداً أن الأمور مرتبطة بأدائك، فالجماهير التي تشجعك وتهتف باسمك في الغد ستجدها تلعنك وتطالب برحيلك، هذا إن لم تهاجم منزلك وعائلتك.
لهذا -بالنسبة لي- لا يمكن لوم مبابي أو لاعب آخر على عدم انضمامه لفريق أحلامه، فهي في النهاية لعبة لا أكثر ولا أقل، والعلاقات فيها مبنية على أخذ وعطاء.
ورغم أن البعض سيقول إنها تُعلب بالروح والحب وخلافه، فهذا لا ينفي كونها اليوم "اقتصاداً وأعمالاً" أكثر من كونها حباً وشغفاً، وقد يلعب اللاعب مع فريق يكرهه، ويدرب المدرب فريقاً كان يصرح بأنه لن يدربه طيلة حياته، كما حدث ودرب أنشيلوتي يوفنتوس، وأقيل بين الشوطين، في سابقة لم تعهدها كرة القدم.
بالتالي، فلننظر إلى مواصلة مبابي في باريس على كونه مسألة أعمال لا مسألة شخصية، وكفى بكاءً ونحيباً يا جماهير الريال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.