طه حسين في “قبض الريح”!

عربي بوست
تم النشر: 2022/05/26 الساعة 09:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/26 الساعة 09:15 بتوقيت غرينتش

كان المازني يقول إن الخلاف بينه وبين طه حسين طويل ويتعلق بأصول المسائل. وفي كتابه "قبض الريح" (1927) الذي جمع المازني جزءاً كبيراً من كتاباته في نقد طه حسين. وفيه يشير المازني إلى أن أول هذه الأصول يتعلق بالأسلوب. 

ومباشرة يصرح المازني بأن أسلوب طه حسين "خطابي أكثر منه كتابي". والخطابة كما قال فن مختلف جداً عن فن الكتابة. وسبب ذلك -كما يرى المازني- أن طه حسين يُملي كتبه ومقالاته، ولذا تكون جمله قصيرة ويغلب عليها كثرة التوكيد والتكرار، وذلك التماساً للتأثير. ولو أن طه حسين ألقى هذه المقالات ولم يكتبها، لما جاءت إلا كما هي الآن. 

ومعنى هذا أن المازني يُخرج ما يُنشر لطه حسين من عالم الكتابة إلى عالم الخطابة؛ حيث لا يرى فيه إلا خطباً شفهية مدونة، ومن هنا سطحيتها وسهولة محاكاتها، كما يقول المازني. 

وطبعاً هذا حكم مجمل يحتاج لشرح وتفصيل؛ لذا يكتب المازني مقالته عن "الخطابة والكتابة" والتي يرى فيها أن أقوى الخطباء تأثيراً في نفوس الجماهير هو أقربهم إليها وأشبههم بها والذي يستطيع النزول لمستواها، ويكون ذلك عن طريق الألفاظ المبتذلة أي المعتادة التي ألفت الجماهير سماعها والتي لا تكلفهم مشقة الفهم. ومن هنا لم تكن بالخطيب حاجة إلى العمق أو الابتكار كما هو الحال مع الكتابة. ولأن ما ينشر لطه حسين أقرب للخطابة منه للكتابة فهو غير بعيد الغور أي سطحي، ويفقد ككل الخطب كثيراً من قوته وتأثيره في نفوس الناس حين يقرأونه. 

وهذه الجزئية ترتبط بسهولة المحاكاة؛ فالخطابة -كما يرى المازني- من أخلى الأساليب من المياسم الشخصية والميزات الخاصة التي يختلف بها كاتب عن آخر. ويشرح ذلك بأن الأسلوب صورة من النفس، ولكل ذهن التفاتاته الخاصة وطريقته في تناول المسائل وعرضها، "وكلما كانت هذه الخصوصيات أوكد وأعمق، كانت المحاكاة أشق والإخفاق فيها أقرب، فهي لا تسهل إلا حيث يكون الأسلوب خالياً من الخصائص التي ترجع في مردِّ أمرها إلى النفس وما ركبت عليه وانفردت به". 

ويركز المازني على جزئية "التكرار" لدى طه حسين، ويضيف إليها "الحشو"، ويرى أنهما أظهر عيبين فيما ينشر لطه حسين. ويعود المازني لجزئية "الحشو" في مقالته عن كتاب "في الشعر الجاهلي" الذي يقول فيه كلاماً يبدو كالمديح؛ ولكنه يؤيد رأيه هنا؛ فهذه الرسالة "جاءت على خلاف عادة الدكتور خالية من كثير من حشوه المألوف". 

ويُرجع المازني هذا "الحشو المألوف" فيما ينشره طه حسين إلى سببين جوهريين: 

أولهما أن طه حسين "أستاذ مدرس وقد طال عهده بذلك، والتعليم مهنة تعوّد المشتغل بها التبسط في الإيضاح والإطناب في الشرح، والتكرير أيضاً، بل تفعل ما هو شر ذلك: وأعني أنها تدفع المرء عن الأغوار والأعماق إلى السطوح. وبعبارة أجلى تضطر المدرس أن يتجنب التعمق والغوص، وأن يكتفي، ما وسعه الاكتفاء، بما لا عسر في فهمه ولا عناء في تلقيه. وتلك آفة التدريس ولولا أني أعرف كلفه به وإقباله عليه وهشه له، لدعوت له الله أن يريحه منه كما أراحني". 

أما السبب الثاني والأخير "للحشو" فيما ينشره طه حسين فهو فقده لبصره، وهنا يقول المازني بجرأة ودون مواربة: "ليس يخفى أن المرء إذا حيل بينه وبين المرئيات ضعف أثرها في نفسه، ولم تعد الكلمة الواحدة تغني في إحضار الصورة المقصودة إلى ذهنه بالسرعة والقوة الكافيتين، فلا يسعه فيما نعتقد إلا الإسهاب ومحاولة الإحاطة ومعالجة الاستقصاء والتصفية". 

وعن هذه الجزئية تحديداً يخصص المازني مقالته عن "العمى والغريزة النوعية" والذي يعرض فيه لأثر العمى في مزاج الإنسان وتفكيره وإحساسه بالحياة والناس. وهنا يضرب الأمثلة من شعر المكفوفين كبشار والمعري، ويقارنه بشعر المبصرين حول الموضوعات نفسها. ويركز على موضوع المرأة تحديداً، وكيف أن الكفيف تستوي عنده النساء لأن ما بقي له من أدوات التميز كالسمع واللمس والشم لا تغني بل قد تضل. 

ورغم أن القارئ يفهم المقصود بكل هذه الإشارات والتلميحات الكثيرة إلا أن المازني أبى إلا التصريح فقال: "كذلك الدكتور طه حسين. لا يرى الدنيا فلا يعرف عن الجمال إلا أنه أنثى يشتهيها الذكور ويصبو إليها الرجال، وهو بطبعه مفراح وقد أقبلت عليه الدنيا ومالأه الحظ فلم يجد التشاؤم مرعى له في نفسه، ولكنه يؤثر الوقار ويميل إلى تقيّل المعري والاقتباس به فيكبح نفسه ويردها على مكروهها، غير أن ما لا يظهر في سلوكه الذي يتوخى فيه الاحتشام، يظهر في كتابته وفي التفاتات ذهنه". 

وهنا ينتقل المازني إلى ثاني الأصول التي يختلف فيها مع طه حسين وهو أصل فكري نفسي، ويرتبط بسابقه بالطبع. ويبدأ المازني شرح اختلافه هذا بمقالة مفصلة عن التفاتات ذهن طه حسين. وهذه المقالة لشدتها في النقد حُذفت للأسف عندما أعادت الدار القومية طبع كتاب المازني سنة 1960 وهو أمر سنعود إليه بعد قليل. 

ويري المازني أننا حين نكتب فإننا "نترجم لنفوسنا ونحدث الناس عنها ونكشف لهم عن دخائلها". ولذا عندما قدم المازني تحليله لكتاب "حديث الأربعاء" قدمه بحديث له متخيل مع "سِحْلية" تسأله عن كتاب طه حسين الذي يتصفحه، وتقول له السحلية: "ماذا تخسر الدنيا أو تخسرون أنتم لو فقدتم هذا الكتاب؟!". 

وعلى هذا السؤال السحلاوي يدير المازني بقية مقالته تلك فيطبق سؤال السِحْلية على كتاب "حديث الأربعاء"، ويصل إلى نتيجة مؤداها أن طه حسين "لم يزدنا علماً بالعصر العباسي ولم يضف إلى ما نعرفه عنه جديداً، فلو لم يكتب هذه المقالات لما فاتنا شيء يذكر من هذه الناحية. ولكن هذه المقالات كشفت عن جانب من جوانب نفسه هو، لم يكن يتأتى لنا العلم به والاطلاع عليه لو فقدنا هذه المقالات. وهذا هو الذي ربحناه". 

أما هذا الجانب التي كشف فيه طه حسين عن نفسيته فيتمثل في التفاتات ذهنه؛ فطه حسين -كما لاحظ المازني- لديه "ولع بتناول المُجان وأهل الخلاعة من شعراء العرب، وتلخيص القصص التي تدور على الخيانات وما إليها وتسويغ ذلك والاعتذار له. حتى لكأنما يحاول أن يقول بلسان غيره ما تلج به الرغبة في الكشف عنه والإفضاء به من مكنونات نفسه". 

أما ثالث الأصول التي يختلف فيها المازني مع طه حسين فيتعلق بالمنهج. ومن يتابع كتابات المازني عن طه حسين -في هذا الكتاب وخارجه- سيلاحظ أن المازني يجد لذة في تتبع تناقضات طه حسين وسقطاته المنهجية مع السخرية من ذلك. ويتجلى ذلك بشكل جيد في مقالة المازني: "طه ومجنون ليلى". وقد حذفت هذه المقالة أيضاً عندما أعيدت طباعة الكتاب سنة 1960 ما يوحي أنه كان في الدار القومية تلاميذ لطه حسين قاموا بتشويه كتاب المازني حباً في أستاذهم!

ورأيي أن هذه المقالة المحذوفة من أطرف المقالات النقدية التي كتبها المازني، ومن أكثرها عبثاً بطه حسين ومنهجه البحثي. وكان طه حسين بسبب طريقته في الشك المنهجي، والتي استعملها بقسوة في أوائل حياته العلمية، قد أنكر أكثر الشعر الجاهلي، بل وأنكر وجود بعض الشخصيات التاريخية المهمة. والآن يواصل هذا في كتابه "حديث الأربعاء" وينكر وجود مجنون ليلى، ويقول إنه ليس شخصاً حقيقياً ولكنه طائفة من القصص التي ابتكرها الرواة، ودليل ذلك أن الرواة تضاربوا في شأن هذا المجنون ما دل على كذبهم! 

ويبدو من سياق مقالة المازني أن الأمر فاق احتماله فأراد -بإيعاز من العقاد كما قال فيما بعد- أن يكون نقده هذه المرة مختلفاً بألا يهاجم هذا المنهج ولكن بأن يطبقه على طه حسين نفسه، فينكر وجوده، ويثبت أنه من مخلوقات الخيال أيضاً، ويقدم الإثباتات على ذلك بمنهج طه حسين وأسلوبه! وهنا يتخيل المازني أن مؤرخاً في القرن الثالث والعشرين تناول حياة طه حسين بطريقة طه حسين ثم تخيل أن النتيجة ستكون كما يلي (وهنا سأورد النص كاملاً بسبب حذفه من الطبعات المتداولة لكتاب المازني): 

"يزعمون أن رجلاً اسمه الدكتور طه حسين عاش بمصر في أوليات القرن العشرين، وأنه صاحب هذه الكتب المختلفة التي نسبوها إليه ونحلوه إياها. ولكن كل ما اطلعت عليه مما يعزى له يحملني على التردد بين رأيين: أحدهما أن يكون هناك أناس كثيرون يتسمون "طه حسين". وثانيهما أن يكون هذا اسماً استعاره فرد أو عدة أفراد لما كتبوه ونشروه. ذلك أنه، على ما روى، أزهري النشأة، والأزهر هذا جامعة إسلامية كبرى يلبس طلابها الجبة والقفطان والعمامة أو ما ماثل ذلك من ثياب العامة في ذلك الوقت مما تجد نماذج منه في المتاحف. فهو على هذا "شيخ". ويقولون إنه كان في صدر أيامه هذه يكتب في صحيفة يومية اسمها "الجريدة" ولكني راجعت مجموعة هذه "الجريدة" في دار الكتب فألفيت أحد أدباء ذاك العصر واسمه "عبدالرحمن شكري" يسميه "طه أفندي حسين" في مقال له. وهو ما لا سبيل إلى حمله على أنه خطأ أو زلة قلم؛ لأن الفرق بين الأفندي والشيخ كان من الوضوح والاختلاف في التعليم وفي النشأة والوسط والزيّ كان من الشدة بحيث لا يعقل أن يقع الخلط بينهما. فهل طه أفندي حسين هو عين الشيخ طه حسين؟.. 

ويعزى إلى طه حسين ولا أدري أيهما؟ مقال بل عدة مقالات في "الجريدة" يدعو فيها إلى تغيير الهجاء ورسم الكلمات. فهل كان الداعي إلى هذا والملح فيه الشيخ طه أو طه أفندي؟ أما الشيخ طه فكان على ما يقولون مكفوف البصر وكان في ذلك الوقت لا يزال طالباً بالأزهر، ومن المعلوم أن طلبة الأزهر كانوا من "المحافظين" ومن أشد طبقات المتعلمين استنكاراً للبدع ونفوراً من أصحابها، وكثيراً ما كانوا يتجاوزون الاستهجان بالقلب أو باللفظ ويتضاربون بما كانوا يتفكهون بأن يسموه "السلاح الأحمر" يعنون به النعال! ولم يُروَ أن الشيخ طه كان من أبطال هذه المعارك الحمراء ولا من ضحاياها، وأخلق به ألا يكون وقد كان كما يزعمون ضريراً. فلو أنه صاحب هذه البدعة والمنادي بها لأصابه رشاش من قذائفها. زد على ذلك أنه ضرير. وما اهتمام الضرير برسم الكلمات؟! ما له ولهذا وهو لا يعانيه ولا يكابد صعوباته؟! إن الاهتمام لذلك والتحمس له أحق بأن يكون من رجل يكابد الكتابة بنفسه لا من كفيف ما عليه إلا أن يُملي. وهو على كل حال خاطر أولى به أن يجري ببال مبصر لا ضرير. فالأرجح في الاحتمال والأقرب إلى المعقول أن يكون هناك شخصان اسم كل منهما "طه حسين" وأحدهما أفندي مبصر يقول الشعر ويدعو إلى تغيير الهجاء، والثانى شيخ ضرير يكتب في الأدب. والآن من هو "الدكتور طه حسين" صاحب "حديث الأربعاء" أهو الشيخ أم الأفندي أم هو لا هذا ولا ذاك، بل شخص ثالث؟ أما أنه أحدهما فإني أقطع بنفيه. وحسبك الفرق بين أسلوب هذين وأسلوب ثالثهما.. فإن الأسلوب صورة من النفس. وهكذا صار عندنا من المشتركين في حمل هذا الاسم ثلاثة أشخاص متباينين: شيخ وأفندي ودكتور. 

ويظهر أن هناك أكثر من دكتور طه حسين واحد. ففي بعض المقالات المعزوة إلى هذا المتسمى "الدكتور طه حسين" تنويه بأن كاتبها كفيف، وفي البعض الآخر ما يفيد بأنه مبصر فهو يقول: "قرأت ورأيت وشهدت"، وما إلى ذلك من الألفاظ الدالة على الرؤية، ويصف لك بعض المشاهد لا تخيلاً بل كما هي كائنة. مثال ذلك بعض رسائل بعث بها من فرنسا وفيها يصف مناظر البلدان، ومقالات عن روايات شهد تمثيلها ولم يقتصر في كلامه عنها على تناول القصة، بل جاوز هذا إلى التمثيل والأداء. وما يؤكد هذا التعدد أيضاً أن لأحد هؤلاء الدكاترة -فإنهم على ما يبدو لى كُثر- أبناء يسميهم أسماء إفرنجية، وإن الصحف المحفوظة في دار الكتب مختلفة فبعضها يقول الشيخ طه حسين، والبعض يذكر الدكتور طه، وواحدة تزعمه أستاذاً في الجامعة، وأخرى صحفياً، ومعروف أن قوانين ذلك العصر لا تجيز أن يكون المرء موظفاً في جامعة أميرية وصحفياً في الوقت عينه. وأحد هؤلاء الدكاترة كان مولعاً باللاتينية واليونانية وكان يلح على وزارة المعارف أن تدرسهما في المدارس الثانوية ولا يكاد يتفق ذلك مع الصبغة الأزهرية الأولى. أضف إلى ذلك أن "الشيخ طه حسين" كان ذا لحية وأن دكتور الجامعة أو الصحفي كان أفندياً حليقاً؛ فالأمر كما ترى لا يعدو إحدى اثنتين: أن يكون هناك أشخاص عديدون لهذا الاسم وهو غير محتمل، أو أن يكون هذا الاسم مستعاراً وهو الأرجح". 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبد السلام حيدر
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
تحميل المزيد